تنمو المقدسات، وبالتالي الدينيّ والطقوسيّ المعبّر عنها، ضمن ثقافة معينة، فتتأثر بهذه الثقافة ليس فقط في التكوين البنيوي والمفاهيمي لهذه الأديان والمقدسات، بل أيضاً في العلاقة التي تربط الثقافة بالدين: قدرة كل منهما على الاستقلال عن الآخر وطبيعة التكامل، إن وجد، بينهما. وهناك الكثير من الظواهر التي تشكل جسراً يربط مفهومي الديني والثقافي، ويُرغَم المقارب لمسألة أحدهما على العبور، جيئة وذهاباً، بينهما.
مبدئياً لا بد من التنويه إلى أن الصيغ المبتذلة للعلمنة، كما العولمة، وعلى عكس ما يبدو شائعاً اليوم، لم تُنهِ الديني أو تبعده أو تقلل من أثره، بل حوّلته إلى ديني صافي: أي دين منزوع عن ثقافته. فالعلمنة بالجوهر لا تدعو إلى نزاع أو طلاق مع الدين، وتسمح للمجتمع المُعلمَن أن يبقى على وفاق مع القيم والثقافة الدينية. فهي تقوم على السياسي: بمعنى فصل الدين عن الدولة، ولا تشترط أبداً جدلاً حول القيم الأخلاقية كما الطريقة التي يتم التسويق لها اليوم من بعض من يدّعون العلمنة أو مما أسميناها «العلمنة المبتذلة». إن الهجوم الذي يشنّه العلمانيون المبتذلون على القيم الأخلاقية باسم العلمنة يؤدي إلى انقطاع «ضبط تناسق الحركة» بين المؤمنين وغير المؤمنين: انعدام التشارك في القيم التطبيقية، وبالتالي تشكّل «متدينين غرباء» لا يعرفون أنفسهم في الثقافة المحيطة وتتعزز لديهم نزعة التطرف، ولا تعود الثقافة من يؤسس الهوية بل الدين «المحض» الذي ينفصل عن كل إسناد ثقافي مؤدياً لانعدام الإنتماء الوطني. هذا ما نلمسه في النشيد الذي ذاع صيته والذي ينشده غالباً المجاهدون في سجونهم: «غرباء، ولغير الله لا نحني الجباه، غرباء وارتضيناها شعاراً في الحياة… غرباء، هكذا الأحرار في دنيا العبيد».
ويبدو أننا إذا تفحصنا آثار تكون هذا الديني الصافي، نجد أن أهمها التجهيز لتصدير الأديان وتوسيع نفوذها ودخولها لمجتمعات غير مجتمعاتها. فيبدو عزل الدين عن الثقافة شرطاً أولياً ليصبح قابلا للتعولم: للتصدير وعبور الحدود، مثلاً «الهندوسية الجديدة» التي أصبحت قادرة على التبشير خارج الهند بعد ان أنجزت فك الإرتباط الوثيق بين الهندوسية ومجتمع الطبقات، فيصعب تصور مبشرين هندوس يشرحون ضرورة اعتماد الطبقات المغلقة. فما كان هو أن تلك الهندوسية الجديدة استطاعت «إعادة صياغة واضحة لنظام الإعتقاد منفصلاً عن ثقافته ومجتمعه الأصليين» مع الاحتفاظ باللمسة الشرقية التي يمكن لها الإغواء، وخصوصاً في ملابس رجال الدين الهندوس. وهكذا نمت بعثة راما كريشنا التبشيرية الهندية في أواخر القرن التاسع عشر وأصدرت صحيفتها الأولى باللغة الإنكليزية.
تكون الصيغة الأكثر تطوراً لهذا الفصل بين الدين وثقافته في إنتاج ديني لا يشترط معرفة أتباعه به: أي لا يعزز المعرفة شرطاً للخلاص. بل يكفي التقديس والانتماء لهذا الدين المنزوع من ثقافته لنيل الخلاص السرمدي. ولا زلت أذكر ذلك المشهد، الذي استغربته كل الغرابه عندما رأيته في مدينة لاهور في باكستان: شاهدت مجموعة من الشيب والشباب متأثرين حد البكاء، أمام واعظ بباحة مسجد، يتكلم بلغة غريبة لم تكن أياً من اللغات المحلية المستخدمة في لاهور وباكستان، وليست بالمألوفة عندي أبداً، فدفعني فضولي لسؤال أحد المستمعين ماذا يقول الشيخ؟ فأجاب: اجلس معنا بسرعة، تعال، إنه يدعو لنا ويقرّبنا إلى الله ورسوله والقرآن الكريم. فسألت: وبأي لغة يتكلم؟ قال: إنها اللغة المقدسة، لغة الله ورسوله وكتابه، لا تعرفها إنها لغة الجنة، إنها العربية. كنت على يقين أن هذا الواعظ يتمتم بألفاظ غريبة، لا علاقة لها بالعربية لا من قريب ولا من بعيد، وكلمات تحتوي حروفاً كالعين والحاء والضاد التي يميّز الباكستانيون العربية بها، وحوله قوم بخشوعٍ يُنصتون، وينظرون إليه بعيونٍ اغرورقت فيها الدموع. عندما همس له صديقي أنه يوجد عربي بين الجموع، هرب الواعظ التقي، المقصِّر ثوبه المعفي لحيته الحافّ شواربه. والغريب أن صديقي، ابن المنطقة، نصحني بأن ألزم الصمت ولا أبوح بسرّه لجمهوره لأنني ربما بهذا سأعرّض نفسي للخطر، حيث إنهم، أغلب الظن، لن يصدقوني، أنا حليق الذقن الذي يرتدي الجنز، ويكذّبوا الشيخ الجليل.
