منذ البداية لم يكن «الجيش الحر» اسماً واضحاً ومحدداً لكيان عسكري متجانس، كان اسماً فضفاضاً يضم كل المقاتلين على اختلاف مشاربهم ودوافعهم للقتال ضد النظام، لم يكن فيه أبداً تراتبية عسكرية واضحة، ولم يتحرك في أغلب الأحيان وفق خطط عسكرية طموحة تلبي أهدافا واسعة وشاملة، بقدر ما كانت تحركاته وأفعاله عبارة عن تكتيكات محلية لتحقيق أهداف مرحلية، دون هدف عسكري أو (وبكل جراءة) سياسي واضح. اليوم وبعد تشكيل «جيش الإسلام»، ووجود ألوية وكتائب ضخمة، معظمها يحمل هوية اسلامية (تتراوح بين سلفية جهادية إلى جهادية مرحلية بدون ارتباط بفكر سلفي عميق)، فإنه من الصعب إطلاق اسم «الجيش الحر» عليها، بل ربما هي نفسها لم تعد تسمي نفسها جيشاً حراً، بل صارت جيوشاً أخرى. لا ننوي التقليل من قوتها القتالية ولا التشكيك بأجندتها الوطنية (وهي في أحسن الأحوال مبهمة وغير واضحة) فهذا يحتاج دراسة معمقة وشاملة أكثر. لكن يهدف المقال لمحاولة فهم مقارباتها العسكرية وإلى ماذا تهدف في النهاية.
من المعلوم أن الحروب في النهاية هي بشكل ما دليل لفشل الحل السياسي، وأن كل هذه الحروب إنما تهدف بالنهاية لفرض الحل السياسي الذي تريده هذه الدولة أو تلك من جراء الحرب، بحيث يتكون الحل النهائي من قسمين (80-90% حل عسكري مقابل 20-10% حل سياسي)، لكن هذه الـ20-10 هي أهم من الـ80-90 (من الحل العسكري)، بل إن أي إنجاز عسكري على الأرض لا يستطيع أن يفرض حلاً سياسياً، لا يمكن الاعتداد به في نهاية المطاف. لذلك ترى في الدول المتقدمة أن العسكر يتحركون بإمرة الساسة، وأن الجيش في النهاية مهمته تغيير واقع ما لفرض حل سياسي محدد، سواء عبر حرب سريعة أو طويلة، بل إن الكثير من مفاوضات إنهاء الحروب تمت، في حين ما تزال المدافع تعمل لتقدم أوراقاً بيد المفاوضين.
لنرَ الآن حال هذه الألوية والجيوش في الوضع السوري. من الواضح أن هدفها المعلن هو إسقاط النظام، حرفياً، وهذا مطلب كل من يؤيد الثورة، لكنها لتحقيق هذا الهدف لا تطرح طريقاً سياسياً يمكّنها من قطف ثمار انتصاراتها على الأرض، وحتى حين تحاول المعارضة السياسية السورية (على كل علاتها) أن تحصد ثماراً للنجاحات العسكرية، تُكال لها الاتهامات بأنها تسرق إنجازات وتعب المقاتلين، بل وتسرق أيضاً دم الشهداء، ومن هنا لا تعترف هذه الألوية العسكرية بالمعارضة السياسية وتبحث إسقاطها، وتقع المعارضة السياسية في ذات الفخ عندما تتجنّب الحديث لقادة هذه الكتائب وتحاول أن تطرح تصوراتها بعيداً عن الوضع الميداني.
في الحقيقة يجب على قادة هذه الكتائب أن يفهموا أمراً واضحاً، هو أن العالم لا يريد للنظام أن يسقط، خشية من البديل، والذي هو في هذه الحالة جيوشهم، والتي لا يعرف أحد عنها سوى بضعة مقابلات أو بيانات على اليوتيوب، تزيد الغموض بدل أن تُزيله. بناء عليه، فإن هذه الجيوش مدعوّة لتشكيل جسم سياسي لها، من أشخاص يختارونهم هم ويثقون بهم، لكنهم غير مقاتلين وليس بالضرورة أن يكونوا أسماءً معروفة من المعارضة. مهمة هذه التيارات السياسية قطف ثمار العمل العسكري، والتعامل مع الناس والعالم بمنطق السياسة لا منطق البندقية. هؤلاء يمكنهم أن يسافروا إلى دول العالم ويتحدثوا مع المسؤولين فيها وينقلوا وجهات نظرهم وحتى مشاريعهم وخططهم لإدارة البلاد حال إسقاط النظام. الأهم من ذلك أن يخضع العمل العسكري على الأرض لحسابات السياسة، كما ستسير السياسة وفقاً لتطورات العمل العسكري. هذا أمر في غاية الأهمية، وهو ليس بدعاً في حروب التحرير ولا في الثورات ولا حتى في النزاعات الأهلية. طبعاً الأمر المهمّ الآخر، الذي يجب أن يتم أيضاً، هو توحيد هذه الفصائل والكتائب والجيوش، وجعلها جميعاً تعمل في إطار عام واحد، يهدف إلى تحرير كل المناطق، بدلاً من مناطق معزولة. وفشل هذه الكتائب في تحقيق هذا التوحد يشبه فشل المعارضة السياسية في تشكيل كيان واحد قوي يتصرف في إطار واحد وواضح، وبالتالي فلا يجب أن تُنعت هذه المعارضة السياسية بالتشرذم وحده، دون المعارضة العسكرية.
بدون مثل هذه الأجسام السياسية، سيبقى الشك حائماً فوق أي بيان أو مقابلة يقوم بها قادة هذه الجيوش، وستبقى أهدافهم غامضة وغير مطمئنة، والأخطر أنه بدون هذه الكيانات ستبقى أي إنجازات عسكرية على الأرض مكشوفة ولا معنى لها، والأهم أن دماء الشهداء الذين حققوها ستكون معرّضة بشكل كبير للسرقة، وما أكثر اللصوص في هذه الثورة.