لم يستنكر اليسار العربي، أغلبه، الانقلاب الذي قاده العسكر في الجزائر على الانتخابات التي نجح بها إسلاميون في عام 1991. كان لسان حال من تكلم منه آنذاك يقول: «لأننا مع خيار الشعوب، نقف هذه المرة ضد خيار الشعب الجزائري، فالإسلاميون يريدون الديمقراطية لمرة واحدة فقط، تلك التي ستوصلهم إلى السلطة». كان انقلاب اليسار على «الديمقراطية» آنذاك بحجة انقلاب مفترض عليها لم يقع بعد؛ وهو انقلاب لم يكن لصالح طرف ديمقراطي حاول أن يحمي الديمقراطية من أنياب ستفترسها بعد حين، بل لصالح عسكر لم يحكموا إلا بالحديد والنار، عسكر ستقودهم غرائزهم إلى الفعل ذاته غالباً حتى لو أوصلت الديمقراطية أهلها إلى السلطة. الأسطورة التي ارتبطت باليسار، والذاهبة إلى أنه صديق الشعوب، أو أن هذه الأخيرة هي قضيته المركزية؛ تكشفت عن أن هذه الشعوب ليست أكثر من مقولة أيديولوجية تتموضع وفقها كأداة لتاريخ لا يعرف التقدم والازدهار إلا على حساب الإمبريالية التي ترتفع إلى شر مطلق سرعان ما تفقد الشعوب براءتها، حتى لو لاح أن هذه الإمبريالية يمكن أن تقف موقفاً إيجابياً اتجاه قضية ما تعني الشعوب. حصل هذا مؤخراً، وعلى سبيل المثال، أثناء المجزرة الكيماوية التي حصلت في الغوطة الشرقية، وبدا آنذاك أن ثمة موقفاً دولياً قد يتطور لمعاقبة النظام على هذه الجريمة، وتصدرت الولايات المتحدة هذا الموقف. ذهب صوت الغالب من أهل اليسار إلى شتم الإمبريالية ومخططاتها، والتشكيك بها والتلميح إلى أنها قد تكون وراء هذه المجزرة، في الوقت الذي لم تلح من هؤلاء سوى إدانة خجولة، في أحسن الأحوال، حول مجزرة الكيماوي.

لم تكن الواقعة الجزائرية، على ما يبدو، خياراً تكتيكياً سار فيه أهل اليسار بسبب قراءة ما لواقع الحال آنذاك، بل تبدو وكأنها خيار استراتيجي وعميق الصلة بالبنيان الأيديولوجي الذي تركّب عليه اليسار العربي بمعظمه، وعديد غيره في العالم. وهو بنيان ضعيف الصلة بالديمقراطية، بل كان في زمن ما ساخراً منها ومحتقراً إياها، مادحاً أنماطاً أخرى بديلة عنها، شمولية، زعم شرعيتها استناداً إلى ضرورات التاريخ وقوانينه التي سطّرها الآباء العظام، وكشفوا من خلالها ما تقدم وما تأخر من أحوال الناس ومآلاتهم. ولطالما سوّلت التقدمية لأهل اليسار هؤلاء النظر إلى الشعوب على أنها مادة التاريخ التي ينبغي عليها أن ترضخ لما يمليه، وأن تسلم قيادها لمن يحتكر علمه ويؤتمن على ديالكتيكه. ينطبق هذا حتى على ذلك اليسار الذي قارع الأنظمة العربية وذاق ويلات سجونها وعسفها، فلا افتراق عن هذه الأنظمة بالقيم العامة تجاه الناس وطريقة حكمهم، وغالباً ما تكون الخصومة بين الطرفين من طبيعة أيديولوجية: من هو الأكثر تمثيلاً للتاريخ وصنائعه؟ والقادر على قيادة الناس والوصول بهم إلى النهايات السعيدة؟!

