يقف مريض نفسي على باب المستشفى الذي أعمل به، يُشعل سيجارة، يغب منها نفساً طويلاً، ينفث دخانه ويطفئها من جديد، ينظر إلى مجموعة من العاملين في المستشفى يتحاورون وهم يدخنون بنَهَم ويضحكون، يرسم  «المريض» ابتسامة سخرية ويمضي عائداً إلى غرفته في جناحه المغلق لأسباب تتعلق بسلامة المرضى.

لم تكن محاولتي لفهم هذه الابتسامة أمرا يسيراً، غالباً ما يحاول العاملون في الحقل النفسي رؤية الموضوع في إطار أعراض المرض الذي يعاني منه المريض، سأل أحدهم: «هذا مريض أي جناح؟» وتفاجأ عندما أتته الإجابة أنه ينتمي إلى جناح الاكتئاب واضطرابات الشخصية، ربما لأنه كان متوقعاً أن يكون المريض ذهانياً –بمعنى آخر منفصلاً عن الواقع– إذ لربما كان قادراً على تفسير الابتسامة بأنه كان يعيش في عالمه الخاص!!

فاجأتني ابتسامة المريض في وقت أصرف فيه الكثير من التفكير والتأمل بما يجري في سوريا، وما يُطْلِق عليه الأصدقاء مؤخراً، وبحزن ودراماتيكية كبيرة، انحرافاً عن الثورة أو خسارة للثورة –حتى لو سقط النظام– أو ربما نهاية لثورة الحرية التي بدأها شباب متطلع لبلد أفضل، لتسقط أخيراً في أيادي المتشددين المتعصبين الذين، وإن واربوا في البداية ليأخذوا مكاناً لهم في خارطة معارضة النظام، إلا أنهم ومنذ أشهر يصرّحون بأهدافهم الحقيقية التي لا تمتّ بصلة لحلم الحرية السياسية ودولة المواطنة.

أحاول في هذه السطور أن أبحث عما يبلور رؤية تضع الحركات السلفية الجهادية في قلب الثورة السورية، ليس كأهداف ومطالب بل ولا حتى سياق تاريخي منسجم، وإنما كعنوان لمرحلة من مراحل الثورة التي كما أراها عملية جدلية تتغير فيها الوجوه والخطاب والأهداف والأدوات. بلورة هذه الرؤية تحتاج القليل من الصبر والكثير من البرود العاطفي.

في أحد الحوارات التي جمعتني في دمشق مع أحد المفكرين السوريين، دار جدل بيننا عن دور وأهمية، بل وشرعية تفسير السلوك البشري، بما سميناه حينها «عودة المكبوت». الحوار قُطع بسبب الظروف، لكن علق ذهني شيء منه يتعلق باعتراض الصديق على معنى «عودة المكبوت» وابتذاله في أدبيات التحليل النفسي وانتهاء صلاحيته.

أعتقد اليوم أنه من الممكن الاستفادة  من «عودة الكبوت» في فهم السلفية الجهادية وأدواتها، كمكون من مكونات لاوعينا، ربما ليس بمعنى ديني عقائدي، لكن بمعنى التطرف واليأس وإعلاء قدر الموت كوسيلة، بل ربما أحياناً كغاية.

لم تكن التعابير الدينية غائبة عن بدايات الثورة في شعار «الله أكبر» أو دعاء الثورة الأثير «يلعن روحك يا حافظ»، ولا الموت الذي كان ولا يزال يلفّ الصورة كلها ويرافقها برتابة، ومنها «الموت ولا المذلة»، وقال كثيرون في معرض الدفاع عن الثورة ضد من اتهمها بالتأسلم وعدم الوفاء لقيم الحرية –وإن كانت نطقت بها لفظاً– إن التدين جزء لا يتجزأ من تكويناتنا، ومن يطالب بثورة بلا مظاهر للتدين كمن يطالب بشعب جديد وببلد آخر غير سوريا!

بل إن المجازر التي قام بها النظام، وخصوصاً بعضها التي كانت تنطوي على طقوس أقل ما توصف بالوحشية واللاإنسانية، تندرج إلى حد كبير وفق تحليلات البعض في إطار باطني ماورائي، يكشف –حتى لو كان لها هدفاً سياسياً واعياً– العمق الديني للصراع في سوريا.

ألم يكن «المجد الغابر» عنواناً للهزيمة الحضارية للعرب على مدى قرون؟ إذا لماذا لا يحق لنا، وقد استعدنا إمكانية الفعل بعد سنوات الذل والضياع، أن نطالب باستعادة دولة الخلافة، مملكة السماء، دولة العدل السماوي؟ هناك بكل تأكيد ردود كثيرة على هذه التساؤلات، أبسطها وأكثرها تكراراً هي قضية الفارق الحضاري والتاريخي، وهنا برأيي يكمن التناقض الرئيسي في الفكر الجهادي.

هذا التناقض ليس فكرياً فحسب بل هو تناقض نفسي بامتياز، لأن معادل الحضارة النفسي هو الكبت، إذ لا حضارة دون كبت ولا سيادة لقانون دون امتثال الجموع له.

ليس غريباً، إذن، في معرض نزع الكبت عن أحلام سيادة السماء، اعتبار الحضارة وكل من يتحدث باسم العقل وتطور التاريخ سلطة، من يحاول التحدث باسم العقل «آخر» الجهاديين ومصدر السلطة – لنتذكر اعتقال عشرات الناشطين وقتلهم وملاحقتهم والتنكيل بهم. هؤلاء هم ممثلو «الحضارة» التي تطالب الجهاديين بكبت رغباتهم وأحلامهم التي قدموا ويقدمون من أجلها كل شيء.

لربما كان المريض المدخن يسخر في ابتسامته من أولئك الذين يرون مهمتهم في تثبيت الكبت وعودته إلى وظيفته عند أناس –مرضى– فشِل الكبت في إخفاء أعراضهم عن المجتمع.

بقي لي أن أقول، ليس الواحد منا بمضطر للعب هذا الدور السلطوي، وليس مضطراً للتحرج وهو يرسم حدود الاختلاف بين معارضته للجهاديين في سوريا وبين معارضة أمريكا والغرب لهم، بل بإمكاننا أن نأخذ مكاناً أكثر انفتاحاً وأقرب لفهمهم.