الإسلام بالنسبة للعرب عنصر تكويني، فالأمة العربية نتاج ثورة الإسلام الفكرية والاجتماعية، والشخصية العربية وليدة الحضارة الإسلامية، فقد دخل الإسلام النسيج الشخصي والاجتماعي للمواطن العربي، وتطابق الثقافي والاجتماعي في الحياة العربية، حتى غدا الإيمان ينطوي على حق المواطنة في الأمة العربية الإسلامية، والطعن في إيمان المرء معناه إخراجه من دار الإسلام.
لذا، ليس حضور الإسلام في حياتنا غريبًا أو مستهجنًا، والعودة إليه في العصر الحديث مفهومة ومبرّرة لارتباطها بهذا الدور البنيوي، بالإضافة إلى إغراءات تكرار النجاح التاريخي.
غير أن كون حضور الإسلام في حياتنا والانحياز اليه، باعتباره عقيدة الشعب، طبيعيًا ومنطقيًا لا يغلق ملف الحياة بقدر ما يفتحه ويثير اسئلة جوهرية ودقيقة على خلفية التاريخ الاسلامي ذاته، وما شهده من مظالم على أيدي السلطات العائلية والأنظمة السلطانية، والاحتمالات التي تنطوي عليها عملية الانحياز الى الإسلام لجهة تعدد القراءات، فالقرآن حمال أوجه وفق القول المنسوب للإمام علي بن أبي طالب، والمسلمون اختلفوا منذ العقود الأولى على تأويل النص، حيث ما زلنا نذكر كلمات عمار بن ياسر في موقعة صفّين حين خاطب جيش معاوية قائلًا: «لقد قاتلناكم على التنزيل ونقاتلكم الآن على التأويل». فقد تعددت قراءات/تأويلات المسلمين للنص الديني، الى حد التناقض، وتعددت تصوراتهم وتقديراتهم لعلاقته بالأوضاع المتغيرة وباحتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية المتطورة والمتجددة.
يتفق دارسو الإسلام المعاصرون على وجود ثلاث قراءات أساسية سائدة في البلاد الإسلامية، حصروها تحت مسميات: الإسلام الرسمي، الإسلام الشعبي، الإسلام السياسي؛ ولكل قراءة منها سمات محددة: حيث يركز الإسلام الرسمي على ما في التراث الإسلامي من دعوة لإطاعة أولي الأمر والقبول بالخليفة بعد تغلّبه على السلطة، حتى لو كان فاجرًا، والرئيس/الملك/الأمير هو ظل الله على الأرض، والترويج لأطروحة الشورى مُعلِمة وليست مُلزِمة؛ في حين يقوم الإسلام الشعبي على خلطة من المفاهيم الدينية والتراثية والاجتماعية التي أفرزتها عهود الانطلاق والانحطاط والتخلف، حيث للإله أدوار كونية واجتماعية واقتصادية وسياسية يقوم بها عبر التدخل اللحظي لإدارة العالم، بما في ذلك حل مشكلات المسلمين الذين يتوجهون إليه بالعبادة والدعاء، في تجسيد شعبي لنظرية الأشاعرة في الفعل الانساني، والخلطة تتقاطع كثيرًا مع أدبيات الإسلام الرسمي لجهة التسليم للحاكم، ولي الأمر، مهما فعل، وهي الأدبيات التي شاعت في عهود القهر ونظّرت لها مدارس فقهية وفلسفية؛ بينما ينطلق الإسلام السياسي من اعتبار الإسلام يملك «الحل» لكل مشكلاتنا (لن يُصلح حاضر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها)، ويبرز مصدره الإلهي كدليل حاسم على صحة الخيار الإسلامي (الله أعلم بما ينفع عباده)، ويربط بين الأزمات الراهنة التي تعيشها الشعوب والدول الاسلامية والابتعاد عن الإسلام، ويدعو إلى العودة إليه للخروج من هذه الأزمات.
وقد تعددت حركات الإسلام السياسي وتباينت في قراءاتها/تأويلاتها للنص وللواقع، ما رتب اختلافًا في المواقف والممارسات والأساليب، حيث اعتمد بعضها الجهاد السلمي/الدعوي عبر نشر الفقه السلفي (ما يسمى السلفية العلمية – اقرأ: النظرية) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بينما اعتمدت أخرى الجهاد العنفي بتغيير المنكر باليد والسلاح.
بدأت إرهاصات النهوض في العالم الاسلامي مع ظهور فقهاء مجددين ودعاة للنهوض السياسي والاجتماعي (رفاعة رافع الطهطاوي، ابن أبي الضياف، محمد بن عبد الوهاب، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، رشيد رضا، عبد الرحمن الكواكبي، خيرالدين التونسي، محمد حسين النائيني)، فصرحوا بالمسكوت عنه (تخلف المسلمين وضعفهم، وانكشاف العالم الاسلامي أمام أوروبا الناهضة وانكسار قواته أمام الغزو الخارجي)، وأثاروا أسئلة حول المشكلات والتحديات التي تقف حجر عثرة في وجه نهوض المسلمين وعودتهم إلى المسرح الدولي ولعب دور في التطور والنمو الحضاري؛ كما لعبت عوامل كثيرة أخرى كمحفزات لقيام تنظيمات سياسية على خلفية إسلامية، لعل أهمها:
1) البعثات التبشيرية التي سبقت الحملات الاستعمارية، حيث تقدم المبشّر والتاجر والعسكري، مما استفز المسلمين بعامة، والفقهاء بخاصة.
2) إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924، الذي عمّق إحساس المسلمين بالمخاطر التي تواجههم.
3) سلوك الأنظمة الوطنية السياسي والاقتصادي، وتجاهلها للإسلام كمكون أساسي في الاجتماع العربي.
4) سلوك المدارس الفكرية الحديثة والقوى السياسية الوطنية غير الرسمية، حيث احتل الهجوم على الإسلام والشريعة الإسلامية مركزًا رئيسًا في نشاطات بعض هذه القوى، الماركسية بخاصة، بدءًا من إنكار وجود الخالق –الذي عايشناه في سورية في النصف الثاني من القرن الماضي– إلى اتهام الشريعة الإسلامية بالجمود والانحطاط.
