هنالك فارق جوهري بين حلول تسووية، على غرار ما فعل النظام طوال عقود بمسألة الصراع العربي الصهيوني، ومهزلة المفاوضات السرية منها والعلنية، والتي ما كان لها أن تتوقّف لولا اندلاع الثورة؛ وبين حلول تغييرية جذرية، تنسف القديم لتبني على أنقاضه الجديد. وفي الحل التسووي هناك دائماً مشكلة متجدّدة بحاجة لحلول ذكية تُظهر التسوية بمظهر التغيير، ليغيب هذا بذاك ويبدو أكثر قبولاً.

لكن لماذا، ومن هو صاحب المصلحة بحل تسووي يظهر كحل جذري يرضي طموحات من دفعوا الغالي والنفيس من أجله؟ يبدو أن الأزمة السورية أزمة معقّدة ومركّبة، تداخلت بها مصالح دول إقليمية وقوى عظمى لا يعنيها وصول حوالي 18 مليون سوري إلى خط الفقر أو ما دون، عدا عن عدد هائل من اللاجئين بلغ حسب تقديرات أخيرة 7 مليون في الداخل والخارج، وتكاليف إعادة إعمار تجاوزت حتى الآن 350 مليار دولار، وعدد هائل من الشهداء والجرحى والمعتقلين. التسوية هي حل توفيقي بين طرفين متنازعين، من شروطها استعداد طرفيها لتقديم تنازلات آخذين بعين الاعتبار موازين القوى على الأرض والتوازنات الدولية والإقليمية التي غالباً ما تكون مؤثّرة بشكل مباشر. لكن شعبنا، كما هو معلوم، لم يخرج في أواسط آذار 2011 لإنجاز تسوية مع النظام، بل لإسقاطه، فما الذي حصل؟

للأزمة بعدها التاريخي الذي يعود لفترة تشكّل هذه الأنظمة القمعية، التي شلّت الحياة السياسية وقمعت شعوبها وحكمت بقوانين الطوارئ لأسباب عديدة لعل أبرزها حجّة الصراع مع العدو الصهيوني، في حين كان المستعمرون الصهاينة ينعمون بديمقراطية تتيح لهم محاسبة أي مقصّرٍ من زعمائهم! لم تبنِ شعوبنا تجربتها الديمقراطية بعد، وما الصراع الذي نشهده الآن في المنطقة سوى الخطوة الأولى لبناء هذه التجربة عبر عقد اجتماعي جديد يعبّر عن آمالها وطموحاتها، وهنا بالضبط تكمن المشكلة، فحين اندلعت الثورة لم يكن هناك أي كيان سياسي يتحدّث باسمها، فسارعت بعض القوى الإقليمية ذات المصالح المتشعّبة مع سوريا بالمساعدة على تشكيل قوى سياسية جديدة تحافظ فيها على مصالحها. ساعد على ذلك تمويل هائل تشوبه الشبهات من كل جانب، وإمبراطوريات إعلامية عملت على تسويق وتعويم أطراف بعينها. في المرحلة اللاحقة تعقّدت الأزمة وتعقّدت معها الولاءات، وكثُرت الأطر التي تدّعي تمثيل الشعب السوري، والتي تقاذفت التهم بالعمالة، تارة للنظام وتارة أخرى للغرب وأطماعه. كان هذا مترافقاً مع تشكّل العديد من القوى المسلّحة على الأرض والتي بدأت بخوض صراعها، مع النظام تارة وفيما بينها تارة أخرى، ليجد المواطن السوري نفسه ضحية معادلات عسكرية وسياسية عصية على الفهم والحل.

من جهة أخرى بقيت العلاقة بين الأطر السياسية والفصائل العسكرية مبهمة ويشوبها الكثير من الغموض، لتظهر المسألة السورية وكأنها عصية على الحل. وانطلاقاً من هذا الاستعصاء، الذي ساهمت به كل القوى المذكورة، بدأ البحث عن حل تسووي، كانت أولى بشائره «مؤتمر جنيف الأول» الذي عقد في النصف الثاني من العام الماضي، والذي خرج بمقررات كثُر الخلاف حول تفسير بنودها بين مختلف أطرافه وداعميه. في النتيجة لم يخرج «جنيف» سوى بقناعة واحدة لدى «قوى المعارضة» وهي قبولها من حيث المبدأ بحل تسووي، وإن حاولت رفع السقف أحياناً لتظهر بمظهر الحريص على منطلقات الثورة الأساسية، أي التغيير الجذري. في آذار من العام الحالي أطلق أحمد معاذ الخطيب، الرئيس السابق لـ’الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة‘ مبادرته الشهيرة التي نصت على ضمانات لمغادرة الأسد مع 500 من أعوانه، مقابل الإفراج عن المعتقلين وتسهيل منح جوازات السفر للسوريين في الداخل والخارج، وهي مبادرة ما لبثت أن سقطت لعدم قبولها من جميع أطراف الأزمة، خاصة الشعب السوري الذي لم يخرج ويتكبّد كل هذه الخسائر ليحصل في النهاية على ما طالب به الخطيب.