لقد وجدت هذه الأنظمة من بين مثقفي اليسار من يقوم بعقلنتها والركون إلى دولتها وإمساكها مقاليد الحكم والناس، استناداً إلى رؤية تاريخية صارمة ستغدو وفقها هذه الأنظمة تقدمية. سيطلق الراحل إلياس مرقص على هذا النوع من الأنظمة «الديمقراطية الثورية» و«ديكتاتورية الديمقراطية الشعبية»، وسيجزم بأنها تسير نحو إنجاز مهام المرحلة البرجوازية (ولكن بدون برجوازية) حين ترفع علم الوحدة العربية الذي سيغدو علم «الطبقات غير الخائنة»، وهذا يعني نقلة باتجاه تحقيق أهداف التاريخ كما كشفت عنها «الاشتراكية العلمية». ومع أن هذه المفردات، الممعنة في ادعائها امتلاك ناصية الحقيقة، قد تراجعت بعد الانتكاسات الكبيرة التي حلت بالقوى الحاملة لها، إلا أن ما بقي من هذه الأخيرة ظلّ أميناً فيما يبدو لتراثه من حيث استخفافه بالديمقراطية وإرادة الشعوب ودفاعه عن الأنظمة «التقدمية»، الممانعة في وجه مطامع الإمبريالية وحلفائها، وقلعة العقلانية الأخيرة بالضد من شعوبها التي فقدت البوصلة وغدت مستودعاً لكل ما هو ظلامي وتدميري. وفق هذا الفهم ستقترب الشعوب التي ثارت على أنظمتها في كل من تونس ومصر من طبيعتها، لأنها تثور ضد أنظمة عميلة للإمبريالية وربيبتها إسرائيل. إلا أن هذه الإمبريالية سارعت لترد الصاع صاعين عبر النيل من الأنظمة التقدمية والممانعة، فأوعزت إلى عملائها في المنطقة، لا سيما الضالعة في قمع ثورة شعب البحرين ضد نظامه، بالتحرك. وكعادته، كان اليسار العربي، معظمه، يقظاً ونبيهاً في ما يخص أنظمة الممانعة، فحين لم يمض على انتفاضة السوريين سوى شهر واحد، في 19 نيسان 2011، أصدر الحزب الشيوعي اللبناني بياناً دعا فيه إلى ضرورة «مواجهة الفتنة الداخلية التي تسعى إليها الإمبريالية الأمريكية وإسرائيل بالتعاون مع بعض القوى العميلة والمغرقة في رجعيتها داخل سورية وخارجها، والتي تريد النيل من موقف سوريا الوطني والقومي غير الخاضع للإملاءات الأمريكية ومشاريعها». سيتكرر هذا الموقف بعد أقل من شهر على صدور بيان الحزب الشيوعي اللبناني، في مؤتمر الأحزاب الشيوعية العالمية الذي عقد في بروكسل (12ـ15 أيار 2011) والذي جاء في بيانه الختامي: «من الواضح أن سورية ضحية المناورات التخريبية والاستفزازية التي خططت لها الإمبريالية الأمريكية وحليفتها إسرائيل والقوى الرجعية في المنطقة (…) إن الولايات المتحدة تعتزم استبدال هذا النظام بدمى موالية لواشنطن وحلفائها». من الواضح أن كلا الموقفين صدرا عن أساس مبدئي أيديولوجي، وليس على وقائع من أي نوع. فلم يكن قد مضى على الثورة في سورية سوى شهرين، أي في طورها السلمي، ولم يكن وقتذاك قد صدر أي موقف دولي يُعتدّ به يحاول التدخل في الشأن السوري، ولا أية مطالبة من المتظاهرين بهذا التدخل، وكان ذلك قبل تشكل المجلس الوطني بخمسة أشهر، وهو الذي سعى إلى استدعاء تدخل دولي تحت يافطة الحماية الدولية للمتظاهرين من بطش النظام.

لم يتغير شيء في موقف اليسار المقصود، العربي منه والعالمي، مما يحدث في سورية بعد مضي أكثر من عامين ونصف على قيام الثورة، ورغم جميع الانتكاسات الخطيرة التي مرت بها هذه الأخيرة خصوصاً، والبلاد عموماً، حيث أن مساحة القضية العادلة التي خرج لأجلها السوريون إلى انحسار أمام صعود قوى على طلاق معلن معها، كان لعنف النظام الدور الرئيسي في إطلاقها وتعزيز حضورها. هذا اليسار بقي ثابتاً على مواقفه الداعمة للنظام، وزاد على حجة الإمبريالية حجة أخرى، وهي وجود الجهاديين على أرض سورية. لسان حال هذا اليسار يبرر موقفه بالقول: «نكاية بالإمبريالية (في البداية) وبالجهاديين، نقف على الأرض التي يقف عليها النظام السوري أو بمحاذاتها»! وبكل حال، ساهم هذا الخيار البائس في إضعاف وتهميش القوى المدنية والديمقراطية واليسارية والعلمانية المنتمية للثورة، والتي كانت منذ البداية هدفاً للنظام، وغدت الآن كذلك من قبل أطراف أخرى، جهادية غالباً، تدّعي الخصومة للنظام، ولكنها تجتهد لتكون مثله.

على أيام الواقعة الجزائرية، برّر اليسار موقفه المنحاز إلى العسكر بأن الإسلاميين يريدون «الديمقراطية لمرة واحدة»، إلا أن الموقف المبدئي والداعم للعسكر الذي يقفه هذا اليسار، ربما يتيح لنا القول عنه إنه على يمين هؤلاء الإسلاميين، أي من أهل «الديمقراطية ولا لمرة واحدة»!