5) استخدام الدين في الصراع الإقليمي والدولي، فقد حرّضت الولايات المتحدة الأمريكية عددًا من الدول العربية والإسلامية الموالية لها على تشكيل منظمة تقوم بدور «لجم حركة القومية العربية ومحاربة النظم الاشتراكية في العالمين العربي والإسلامي، ومعاداة المعسكر الاشتراكي»، والتي تشكلت عام 1965 باتفاق سعودي-إيراني تحت اسم منظمة «الحلف الإسلامي»، لتتحول بعد عام 1969 إلى منظمة «المؤتمر الإسلامي»، قبل أن يعاد النظر بالاسم مرة أخرى ليصبح منظمة «التعاون الاسلامي». وقد تجدد التحريض الأمريكي بُعيد الغزو السوفييتي لأفغانستان، حيث قامت المملكة العربية السعودية ومصر بتحريض الشباب العربي على الجهاد في أفغانستان من أجل تحريرها من الاتحاد السوفييتي «الكافر»، وقد أفرز هذا الجهاد ظاهرة الأفغان العرب وغير العرب التي تحولت فيما بعد إلى تنظيم القاعدة، أو السلفية الجهادية في تسمية أخرى.
صعود الإسلام السياسي
تشكلت حركات الإسلام السياسي وسط تذبذبات وانعطافات حادة، ترتبت على إرهاصات النهوض والانكسارات في ضوء القيود والعوائق الذاتية الناجمة عن انحطاط عميق ومديد داخل العالم الإسلامي، واصطدمت مع الأنظمة الوطنية، وتعرضت لقمع شديد أخرجها من المعادلة السياسية في بعض الدول، لكن القمع الشديد لم يفقدها مبررات الوجود والانتشار كلما أتاحت الظروف ذلك.
شكلت السجالات الفكرية بين فقهاء ومفكرين مسلمين ومستشرقين، وبين المسلمين أنفسهم، أرضية لقيام حركات إسلام سياسي. فمن رحم السجال الفكري والحراك الاصلاحي ودعوات التصدي للاستعمار والنهوض، خرجت تكوينات جنينية لعمل سياسي منظم على خلفية إسلامية: «العروة الوثقى» التي أطلقها جمال الدين الأفغاني (1897) ومحمد عبده (1905)؛ المؤتمر السياسي في مكة الذي تصوره عبد الرحمن الكواكبي (1902) في كتابه أم القرى؛ حركة المشروطة في إيران (1906) والحركة الدستورية في تركيا (1909)؛ قبل أن تنضج وتتحدد ملامحها في تشكيل الإخوان المسلمين (1928) على يد الأستاذ حسن البنا.
نشطت الحركة في تشكيل فروع لها في الدول العربية والإسلامية، وشكلت تنظيمًا دوليًا بهيكلية تبدأ بالمرشد العام ومجلس شورى وفروع في الدول الإسلامية يقودها مراقب عام. لعب الأستاذ البنا دورًا كبيرًا في تأسيس هذه الفروع عبر عمل مباشر بزيارة الدول العربية والإسلامية، فزار سوريا مثلاً عام 1937 والتقى فيها بأعضاء جمعية البرّ الإسلامية الخيرية، ونجح في تشكيل فرع للحركة فيها.
بقيت حركة الإخوان وحيدة في الساحة حتى ظهر حزب التحرير الإسلامي في مطلع خمسينيات القرن العشرين، أسسه الشيخ تقي الدين النبهاني، لكنه لم ينجح في البروز مثلها رغم أنه تفوق عليها نظريًا بطرح أُسُس سياسية (دستور إسلامي) ورؤية اقتصادية إسلامية، ولعب دورًا يوازي دورها نتيجة لرؤيته للعمل وفق نظرية النصرة: مطالبة ضباط في الجيش بنصرة الحزب والقيام بانقلاب عسكري وتسليم السلطة للحزب لينفذ هو فكرته عن نظام الحكم الإسلامي (تم تجاوز نظرية النصرة مؤخرًا باعتماد الجهاد المباشر، وتشكيل قوة مسلحة من قبل فرع الحزب في عدد من الدول كتركمانستان وإندونيسيا)، والدعوة لاستعادة نظام الخلافة، وقراءته السياسية النمطية التي ترى أن كل ما يدور في العالم من صراعات وما ينفجر فيه من أزمات، وما يحصل من مشكلات كله من صنع الإنكليز.
عنف الحركات السنية
اعتمدت حركة الإخوان المسلمين على المحاضرة والصحيفة والمجلة والكتاب والتربية والمدرسة والرحلات والمخيمات والأنشطة الاجتماعية في أسلمة حياة المجتمع في كل جوانبها، حيث كان منهاجها مرتبطًا بإيقاع: رجل مسلم في تفكيره وعقيدته، بيت مسلم في تفكيره وعقيدته، شعب مسلم، حكومة مسلمة. لكنها ما لبثت أن شكلت جناحًا عسكريًا تحت اسم «النظام الخاص»، وذلك بذريعة أن «الإمساك بالسلطة، التي لا تُطلب لذاتها بل لأنها أداة فعالة في سبيل الدعوة»، ضرورة، لأن الله «يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن»، وبالتالي فالجهاد «ضرورة حتمية»، كاشفةً عن نيتها استخدام القوة دون تحديد استراتيجية محددة، معتمدةً تكتيك سرّيّة التنظيم وعلنية الدعوة. قام «النظام الخاص» بعدة عمليات اغتيال، مثل اغتيال رئيس الوزراء المصري النقراشي باشا، والتي ذهب الأستاذ حسن البنا نفسه ضحية لها، واغتيال القاضي أحمد الخزندار، وقد أشير فيما بعد إلى فشل الأستاذ البنا في السيطرة على «النظام الخاص»، حيث تمرّد عبد الرحمن السندي على تعليمات المرشد العام، ثم حاول المرشد العام الثاني حسن الهضيبي (1953- 1973) بعد اختياره مرشدًا عامًا السيطرة على النظام الخاص لكن أعضاء هذا النظام قاوموا ذلك، وعندما تعاون المهندس سيد فايز (من كوادر النظام الخاص) مع المرشد العام قام أعضاء النظام الخاص باغتياله بطردٍ متفجر أُرسل إلى بيته يوم 21/11/1953.