نسوق هذه القصة لنقول أن الإنسان أصبح قادراً الآن على تقديس ما لا يعرف أكثر من أي وقت آخر، انتصر التدين بالشكل على التدين بالمضمون، وأصبح تجهيل العقل من ثمار العالم الحديث، والمعرفة الدينية لم تعد شرطاً للخلاص أو العبادة. إن دُور تحفيظ القرآن في باكستان والهند وأندونيسيا وبنغلاديش وأفغانستان… (الخ) تخرج طلاباً يحفظون القرآن بكل إتقان ولكن… دون فهم القسم الأعظم مما يحفظون. وهذا يؤكد الاستنتاج الرائع لأوليفييه روا:
«والحال أن اللغة، من حيث التعريف، هي في آنٍ معاً حمَّالة لثقافة وموضوع معرفة وأداة معرفة. إن إلغاء اللغة لصالح الكلام هو بلا ريب أكبر مثال على الجهل المقدس».
و إني لا أكاد أدنو من مسألة الدين والثقافة، إلا وأذكر مقاربة روا المتميزة في كتابه «الجهل المقدس :زمن دين بلا ثقافة» (La sainte ignorance: Le temps de la religion sans culture)، حيث يستنتج في هذا الصدد أن «الثقافة نسّاءة الديني»، ويصبح الدين أحياناً مجرد تعبير عن هوية ليس أكثر، ومجرداً من كل ما هو ديني. ويلاحظ أن ثمة أدياناً كثيرة تحدد لنفسها هدفاً أن تهدي مجدداً إلى الدين أناساً ينتسبون اسمياً ولكنهم فقدوا كل معرفة دينية: هذا هو الهدف التي تسعى إلى تحقيقه حركات مثل التبليغ في الإسلام أو حركة لوبافيتش في اليهودية. فالمتعيّن عندهم هو إعادة ربط الانتماء الأسمى بممارسة حقيقية. أصبح «بابا نويل» أو «سانتا كلوز» أهم من المسيح في أعياد الميلاد، وما عاد الناس يذهبون إلى قدّاس منتصف الليل إلا نادراً.
إن الحركات الإسلامية المتعصبة، التي دخلت مؤخراً المشهد السوري وأخذت تثير استغراب الثقافة السورية وتصطدم معها، ما هي إلا حركات متدينة بالشكل دون المضمون، ألغت اللغة لصالح الكلام، وبالتالي إن أي محاولات للتفاوض أو التفاهم معها، واكتفاء شرها، لا يمكن أن يتم بموجب خطاب ديني وسطي، وذلك ببساطة لأنها مجموعات تحمل اسم الدين ولا تنمي له، بل هم «غرباء»، حتى عن الدين، هم يشبهون جمهور الباكستانيين الذين تحدثنا عنهم سابقاً، الجمهور الذين يُبكيهم كلام لا يفهمون معناه بافتراض قدسيته. ولا يمكن توعيتهم باستعمال المنطق العادي المألوف والواضح البسيط، لأنهم ببساطة لن يصدقوا إلا ما يمليه عليهم خيال شبه ديني مزيّف ومسيطِر.
إن هذه الظاهرة تختلف كثيراً عن ما أسماه المفكر السوري صادق العظم «إسلام التوتر العالي». فإذا كان هذا الفكر المتطرف لا ينتمي للسوريين وليس له أي عمق في ثقافاتهم، فإن حالة إسلام التوتر العالي، والتي ولّدها عنف النظام ومجازره وآلة موته، هي التي جذبت بعض السوريين للانخراط بهذه التيارات المتطرفة والمتعصبة. ولكن من المؤكد أن هذا التوتر لن يبقى بمستواه العالي، وبالتالي هذه فورة مؤقتة مصيرها العودة للجذور الثقافية الإسلامية المضبوطة بمرجعية يمكن أن نقول عنها مرجعية ثقافة إسلامية عقلانية.
إن السير بهذا المنطق يؤكد أن هذه الجماعات يستحيل عليها أن توجد لنفسها قاعدة في سوريا أو أن تكون بديل النظام كما يرى بعض العلمانيين وجميع رموز العلمانية المبتذلة.
لا تدّعي هذه المقاربة إنجاز صيغة عمَليّة أو استراتيجيا سياسية للتعامل مع فكر داعش والأفكار المتطرفة، إنما يمكن لها أن تكون جزءاً من الأساس النظري في رسم سياسة علمية لمواجهة التطرف. بالتالي هي مادة نظرية يمكن البناء عليها. وإن الإقتراح العملي المنشود يجب أن يأخذ أيضاً بعين الإعتبار متغيرات أخرى كثيرة، ربما أهمها حجم الإنجازات على مستوى فكرة الانتماء الوطني وشكل الدولة القادمة، وكذلك المتغيرات الاقتصادية والإجتماعية بعد انتهاء الحرب والطريقة التي سيتحدد بها مصير النظام السوري.. وغير ذلك.