الحركة التصحيحية
«بعد فك ارتباط سوريا بالجمهورية العربية المتحدة وإعادة العمل بدستور 1950، وذلك بعد إدخال تعديلات عليه أُقرت باستفتاء شعبي، أجريت انتخابات نيابية فاز فيها ناظم القدسي برئاسة الجمهورية، وشكّل خالد العظم الحكومة، والتي أعادت فيها الأخيرة نهج التعددية السياسية والاقتصادية، وإعادة قانون الإصلاح الزراعي، والمصارف الخاصة وسائر الشركات التي استحوذت عليها الدولة خلال عهدة الوحدة. أدى هذا الى حدوث أول صدام مع الأحزاب الاشتراكية في شباط 1962.
وجه البعث في 25 ايار 1962 نداء لحكومة العظم لإعادة المفاوضات حول الوحدة مع مصر، وفي أواخر 1962 تفجر خلاف بين رئيس الحكومة خالد العظم وحزب البعث. وفي 8 شباط 1963 قام حزب البعث بانقلابه في العراق وبعد شهر وقع انقلاب البعث في سوريا» (من أوربان الثاني إلى جورج بوش الثاني، القسم الثالث: ”واقع الأقطار العربية في النصف الثاني للقرن العشرين“، أمير الصوّا، دار الينابيع، دمشق 2007).
«ونتيجة التوتر في العلاقات بين الحكومة وحزب البعث قرر مجموعة من الضباط البعثيين في الجيش السوري الانقلاب على الحكومة واستلام السلطة. وفعلاً، في صباح الثامن من آذار، بعد اتفاق عقده مجموعة من الضباط وبعض الأشخاص من خارج الجيش، تحركت الفصائل المنقلبة من الجيش في دمشق وحاصرت المقرات الهامة في العاصمة واعتقلت رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وأغلب الوزراء، ولتبدأ الدول بالاعتراف بالحكومة الجديدة وأولها العراق البعثي ومصر الناصرية، وتولى الاتحاد السوفيتي إقناع المجتمع الدولي الاعتراف بالنظام الجديد. قبل منتصف النهار تألف مجلس الثورة بقيادة لؤي الأتاسي.
«في اليوم نفسه دعا حزب البعث حلفاءه من الأحزاب اليسارية الى اجتماع في مقر وزارة الدفاع، بهدف تشكيل حكومة مدنيّة انتقالية ولدت في صباح اليوم التالي برئاسة صلاح الدين البيطار. وفور استلامه السلطة أعلن حالة الطوارئ في البلاد التي بقيت سارية حتى ثورة 15 آذار 2011. كما صدر قرار بحل جميع الأحزاب المناوئة لحزب البعث مع الإبقاء على الحزب الناصري والحزب الشيوعي، ونفيت أغلبية الطبقة السياسية السورية، ولتبدأ عمليات تسريح جماعية لعدد كبير من الضباط غير البعثيين» (أوراق من تاريخ سوريا المعاصر 1946-1966، رشاد محمد وغسان حداد، مركز المستقبل للدراسات، عمان 2001).
بعدها، جاء انقلاب آخر سمي بـــ«الحركة التصحيحية» بقيادة وزير الدفاع حافظ الأسد، بعد أن قام الأخير بتعيين أحمد الحسن الخطيب رئيسا لفترة انتقالية، ثم أجرى استفتاء على شخصه ليصبح بموجبه رئيساً للجمهورية.
وفي عام 1973، وضع أول دستور في ظل البعث جعل من الحزب «قائداً للدولة والمجتمع» وعيّن أهداف الدولة بالوحدة والحرية والاشتراكية، وقام بإلغاء التعددية السياسية والاقتصادية واحتكر الإعلام والتعليم وغيرها من المجالات.
وامتدت هذه الممارسات القمعية والاستبدادية لعقود طويلة، مما أدى إلى تردي الحالة الثقافية والفكرية عامة، والحريات السياسية خاصة، لنشهد في 10 حزيران 2000 موت «قائد الحركة التصحيحية» حافظ الأسد، وتعيين ابنه بشار الأسد خلفاً من بعده بـ«استفتاء شعبي». جاء هذا الأخير ليرث التركة التي خلفها أبوه، مع الإيحاء بأن زمناً سورياً جديداً سيولد في عهده، سيكون خالياً من الأخطاء التي سادت في حقبة أبيه، وعماده التطوير والتحديث والانفتاح على أهل البلد.