اصطدمت الحركة بالنظام السياسي الجديد (نظام ثورة 23 تموز 1952)، ودخل الآلاف من أعضائها المعتقل، وهاجر منهم الآلاف إلى الدول العربية والإسلامية، السعودية بخاصة، حيث برز متغيران أساسيان: الأول تغير فكري بالانتقال إلى فكرة جاهلية المجتمع وتكفير الأنظمة وتبني أطروحة الحاكمية، التي أطلقها الباكستاني أبو الأعلى المودودي؛ والثاني التحاق الإخوان المسلمين بالسياسة الخليجية بعامة، والسعودية بخاصة، حيث حصل تلاقح فكري-سياسي بين النظرة الإخوانية، التي تكفر الأنظمة الحديثة، والسلفية الوهابية، التي تكفر المجتمع عبر التمييز بين توحيد الربوبية (ينطوي برأيها على الشرك) وتوحيد الألوهية (التوحيد الخالص) وترفض وجود أصول وفروع في الدين، كما تكفّر المختلف في الفروع كما في الأصول بحيث يصبح إيمان معظم المسلمين موضع تساؤل.
لقد اجتمع تكفير الأنظمة إلى تكفير المجتمع في نشاط سياسي امتد إلى كافة الدول الإسلامية، حيث وفّر المال السعودي والدعم السياسي إمكانيات كبيرة للتحرك. هذا دفع الفكر السلفي الوهابي إلى الانتشار عبر كوادر حركات الإخوان المسلمين في أصقاع الأرض، والاشتراك في معركة ضد الفكر الماركسي وضد الدول الشيوعية في إطار الحرب الباردة، التي كانت السعودية طرفًا فيها إلى جانب المعسكر الغربي. وقد ترتّب على بروز هذين العاملين قيام اتجاه أكثر راديكاليةً في التعامل مع الأنظمة والمجتمعات، دشّنه الأستاذ سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق»، ومحور فكرته قائمة على مفاصلة واعتزال الأنظمة «الكافرة» حتى تتمكن الطليعة المسلمة من إجراء تغيير قاعدي/شعبي وتُسقط هذه الأنظمة. لقد أقام الأستاذ سيد قطب نزوعه السياسي على جاهلية المجتمع، وكفّر الأنظمة ودعا إلى ضرورة اعتزالها وعدم المساهمة في حل مشكلاتها، حيث استنكر تقديم مقترحات وأنظمة تعالج الواقع الحالي للشعوب الإسلامية، واستهجن القيام بأية دراسات من هذا القبيل، واعتمد «الحاكمية» كأساس نظري لكل سلوك سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، ورفض الاستفادة من منجزات الحضارة الغربية. أفرز هذا التوجه، الذي تزامن مع سيطرة «النظام الخاص» على الحركة بعد عام 1973، خطًا متشددًا بين جيل الشباب بخاصة، بعد أن كان شيوخ الحركة قد رفضوا أطروحات الأستاذ سيد قطب حول جاهلية المجتمع و«الحاكمية»، فقد أصدر المرشد العام الثاني حسن الهضيبي كتابه «دعاة لا قضاة» عام 1969 للرد عليها، حيث أكد أن «نظرية ’الحاكمية‘ التي أخذها سيد قطب عن المودودي وألبسها سلوكًا اعتراضيًا جهاديًا ليست واردة في أية آية من آيات الذكر الحكيم، أو في أي حديث من أحاديث الرسول»، وأكد رفض الفكرة ومضاعفاتها، خاصة التكفير والإقصاء، واعتبر حركة الإخوان المسلمين جماعة «من» المسلمين وليست جماعة المسلمين، ولا تَعتبر مَن ليس معها أو خرج عليها غير مسلم. ودعا الدكتور محمد فتحي عثمان (أحد قادة الإخوان) إلى اجتثاث جذور الفكر الانقلابي عمومًا الذي يعتقد أن إزاحة أفراد وفرض أفراد بالقوة من الأعلى يكفي لإقامة نظام إسلامي ما دام الشعب مسلمًا بصفة عامة…
أطلقت أطروحة الأستاذ سيد قطب المتشددة نقاشات داخل الحركة وفي المجتمعات العربية والإسلامية، نجم عنها بروز تيارات فكرية ومواقف عملية أكثر جذرية من الحركة، إنْ في موقفها من الأنظمة أو من المجتمعات، عبرّت عن نفسها بحركات جديدة مثل تنظيم الجهاد وجماعة المسلمين… الخ.
