تعاني سورية من نقص في الاكتفاء التكويني، على حد تعبير ياسين الحافظ، وقد فصَل ياسين الحاج صالح نقص الاكتفاء التكويني هذا فأرجعه إلى قلق في تكوين الدولة السورية الحديثة يتمظهر في ثلاثة مظاهر هي: قلق التكوين، القلق الجيوسياسي، والقلق الاجتماعي السكاني.
نشأ قلق التكوين بسبب فصل الدولة الناشئة عن أجزائها الطبيعية المكونة لها، والتي تشكل تاريخياً ما يُعرف ببلاد الشام؛ والقلق الجيوسياسي يأتي من وقوع سوريا في بؤرة صراعات وتجاذبات المحاور والتحالفات الإقليمية، كونها عقدة هذه المحاور وبيضة القبّان في ترجيح موازين القوى الإقليمية؛ ويتمثل القلق الاجتماعي في تعدد المكونات الإثنية واللغوية والدينية فيها، والتي كانت قبل نشوء الدولة السورية الحديثة وما زالت مترقبة ومتوثبة ويحملها الشك في تعاملها مع بعضها، ولم تتح لها فرصة الاندماج في هوية وطنية جامعة لأبناء الوطن الواحد، أي –والعبارة للحاج صالح– نشأ بلد اسمه سورية دون وجود سوريين، النخبة فيه عربية وباقي السكان إما ذائبون في تشكيلات أهلية وجهوية موروثة بينها التواصل محدود، أو سوريون لم تتهيأ لهم الفرصة لإدراك سوريتهم.
عمل نظام المِلَل العثماني على منح كل ملة الحق في حماية أبناء الملّة ورعاية شؤونهم في إطار الدولة، مما زاد من عزلة مكونات كل ملّة في أقاليم الدولة عن بعضها، وعمل نظام الامتيازات التي أُعطيت للمسيحيين تبعاً للامتيازات التجارية التي كانت تمنح للدول الغربية على ازدياد التشنج، فنتجت عنها حوادث عام 1860 والتي راح ضحيتها الآلاف في دمشق وبيروت.
سخَر الاستعمار الفرنسي الوجود التاريخي للإثنيات والطوائف الدينية لتقسيم سورية ولأكثر من مرة إلى دويلات علوية ودرزية وسنية، وسعى لإقامة دولة كردية كلدو–آشورية، مما ساهم في تأكيد عملية التحاجز بين مكونات المجتمع السوري وتوثُبها ومنع اندماجها في مكون وطني واحد.
انفتحت حكومات الاستقلال على مكونات المجتمع السوري، أو كانت مكونات المجتمع منفتحة على بعضها انطلاقاً من طول فترة تعايشها وعدم وجود دعوات متجذرة تدعو للقومية العربية أو للأممية الإسلامية تثير القلق وتبعث على الشك، أي لم يكن هناك جذور عصبية بالمعنى السياسي، لكن هذه الحكومات لم تعتمد برنامجاً مخططاً ومدروساً لإنتاج هوية وطنية جامعة تتجاوز المكونات الفرعية ولا تلغيها، وتوظفها كمكونات حضارية لهذه الهوية.
إن استلام حزب البعث السلطة في سورية وإلغاءه أية إمكانية للحديث عن هوية غير عربية لسورية، دون أن يربط ذلك بمشروع حضاري يقوم على نشر الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وإنكار النظام القومي شرعية الكيان السوري الذي هو في نظر القوميين كيان مؤقت، غير حقيقي ومكروه، وما هو إلا جسر للعبور إلى الدولة العربية الواحدة التي تنتظم كل الأقطار العربية، كل ذلك أدى إلى زيادة قلق وتشكك مكونات المجتمع السوري الطائفية والإثنية والدينية على مصائرها، وزيادة انعزال هذه المكونات وانكفائها على نفسها بحثاً عن الذات وعن الأمان.