بعد أشهر من استلام بشار للسلطة، أطلق المثقفون والسياسيون المعارضون السوريون ما سمي بربيع دمشق، لفتح كوة في الجدار المحيط بالسوريين منذ عام 1963، إلا أن الأسد الابن لم يقف مكتوف الأيدي إزاء ذلك، فقام بحملة اعتقالات واسعة نجح عبرها في خنق الربيع السوري المحتمل. وأعلن النظام عن خطوطه الحمراء: حافظ الأسد، أجهزة الأمن، المؤسسة العسكرية… إلخ. وهو ما يعني، بتعبير آخر، الدولة الأمنية التي طوّبت سورية مُلكاً أسدياً أبدياً، لا يجوز المساس بها، أو التعديل عليها. قامت ثورة 15 آذار 2011، لكسر هذه العبودية الأبدية التي حاول النظام أن يأسر السوريين بها، وولد حلم بربيع جديد وجدير بالسوريين، فكان أن بدأ النظام بحرب إبادة اتجاههم، عبر عنها منذ البداية بشعاره «الأسد أو لا أحد»، ويساعده على ذلك الصمت الدولي الرهيب!
جبهة النصرة
بعد مرور أشهر على ثورة آذار الشعبية، وتحديداً في 25 كانون الثاني 2012، بدأنا نشهد انقلابات من نوع آخر، إنه هذه المرة على الثورة الشعبية بحد ذاتها. فقد ظهرت عدة فيديوهات مصورة لأشخاص ملثمين يعلنون ولاءهم لأبي محمد الجولاني، المسؤول العام لما سموه «جبهة النصرة لأهل الشام»، وعناصر كثر من السوريين الذين أتوا من ساحات الجهاد في العراق وأفغانستان والشيشان هم ورفاقهم. هكذا أعلن الجهاد في سوريا لـ«تحريرها من النظام الكافر»، وذلك دون مساعدة «الغرباء وأنظمة الكفر، الغرب والأتراك وبعض الحكومات العربية»، بهدف «إعادة سلطان الله إلى أرضه». دعت الجبهة السوريين إلى الجهاد وحمل السلاح في وجه النظام الكافر، لنشهد بعدها فيديو على يوتيوب يعلن عن قيام «كتائب أحرار الشام التابعة لجبهة النصرة»، لكن كتائب أحرار الشام نفت تبعيتها لجبهة النصرة وقالت إنها كتائب مستقلة لا تتبع لجهة أخرى.
وفعلاً بدأنا نشهد عمليات الجبهة الانتحارية، فقد تبنت تفجير الميدان الذي نفذ قبل إعلان تشكيلها بعشرين يوماً، والذي كانت المعارضة قد اتهمت النظام به، مما دفع غالبية المعارضين للقول بأن هذه الجبهة هي من صنيعة المخابرات السورية. ولم تكتف الجبهة بهذا التفجير، فقد قامت بتنفيذ عدة عمليات انتحارية منها تفجير فرع المخابرات الجوية في حرستا وتفجير نادي الضباط في ساحة سعد الله الجابري في حلب وعدة تفجيرات أخرى.
الولايات المتحدة الأمريكية قامت بتصنيف الجبهة على أنها جماعة إرهابية، إلى أن قرّر مجلس الأمن الدولي للأمم المتحدة، بالإجماع في 30 أيار 2013، إضافة جبهة النصرة لأهل الشام الى قائمة العقوبات للكيانات والأفراد التابعة لتنظيم القاعدة. يكمن الانقلاب هنا بأن جبهة النصرة هذه على طلاق بائن مع قيم الثورة التي خرج ينادي بها السوريون، فشجرة المفاهيم التي ينتمي إليها مفهوما الوطنية والديمقراطية ليست فقط غريبة عن جبهة النصرة، بل وإنها مكفرّة، هي وكل من يقول بها، بينما البديل التي تطرحه بكل حال هو استبداد ينزع عن الاستبداد القائم عباءته البعثية، ويلبسه عباءة إسلامية، تخفي تحتها ما كان يخفيه الاستبداد البعثي من طائفية وتمييز واحتقار لحرية البشر ومصالحهم وتنوعهم. هذا عدا عن كونها هيأت حجة للنظام في تصعيد قمعه، مستفيداً من أن موقفاً دولياً أخذ يتلعثم متحججاً هو الآخر بوجود الجهاديين.