«تنظيم الجهاد»، الذي خرج من تحت عباءة الإخوان المسلمين، أعاد صياغة أفكار الأستاذ سيد قطب وحولها إلى فكرة انقلابية جسدها كتاب زعيم الجماعة محمد عبد السلام فرج «الفريضة الغائبة» أي الجهاد، وهي تدعو إلى الانسلاخ عن المجتمع الذي وصمتْه بالكفر، وإلى إقامة تجمع إسلامي جديد خارجَه، وعندما يتمكن هذا التجمع ينقض على المجتمع الكافر ليدمّره ويزيله ويقيم المجتمع الإسلامي من جديد. ودعت «جماعة التكفير والهجرة» بقيادة شكري مصطفى إلى مفاصلة المجتمع الكافر ومهاجمته بكل الطرق. كما تبنت «جماعة شباب محمد» بقيادة صالح سرية خيار الانقلاب العسكري. وكلها مارست ذلك باستخدام العنف، كهجوم «شباب محمد» الفاشل على الكلية الفنية العسكرية في القاهرة عام 1974؛ وخطف واغتيال «التكفير والهجرة» لوزير الأوقاف المصري الدكتور محمد حسين الذهبي عام 1977؛ وكذلك اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981، والاعتداء على المال العام وعلى السواح الأجانب… الخ؛ وقام نظيرها الجزائري بذبح أسر كاملة أطفالًا وشيوخًا ونساءً، دون تمييز. حتى الحركات المعتدلة، مثل «جمعية الشبيبة الإسلامية» في المغرب، لم تنجُ من جرثومة العنف، فقد قامت عام 1975 باغتيال المحامي عمر بن جلون (عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية)؛ وتبنت «جماعة التبليغ» المغربية مواقف متطرفة، خاصة وهي –حسب الدكتور عابد الجابري– «تستند إلى ما هو حاضر دومًا في نفوس ووجدان أفراد الطبقات المتوسطة … الدين»؛ و«حركة النهضة» التونسية التي هاجم أعضاء منها مقرًا للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم في حي القصبة في العاصمة تونس يوم 17/2/1991 وضربوا أعضاء من الحزب المذكور كانوا يناوبون فيه قبل أن يصبوا عليهم البنزين ويوقدوا فيهم النار وهم أحياء. ولم يجد الأستاذ راشد الغنوشي في ما حصل، وهو رئيس «النهضة» المصنف كمعتدل، سوى رد فعل على عنف السلطة. كذلك فعل المشايخ الوسطيون كالشيخ محمد الغزالي، الذي شهد محاكمة قتلة الكاتب المصري فرج فودة، وكان قد أفتى بقتله بعد أن اعتبره مرتدًا، فقال «بجواز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان هذا افتئاتًا على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة، وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة»، مع أن الشيخ الغزالي كان موجودًا في المناظرة التي قُتل إثرها فودة، وسمع الأخير يقول أمام الملأ: «الدين أسمى وأجل من توريطه في الحزبية والسياسة المباشرة» (فيديو المناظرة 1992).
أما حركة الإخوان المسلمين في سورية فقد تميزت في بدايتها باعتمادها على العمل الإيجابي والسلمي، الذي تبناه المراقب العام الأول الدكتور مصطفى السباعي وزميله محمد المبارك، والاستفادة من منجزات الحضارة الغربية، ولم تنصّ في وثائقها التأسيسية على تطبيق الشريعة الإسلامية، فالسباعي هو الذي عدّل مادة «الإسلام دين الدولة» في دستور عام 1950 وحوّلها إلى «الإسلام دين رئيس الدولة، والشريعة الإسلامية مصدر أساسي للتشريع»، وكان قد اقترح إضافة مادة إلى الدستور تقول: «المواطنون متساوون في الحقوق، لا يحال بين مواطن وبين الوصول إلى أعلى مناصب الدولة بسبب الدين أو الجنس أو اللغة» لكن لم يؤخذ بها، كما أيد التوجهات الاشتراكية لرئيس الجمهورية (جمال عبد الناصر أيام الوحدة)، وأصدر كتاب «اشتراكية الإسلام» عام 1959، وأيد قانون الإصلاح الزراعي.
غير أن الأوضاع داخل الحركة تغيرت بعد وصول مجموعات من حركة الإخوان في مصر كانت قد فرت بعد حملة النظام المصري عليهم في العام 1953، ونقلها بذرة استخدام العنف إلى أوساط الحركة السورية على خلفية الاتعاظ بالتجربة وعدم الثقة بالأنظمة الوطنية التي لا تتبنى الخيار الإسلامي. وقد وجد هذا التوجه مبرراته في توجهات السلطة السورية بعد 8/3/1963، ودخل حيز الممارسة بالانتقال إلى المجابهة المباشرة التي جسدها اعتصام حماه نيسان 1964، والذي دام 29 يومًا احتجاجًا على أطروحات «حزب البعث العربي الاشتراكي» الحاكم، الذي سيطر على الدولة عبر انقلاب عسكري، وعلى توجهاته التي اعتبروها معادية للإسلام، وخاصة أطروحات الأستاذ زكي الأرسوزي الذي اعتبر العصر الجاهلي العصر الذهبي للعرب. وقد عمّق الفجوة وكرّس التشدد قيام السلطة بالرد على الاعتصام بقصف المسجد، حيث الاعتصام، بالدبابات والمدفعية. كان المراقب العام الأستاذ عصام العطار قد عكس الثقافة السائدة في أوساط قيادة الحركة في رده على إخوان حماه الذين طالبوه بالمشاركة في العصيان أو تأييده، بالقول إنه «لا يؤمن بالوصول إلى السلطة إلا بالوسائل الديموقراطية ولو كلفه ذلك خمس مائة عام من الانتظار».
وقد تعمق هذا التوجه إثر هزيمة 67، حيث شكلت الحركة السورية فصيلًا مقاتلًا بالاتفاق مع حركة «فتح» وتحت رايتها في أغوار الأردن للمشاركة في القتال ضد إسرائيل، وهذا قدّم خبرات عسكرية أتاحت فرصة تشكيل نواة «الطليعة المقاتلة» التي شكلها مروان حديد فيما بعد. وقد فاقم الأوضاع توجه السلطة السورية بشأن دين رئيس الجمهورية ودور الشريعة الإسلامية في دستور عام 1973، وهذا أعطى المتشددين في الحركة، من أمثال مروان حديد وعبد الستار الزعيم وعدنان عقلة، تبريرًا عقائديًا لممارسة العنف، حيث دعوا إلى الجهاد ضد السلطة «الكافرة»، باعتباره فرض عين، وشكّلوا الطليعة المقاتلة لحزب الله عام 1975، والتي بدأت بالاغتيالات على أساس طائفي، على خلفية استثمار الغضب الشعبي العميق من ممارسات النظام التمييزية بين المواطنين –كإعطائه أفضلية لأبناء الطائفة العلوية في الوظائف العامة، وخاصة في الجيش والمخابرات، سعيًا منها لجذب المواطنين الى صفوفها، لكنها لم تنجح في ذلك لأن الثقافة السياسية والاجتماعية السائدة في المجتمع السوري لم تتقبل هذا السلوك.
لم يقبل النظام إعلان قيادة الحركة أن لا علاقة لها بالطليعة المقاتلة، وأصدر القانون 49 لعام 1980 القاضي بإعدام المنتسبين للحركة، ما زاد في حدة العنف الذي ذهب ضحيته الآلاف، وطال الدمار مدنًا آخرها حماه عام 1982.