لم تكن سورية يوماً بلداً لمكون واحد من مكوناتها. نعم شكلت الثقافة الإسلامية ثقافة جامعة لكل مكونات المجتمع السوري، لكنها لم تشكل الهوية السورية دون مشتركات المجتمع الأخرى، فليس كل السوريين عرباً وليسوا كلهم مسلمين.
إذا كانت الطائفة حالة ثقافية واجتماعية وأنثروبولوجية، فإن الطائفية هي عملية تصنيع الطائفة وتتبيعها للسلطة من أجل خدمة التسلطية وتعزيزها.
استطاع النظام السوري الحاكم أن يستفيد من التناقضات الإثنية والطائفية والدينية السورية، فزاد من عزلتها وتوترها وعدم ثقتها ببعض، فوظفها لمصلحة استمراره في الحكم بصفته الحامي لكل منها، فأصبح الاستبداد هو الحل.
ينبغي أن ينطلق النقاش في موضوع الهوية الوطنية السورية (وليس النقاش حول جدوى وأحقية إضافة صفة «العربية» لاسم الجمهورية إلا أحد تمظهرات هذا النقاش) من المصلحة الوطنية السورية التي تقتضي تعزيز المشتركات بين مكونات الوطن وتغليبها على الاختلافات، واحتواء الاختلافات دون إلغائها، لأن إلغاءها غير ممكن عملياً، ولأن له ردة فعل عكسية على تؤثر مستقبل كيان الدولة السورية.
إن ردود الفعل على النقاش الدائر حالياً حول شكل الدولة واسمها إنما تنطلق من بنى فكرية كامنة تشكلت بسبب طول العهد والتآلف مع الشعارات القومية والطرح العقائدي، والذي أغلق البصائر وأوهم أن رؤية شركاء الوطن والتعامل يجب أن ينطلق من أنهم آخَر مختلف تابِع في أحسن حالات تواجده.
إن المنطلق لحل هذه الإشكالية يكمن في الاتفاق على تحديد الهوية السورية، هوية تعكس وحدة التعدد والاختلاف التي تميز الشعب السوري، فيها يكون كل سوري مثل أي سوري، والهوية لا تكون عملية قسرية بل عملية تماهٍ وإرادة انتماء إلى المشترك الجامع.
إن تسييس العروبة وأدلجة الإسلام وتسييسه يُفقِد هذين المكوّنَين الجامعَين للسوريين قوتهما الجامعة، ففي حين أن العروبة الثقافية والثقافة الإسلامية مكونان جامعان، فإن التجربة أظهرت أن القومية العربية والأيديولوجية الإسلامية دعوتان منفّرتان للسوريين من غير العرب ومن غير المسلمين .
إن المرحلة الثورية التي تمرّ بها سورية، والتي هي مقدمة لتغيير جذري على كل المستويات، تستدعي حالة من مراجعة الذات وعصف الأفكار تتناول المسلمات الفكرية، وتبحث في بُناها الكامنة وتنتقد مكوناتها وتعمل على تصحيحها، للوصول في مسألة الهوية السورية إلى مشتركات جامعة، واحتواء الخلافات، والاستفادة منها وتوظيفها في إثراء المشتركات على أسس من الديموقراطية واحترام الحقوق والحريات، التي يجب أن تكون غاية وجوهر أي بناء قادم.
يكون الانطلاق في تحديد شكل الدولة الجديدة، سواءً بالإبقاء على الشكل الحالي أو الشكل الفيدرالي أو اللامركزي، من الواقع الذي يمرّ فيه العالم والمنطقة، ومن والكارثة التي تمرّ بها سوريا والتي لن تعود سورية بعدها كما كانت، ولن يعود السوريون كما كانوا، للوصول الى توافقات وطنية تحافظ على وحدة الوطن والشعب.
هي أفكار للحوار، ودعوة لكل السوريين الراغبين والقادرين للمشاركة فيها، لكن متحرّرين من كل خلفية أيديولوجية متصلبة، فبها يمكن الاتفاق والانطلاق نحو «الوطن السوري» عصياً على أي خلل داخلي أو اختراق خارجي، لأنه سيصبح قادراً على تصحيح واقعه والدفاع عن نفسه بشكل تلقائي.