الآن عادت مسألة التسوية لتطرح من جديد بعد ارتكاب النظام للعديد من المجازر بالأسلحة الكيماوية، والتي كان أكبرها مجزرة الغوطة الشرقية في آب الماضي والتي راح ضحيتها أكثر من 1000 شهيد، تحرّكت على إثرها البوارج الأميركية مهدّدةً النظام ما لم ينزع هذه الأسلحة، ما أدّى لموافقة فورية بالتنسيق مع موسكو، تجنّباً لضربة كانت مؤكّدة، ولا يخفى على أحد أن الهاجس الأميركي الأكبر من وراء هذه الخطوة هو ضمان أمن العدو الصهيوني. إذاً طُرحت –أو فرضت– مسألة التسوية من جديد على طرفي الأزمة بأجواء لا تبدو مشجّعة، خاصة أن «المعارضة» نفسها منقسمة حول المشاركة أو عدمها، والأهم هو الموقف المتشنّج للبعض من مشاركة إيران في الأزمة، فقد طالعنا لؤي صافي (الناطق الرسمي باسم الائتلاف) في 27 تشرين الأول ليقول: «ايران جزء من الأزمة وليس الحل»، ثم عاد من بعده عدد لا بأس من زملائه ليرددوا نفس العبارة على وسائل الإعلام، وكأن لهذه العبارة غير المفهومة مفعول السحر، وسحرها كما يبدو لناطقها في عدم فهمها. الجدير بالذكر أن إيران واحدة من أكبر داعمي النظام السوري على الإطلاق، إذ إن دعمها واحد من الأسباب الأساسية في إطالة عمره إلى اليوم، والمعروف أيضاً أن الحوار يكون بين طرفين متخاصمين، لا بين طرفين صديقين. هذه عيّنة من التصريحات التي تدلل إما على ارتباك في الفهم أو محاولة لتورية شيء ما. لا يقل عن عبارة لؤي الصافي غموضاً عبارة شرطية أخرى تردّد بشكل دائم: «التفاوض مع من لم تتلطّخ يداه بالدماء»، وهي عبارة مفتاحية بحاجة لكثير من الشرح والتمحيص لفهم فحواها. فالنظام منظومة واحدة، كل أعضائه مسؤولون عن الجرائم التي ارتكبت بنسب متفاوتة، كلٌ حسب موقعه؛ إذا كان تفسيرنا صحيحاً، فإن هذه العبارة المفتاحية تصبح بلا معنى. ثم ما معنى أن يشترط بعض أعضاء «المعارضة» حضور بشار الأسد شخصياً وهم يرددون العبارة الآنفة الذكر؟ ألم تتلطخ يدا بشار بالدماء؟ للعبارة عدة تفسيرات: إمّا أن فهمها التبس على قائليها، أو أنّهم افترضوا عن دراية أو عدم دراية براءة بشار من دماء شعبه، أو أنها تقال من باب التصعيد، أو ما يشبه الإهانة على أساس أنه لن يقبل الحضور، إن كانت النية هي إفشال انعقاد المؤتمر. التسوية تكون بين طرفين، يفرض فيها الطرف الأقوى على الأرض شروطه، فهل هذا حاصل في الأزمة السورية؟ هل فرض أي من الطرفين التسوية على الآخر، أم أنها فُرضت عليهما من الخارج؟

في الخلاصة، يعمل من يستطيع فرض التسوية بقناعة أن الشعب السوري أُخرج عن خط أي تجربة أو سيرورة كانت ستنتج معارضته الحقيقية التي تعبّر عمّا خرج من أجله بعد أن أُنهك وتشتّتت قواه، وقد أصبح خارج معادلة الفعل الثوري التغييري، أو حتى الرفض والقبول لأي تسوية تنهي المأساة بالشكل الذي يرتئيه، حتى وإن كانت بإعادة إنتاج نفس الطبقة بوجوه وصيغ مختلفة، أو بتقسيم البلاد إلى دويلات متقاتلة طائفياً.