كشفت المواجهة التي استمرت متقطعة لعدة سنوات (1976- 1982) عن وجود انقسام عمودي داخل حركة الإخوان المسلمين، بين تيار شامي/دمشقي سلفي سلمي، وآخر حلبي صوفي صدامي، وقد قامت قيادة الحركة ––من التيار الشامي آنذاك– بفصل الطليعة المقاتلة، وسمّت أعضاءها بالفوضويين، لكن هذا لم يوقف قضم الطليعة المقاتلة لقواعد الحركة وهيمنتها على عقول شبابها، إلى درجة أن قياديًا في الإخوان هو الدكتور حسن هويدي لم يستطع قبول صفقة عرضها عليه حافظ الأسد في اجتماع بينهما شهر أيلول عام 1979 قائمة على وقف العنف والعمل كحركة دعوية بشكل علني ورسمي. وقد زاد الأوضاع دقة إعلان عدنان عقلة بعد مجزرة مدرسة المدفعية 16/6/1979 عن حركته باسم الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين، في محاولة منه لجر الحركة إلى ما أسماه الجهاد. وقد قادت الاعتقالات الواسعة التي قامت بها السلطة في صفوف الحركة بعد تحميلها مسؤولية العمليات، إلى دخولها في «المعركة»، حيث أعلن الأستاذ عدنان سعد الدين –المراقب العام– التعبئة العامة والمواجهة، قبل أن تعود إلى التوجه السلمي عام 1985، حيث دخلت في مفاوضات مع السلطة وطالبت بإلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وتعليق الدستور، ووضع دستور جديد، وإطلاق الحريات العامة والخاصة، وضمان حرية التفكير والتعبير والحقوق السياسية لجميع المواطنين دون تمييز أو استثناء، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وتشكيل جمعية تأسيسية تضع دستورًا جديدًا، واعتبار الجيش مؤسسة وطنية تمثل الشعب كله وليس فئة أو طائفة أو حزبًا، قبل أن تنقطع المفاوضات بين الطرفين عام 1997، حيث أعلن مجلس شورى الجماعة في آذار 1998 «أن السلطة أرادت تحميل حركة الإخوان المسلمين مسؤولية كل الأخطاء التي حصلت، ورفض مصالحة من هذا النوع، وأكد توجهه السلمي وتصعيد نضاله السياسي من أجل إجراء تحول ليبرالي عميق وشامل في البنيات السياسية والاقتصادية». وقد تأكد هذا التوجه السلمي في ميثاق العمل الوطني الذي أعلنته الحركة عام 2002، والذي تبنى الحل السلمي والنظام الديموقراطي في إطار التعددية السياسية الحقيقية. نشير إلى أن السلطة السورية اتخذت موقفا سلبيًا من الميثاق، وهذا دفع المتشددين في الحركة إلى التمرد على الخط السياسي الذي تبناه المراقب العام السابق (علي صدر الدين البيانوني)، حيث أعلنوا في بيان لهم «أن السلطة لا تفهم إلا لغة القوة».
تطوّرت الحركات الجهادية خلال معركة تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي، حيث نشأ تيار جهادي شديد التطرف تحت اسم القاعدة (تكون الاسم بشكل عفوي ومتدرج، بدأ بإطلاق اسم القاعدة على مكتب في مدينة بيشاور الباكستانية لتسجيل المجاهدين القادمين من دول العالم الإسلامي للجهاد ضد السوفييت في أفغانستان، ثم أطلق اسم القاعدة على المقاتلين الذين تسجلوا في هذا المكتب –مقاتلي القاعدة– قبل أن يتحولوا إلى تنظيم بهذا الاسم)، وهو تيار يعطي الأولوية لقتال العدو القريب. لعبت المخابرات الأميركية دورًا في نشوء ظاهرة الأفغان العرب، حيث اشتمل التدريب الذي قدمته لهؤلاء المقاتلين على ملاحظات سياسية حول أنظمة الدول التي جاؤوا منها، وما فيها من فساد وتمييز وسياسات لا تخدم المواطنين، وحولتهم إلى ناقمين، وهكذا أطلقت الطريدة وستعمل على اصطيادها تحقيقًا لأهداف إقليمية ودولية، فعادوا بعد انتهاء معركة تحرير أفغانستان إلى تحرير بلادهم من الأنظمة الفاسدة، فانفجر العنف في مصر واليمن والجزائر، قبل أن يدفعه العدوان الأميركي على العراق عام 1991 إلى تعديل أولوياته بتقديم ضرب المصالح الأميركية في كل دول العالم، وصولًا إلى مهاجمة نيويورك وواشنطن.
في السياق، نشأت السلفية الجهادية من اتفاق أيمن الظواهري وأسامة بن لادن على تشكيل «الجبهة الإسلامية العالمية لمواجهة الصليبيين واليهود والأمريكان» بدمج تنظيم الجهاد الإسلامي المصري في الخارج بتنظيم القاعدة، فتحول تنظيم القاعدة، الذي كان حسب مدير مكتب راند كربوريشن في واشنطن بروس هوفمان «منظمة إقليمية ذات برنامج يتسم بالتعقل والحذر»، ووصل إلى ما هو عليه الآن: تنظيم ذي امتدادات في عدة دول ببرنامج عالمي، منظمة عالمية تحالفت عبر الظواهري مع مجموعات إقليمية في الجزائر والمغرب والفيليبين وكشمير والشيشان وأندونيسيا. وقد أدى هذا الاندماج إلى تطوير الرؤية الجهادية العالمية وتطوير القدرات القتالية والإرهابية أيضًا. لقد أحضر الظواهري الرؤية والأشخاص (المحاربين والمهنيين) من تجربة تنظيم الجهاد الإسلامي المصري، مما جعل بالإمكان القيام بتفجيرات متزامنة في السفارتين الأميركيتين في نيروبي ودار السلام، ناهيك عن مهاجمة المدمّرة كول وناقلة النفط الفرنسية في سواحل اليمن وتفجيرات المغرب والرياض وقطارات مدريد. وقد تشكلت فروع محلية لهذا التنظيم في دول الخليج (قاعدة الجهاد في جزيرة العرب) والمغرب العربي (قاعدة الجهاد في المغرب الاسلامي) والعراق (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين)، حيث قاد الاحتلال الأميركي للعراق إلى دمج العدوين البعيد والقريب في بقعة جغرافية واحدة، وزاد تكفير هذه الحركات للشيعة وهدر دمهم، في تفاقم العنف في العراق وأخذه اشكالًا أكثر دموية ووحشية، وأخيرًا «الدولة الإسلامية في العراق والشام» و«جبهة النصرة لأهل الشام» في سوريا.