داعش
إلا أن الانقلابات لم تتوقف عند جبهة النصرة فقط، فقد شهدنا أيضا انقلابا جهادياً جديداً، ينضوي تحت مظلّة «محاربة الكفرة في بلاد الشام»، وهو ما يسمى بـ«دولة الإسلام في العراق والشام»، ويطلق عليه السوريون تهكماً «داعش». يعود أساسها إلى عام 2006 عندما أعلن أبو عمر البغدادي عن قيام «دولة العراق الإسلامية». سيقتل أبو عمر عام 2010 على يد الأمريكان في العراق، ويبايع بعده الشيخ أبو بكر البغدادي أميراً على هذه «الدولة»، وليغدو فيما بعد «أميراً للمؤمنين». في شهر نيسان 2013، ظهر تسجيل صوتي منسوب لأبي بكر البغدادي يعلن فيه أن جبهة النصرة هي امتداد لـ«دولة العراق»، وأعلن فيها إلغاء اسمَي جبهة النصرة ودولة العراق الاسلامية تحت مسمى واحد وهو «الدولة الاسلامية في العراق والشام». رداً على ذلك، ظهر أيضا تسجيل صوتي لأبي محمد الجولاني يعلن فيه عن علاقته مع الدولة الإسلامية في العراق، ولكنه نفى أن يكون للجبهة أي علم بهذا الإعلان، فرفض الاندماج وأعلن مبايعة تنظيم القاعدة في أفغانستان. وبدأت داعش حرباً شعواء ضد كل من رفض الولاء والمبايعة لأمير المؤمنين أبي بكر البغدادي، واللافت أن حربها هذه بدأت ضد تشكيلات هي في الأساس معادية للنظام وعلى قتال معه، لا سيما تلك التي تنتمي للجيش الحر الذي اغتالت قادته (كأبي فرات وأبي بصير اللاذقاني)، ونفذت عدة عمليات انتحارية ضد مقارّ تابعة لهذا الجيش، في الأماكن التي سعت لبسط سيطرتها عليها. كما قامت بالعديد من الإعدامات الميدانية لعدد من الأسرى من جنود النظام، وبعمليات الخطف للناشطين المدنيين والإعلاميين، وبعض الصحفيين الأجانب.
ومنذ أيام شهدنا ظهوراً جديداً، ضم 43 تشكيلاً عسكرياً من ألوية وكتائب، سمي بجيش الإسلام، وقد بايعوا خلاله أمين عام جبهة تحرير سورية الإسلامية الشيخ محمد زهران بن عبد الله علوش، والذي أفرج عنه النظام بعفو عام مع كثير من الأصوليين والتكفيريين بعد بدء ثورة آذار 2011 بعدة أشهر، وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم نشهد أي تطور أو استراتيجية واضحة له.
انقلابان ونتيجة واحدة على السوريين
من خلال ما سبق، يبدو واضحاً أن هناك رابطاً متيناً ومشتركاً بين هذه الانقلابات العديدة والكثيرة، وأنها تصب في نفس الخانة، تدمير سوريا ثقافياً وفكرياً واقتصادياً، مما يتيح للمستبد أياً كان أصله أو انتماؤه أن يفرض سيطرته على عامة الشعب، ويطبق سياسة الحزب الواحد والنهج الواحد أو الدين الواحد، ونجد تعبيراته في شعارات شبيحة البعث والأسد «الأسد أو نحرق البلد»، وآخر شبيه له عند المنادين بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية بصيغتها السلفية: «إما خلافة إسلامية أو نحرق الكرة الأرضية».
حافظ الأسد لم يمت على ما يبدو، باعتباره المؤسس لكل ما حلّ بالبلاد، فحتى الآن هناك الكثير ممن يتقمصون فكره واستبداده وروحه، وهو إذ يستمر حياً عبر إجرام ابنه، يمد يده نحو أسامة بن لادن، والذي لا يزال حياً في قلوب أبنائه الجهاديين، ويتفقان سوية على وأد السوريين وثورتهم وأحلامهم. لا يزال الأموات يحكموننا من وراء قبورهم. بين موت رمزَي الخلافة، الأسدية والإسلامية، ومحاولة إحيائهما لاحقاً، سيبقى السوريون يتهاوون يوماً بعد يوم على يد الطرفين.