خلفية عنف الحركات السنية
تنطلق حركات السلفية الجهادية من رؤية شرعية تستبطن منهجًا يعتمد تصنيف القوى والأنظمة والمجتمعات على قاعدة إيمان/كفر، أضاف الأستاذ منير شفيق الذي انتقل عام 1980 من المسيحية والماركسية الى الإسلام في كتابه «النظام الدولي الجديد وخيار المواجهة» تصنيف الدول الى دولة مؤمنة ودولة كافرة، ويعتبر «الكفار» أعداء لها، ويقسمهم إلى أعداء قريبين (الدول العربية والإسلامية ومجتمعاتها) وأعداء بعيدين (الدول الأجنبية ومجتمعاتها)، مع إبراز التعاون القائم بين هؤلاء الأعداء، ويرى المخالف، حتى في الفروع، كافرًا، وبالتالي دمه مباح، وبحسب فتوى الأردني المدعو أبو قتادة دمه وماله ونسائه وأولاده كل ذلك مباح. وقد كرّس تقسيم بن لادن العالم إلى فسطاطين العنفَ كخيار أبدي، والحقيقة أنه موقف قديم سبق طرحه من قبل فقهاء عبر تقسيم العالم الى دار إسلام ودار حرب.
وقد زاد في دوافع التشدد والغلو انتشار القوات والقواعد الأميركية في الدول العربية والإسلامية بُعيد حرب الخليج الثانية واحتلال العراق، حيث أضيف إلى أطروحة «التكفير» تهمة «الخيانة». وهذا أدى إلى ازدياد عمليات القتل واتساع نطاق المستهدفين، فالذي يعمل مع القوات الأميركية، بغض النظر عن طبيعة عمله، والذي يعمل في برامج إعادة الإعمار في العراق، والذي يأتي لتغطية الأوضاع (صحافة تلفزيون الخ)، والقوى السياسية التي تشارك في العملية السياسية في ظل الاحتلال، كل هؤلاء دمهم مباح. لقد حصل ما حذّر منه عالم الاقتصاد الأميركي ليندون لاروس (الشرق الأوسط، 3/12/2001) في إطار تحفظه على السلوك العسكري الأميركي الذي تلا هجمات 11/9، حيث قال: «سيقاتل مليار مسلم أحدهم الآخر، وكلَّ من حولهم، عندما يستفزهم ما يجري في الشرق الأوسط، وتتوسع هذه الحرب إلى مناطق أخرى».
عمليات القتل الجماعي، التي قامت بها منظمة قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين عبر تفجير السيارات في التجمعات ضد رجال الشرطة والحرس الوطني ومساجد وحسينيات الشيعة في العراق، وهجمات تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وعمليات القتل والذبح التي شهدتها مصر والجزائر والشيشان… الخ، كشفت عن خلل في الرؤية الشرعية والسياسية عند هذه الحركات، فالباحث في بنية هذه الحركات ورؤاها الفكرية يلمس هشاشة أساسها الإسلامي القائم على حرمة النفس الإنسانية، حيث أن معظم مؤسسي وقادة هذه الحركات يعتمدون قراءة انتقائية، ولا ينطلقون من قراءة شاملة للفقه الإسلامي ومقتضياته. فقد لاحظ د بحق الدكتور قدري حفني، أستاذ علم النفس السياسي في جامعة القاهرة، «أن معظم أمراء الجماعات الإسلامية وكوادرها ليسوا من طلاب العلم الشرعي: بن لادن رجل أعمال، أيمن الظواهري طبيب، محمد عبد السلام فرج موظف في ديوان جامعة القاهرة، شكري مصطفى مهندس زراعي، عبود الزمر ضابط في الجيش… الخ. وهذا جعلهم أحاديين ومتشددين، لأن طلاب العلم الشرعي يدرسون المذاهب الإسلامية والمقارنة بينها، فيدركون التعددية والنسبية التي ينطوي عليها التشريع الإسلامي». يعيدنا هذا إلى مقولة منسوبة إلى الحسن البصري مفادها «تعلموا قبل أن تتعبدوا، لأن الذين يتعبدون دون علم كثيرًا ما يتحولون إلى غلاة ويصلون في سلوكهم حد القتل»، وإن مرجعية هذه الحركات الفكرية محدودة في عدد من الفقهاء، وقد كان لافتًا أن تنظيم الجهاد الإسلامي في مصر، الذي تبنى العنف في بداية ظهوره، قد اعتمد في مبادرته لوقفه عام 1997 على ذات المرجع الذي اعتمده عند تبنيه إياه: فتاوى ابن تيمية حول الكفر والردّة والتترس. وهنا نشير الى حقيقة في غاية الخطورة، فقد ترتب على اتساع نطاق التجربة الإسلامية، مكانًا وزمانًا، ومراحل الانحطاط الطويلة التي مرت بها أمة الإسلام، وتضخم الفقه، ولادة حالة يمكن وصفها بـ«التذرر» الفقهي، وبالتالي المجتمعي، حيث صار بإمكان كل منا أن يدعم موقفه الراهن بالاستناد إلى واقعة تاريخية أو رأي فقهي لفقيه أو أكثر، فصار المسلمون موحدين في العنوان مختلفين في البيان، وهذا جعل وضع تصور إسلامي محدد وموحد مسألة بالغة الصعوبة والأهمية في آن.
المحددات التي اعتمدتها الحركات الجهادية بجذرها السلفي (الإخواني والوهابي)، بدءًا من توحيد الألوهية وتوحيد الذات والأفعال إلى توحيد الصفات وصولاً إلى الإطلاقية التي ترفض وجود أصول وفروع في الدين، أفرزت شخصية متعصبة وممارسات عنفية، فالالتزام بالمعايير الذهنية والسلوكية لهذه الحركات لا يقيد الإنسان وحسب، بل ويجعله سلبيًا ومنفصلًا عن الآخرين، يجعله خارجيًا، منشقًا، عنيفًا وعدوانيًا، فالتعصب بحسب الدكتور قدري حفني «ميل لإصدار حكم مسبق يتصف بالجمود حيال موضوع معين»، ويضيف: «لعل أوضح أشكاله وأكثرها شيوعًا هو ما يطلق عليه تعبير ’الصور أو القوالب النمطية‘، التي تتصف بعدة خصائص، لعل أهمها:
1) أنها أحكام أو أفكار قبلية، بمعنى أنها لا تقوم بناء على الخبرة المباشرة الموضوعية.
2) التبسيط الزائد، ويقصد بذلك استخدام صفة واحدة أو عدد قليل من الصفات في وصف عنصر بشري بأكمله أو أمة بأكملها.
3) التعميم المبالغ فيه، ويقصد به أن ننسب الخصائص لكافة الأفراد الذين ينتمون لجماعة معينة دون استثناء، رغم حقيقة وجود اختلافات وفروق فردية بين أفراد كل جماعة بشرية.
4) الثبات والجمود ومقاومة التغيير مهما تغيرت المعطيات الواقعية» (البوابة، 24/12/2012).
عنف الحركات الشيعية
اعتمدت حركات الإسلام السياسي الشيعي مقاربةً للعنف تختلف شكلًا عن مقاربة حركات الإسلام السياسي السني، حيث اتجهت مباشرة إلى تشكيل ميليشيات مسلحة علنية للدفاع عن مصالح الطائفة الشيعية وتحقيق مطالبها. فقد قام السيد موسى الصدر الإيراني، الذي جاء إلى لبنان عام 1958، بتأسيس «حركة المحرومين» عام 1975 تحت يافطة «الرد على أطماع إسرائيل في لبنان ومنع توطين الفلسطينيين فيه»، والتي شكلت بدورها جناحًا عسكريًا تحت اسم «حركة أمل»، وسلم الإيراني مصطفى شمران، والذي أصبح أول وزير للدفاع في إيران بعد الثورة عام 1979، المسؤولية التنظيمية للحركة، وأكمل الصدر برنامجه بتأسيس جمعية «كشافة الرسالة الإسلامية»، لتأطير الأطفال من 7-18.
انخرطت الحركة في القتال مع إسرائيل خلال اجتياح 1982، ولكنها ما فتئت أن وقعت تحت نفوذ النظام السوري الذي استخدمها في الصراع الداخلي اللبناني، والتضييق على الفلسطينيين بعامة وكوادر حركة فتح بخاصة، في ضوء خلافه مع ياسر عرفات عام 1983، ودفعها بين عامي 1985-1987 إلى شن هجوم واسع على مخيمات بيروت (مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة) وتدميرها، قامت خلال الهجوم باقتحام مشفى غزة في مخيم صبرا وشاتيلا، وقتلت الجرحى والطواقم الطبية فيه (45 جريحًا)، وقد قتلت في حربها تلك على المخيمات بحدود الـ1500 فلسطيني بالرصاص وذبحًا بالسكاكين وحِراب البنادق.
مع قيام الثورة الإسلامية في إيران برز تيار داخل الحركة يتبنى رؤية الخميني ونظرية ولاية الفقيه، تزعّمه الثنائي العائد من النجف عباس الموسوي وحسن نصرالله، وقد شكّل هذا التيار عام 1982 «حركة أمل الإسلامية» برعاية ودعم إيراني مباشر، حيث أرسلت إيران إلى البقاع اللبناني فريقًا من الحرس الثوري قوامه 1500 عنصر لتدريب الحركة الوليدة، مع تزويدها بالمال والسلاح.
في عام 1985 تبنت حركة أمل الاسلامية اسمًا جديدًا هو «حزب الله»، الذي افتتح عمله «الجهادي» بعمليات «استشهادية» ضد القوات الأمريكية والفرنسية في بيروت قُتل فيها نحو من 300 جندي، وتبنّى سياسة خطف الرهائن للتأثير في مواقف الدول، وشكّل لذلك منظمة خاصة تحت اسم «منظمة الجهاد الإسلامي»، التي قامت بخطف عشرات المواطنين الغربيين (بحدود الـــ100 مواطن في 75 عملية اختطاف). أما أشهر الرهائن فهم: الأمريكي دايفيد دودج، مسؤول فرع وكالة المخابرات الأميركية في الشرق الأوسط ويليام باكلي، القائم بأعمال السفارة السويسرية في لبنان إيرك ولرلي، الباحث الفرنسي المسؤول عن مركز دراسات الشرق الأوسط المعاصر ميشيل سورا (اختُطف يوم 22/3/1985 وأُعلنت تصفيته باعتباره جاسوسًا يوم 5/3/ 1986، وقد رُبط بين تصفيته وتأليفه كتاب «سوريا، الدولة البربرية» انتقد فيه النظام السوري)، مراسل التلفزيون الفرنسي مارسيل كودري، الصحافي الأمريكي تشارلز غلاس، ضابط المخابرات الأمريكي ورئيس فريق فض النزاعات التابع للأمم المتحدة في لبنان العقيد ويليام هيغنز، الوسيط الإنكليزي المعروف تيري ويت… وقد انحصر خطف الرهائن في البداية بالشخصيات المهمة، لكن بعد مغادرة الرعايا الغربيين للبنان، وبخاصة الأمريكيين، جرى خطف أفراد عاديين للتأثير في الرأي العام الغربي لكي يضغط على حكومات بلاده لتحقيق مطالب الخاطفين، كما قام الحزب بعمليات تفجير في الخارج (تفجيرين ضد السفارة الاسرائيلية عام 1992 ومركز يهودي عام 1994 في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس وتفجير باص سياح في بلغاريا 18/7/2012).
اقتتلت حركة أمل وحزب الله عام 1987 على خلفية تمثيل الشيعة، وقف النظام السوري في حينها إلى جانب حركة أمل لأن علاقته مع الحزب لم تكن قوية آنذاك، وقد توثقت عام 1989 بعد مؤتمر الطائف، قبل أن يتوصلا إلى صيغة توزيع أدوار مع أرجحية للحزب، وتُرك هامش للحركة تتحرك فيه، واستخدمها في المنعطفات الحساسة للعب دور المهدئ والإطفائي.
تبنت حركة أمل وحزب الله سياسة إقصائية بإلزام أبناء الطائفة الشيعية بالانخراط في منظمات شيعية حصرًا، والضغط على مثقفي الطائفة وناشطيها، الذين شكلوا في السابق قاعدة واسعة للمنظمات الفلسطينية (كان القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية عنصرًا في أمن حركة فتح) وللأحزاب القومية واليسارية، لترك هذه الأحزاب والالتحاق بأحدهما أو تحمّل تبعات ذلك. وقد استخدم حزب الله العنف ضد الرافضين منهم، حيث قام باغتيال المفكرَين الشيوعيين الدكتور حسين مروة (17/2/1987)، والدكتور حسن حمدان الشهير باسم مهدي عامل، (18/3/1987) والكادرين الشيوعيين سهيل طويلة (24/2/1986) وخليل نعوس (21/2/1986).
في مرحلة لاحقة، وبعد أن احتل الحزب موقعًا متقدمًا في المخطط الإيراني السوري، تبنّى أسلوب الاغتيال لتصفية المعارضين لسوريا من السياسيين اللبنانيين. وقد اتهمت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان خمسة من عناصره باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، كما اتهمه خصومه اللبنانيون باغتيال جبران تويني ووليد عيدو وبيير الجميل وبقية الـ14 شهيدًا، وبمحاولة اغتيال مروان حمادة، واغتيال اللواء وسام الحسن. روى الشهيد سمير قصير قبيل استشهاده أنه لاحظ أن سيارة تتبعه في كل تحركاته في بيروت، فتحدث عن الموضوع مع الصحفي المقرب من حزب الله إبراهيم الأمين، رئيس تحرير جريدة الأخبار التابعة للحزب، والذي أجرى اتصالات بجهات في الحزب فتوقفت المتابعة. وقد دفعت إيران الحزب للانخراط في القتال إلى جانب النظام السوري في المواجهة المحتدمة بينه وبين الثورة الشعبية، فأرسل مقاتليه إلى الأراضي السورية تحت ذرائع وادعاءات عمّقت الشرخ المذهبي بين السنة والشيعة. لم يكتف بانخراطه هو، بل سعى إلى تحريض الشيعة في الدول العربية على ذلك، فقد أرسل وفدًا كبيرًا (55 عضوًا من قيادته) إلى النجف للمشاركة في الاحتفال بذكرى ميلاد المهدي، الذي يصادف يوم 15 شعبان، وحضّ الشيعة المشاركين في الاحتفال على «الجهاد» في سوريا.
في حرب الـ33 يومًا عام 2006، خاض الحزب قتالًا بطوليًا، فقد صمد في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية، وأفشل الهجوم ومنع جيش العدو من تحقيق أهدافه، لكن القرار 1701 أبعده عن الحدود وقيد حركته، وهذا دفع خصومه السياسيين في تكتل 14 آذار الى المطالبة بنزع سلاحه فردّ باستخدام قدراته العسكرية، واجتاح بيروت في 7 آيار 2008، وأطلق ظاهرة أصحاب القمصان السوداء لترهيب خصومه، وقد أقدموا على قتل هاشم السلمان عضو حزب الانتماء اللبناني الشيعي أمام السفارة الإيرانية في بيروت.
في العراق، اتجهت حركات الإسلام السياسي الشيعي، وتحت تأثير انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، إلى تشكيل أجنحة عسكرية وإلى خوض مواجهة مباشرة مع النظام العراقي والعمل على تنفيذ برنامجها السياسي وتحقيق أهدافها بالقوة. ففي نهاية عام 1980 شكّل محمد باقر الحكيم، بدفع من آية الله الخميني، منظمة بدر (فيلق بدر) والتي تلقت التدريب على أيدي الحرس الثوري الإيراني الذي زوَّدها بالأسلحة الخفيفة والثقيلة بما في ذلك المروحيات، والتي بدأت عملياتها العسكرية ضد النظام العراقي بعد فتوى آية الله محمد باقر الصدر بمواجهة النظام العراقي بالقوة باعتبارها «واجبًا شرعيًا»، وقد خاضت ضده معارك كبيرة، وقصفت القصر الجمهوري 1998، واغتالت قيادات عسكرية وأمنية بما فيها محاولة اغتيال عدي صدام حسين 1996.
كما شكّل محمد طبطبائي وقيس الخزعلي وأكرم الكعبي، بدفع إيراني أيضًا، كتائب «عصائب أهل الحق» (نيسان 2003) التي شنت عمليات ضد القوات الأمريكية في العراق بدءًا من عام 2004، وقد أعلنت أنها نفذت 6000 عملية، قبل أن تنخرط في الحرب الطائفية ضد السُنّة التي شهدها العراق بين عامي 2006- 2008، وهي تشارك الآن في القتال إلى جانب النظام السوري بحجة حماية المزارات الشيعية في سوريا.
كما تشكلت عام 2003، برعاية إيرانية أيضًا، كتائب مقاتلة: كتيبة أبي الفضل العباس، وكتيبة كربلاء، وكتيبة زيد بن علي، لتجتمع تحت اسم موحد هو «كتائب حزب الله العراقي»، وأخيرًا جيش المختار الذي يقوده واثق البطاط، وقد قامت هذه الكتائب بعمليات ضد قوات الاحتلال الأمريكي، قبل أن تنغمس في الحرب الطائفية مع السنة في الفترة من 2006 إلى 2008، ثم لتنتقل عناصر كتيبة أبي الفضل العباس إلى سوريا للقتال إلى جانب النظام السوري. هذا وقد تحدث البطاط عن القتال في سوريا باعتباره مصداقًا للروايات الشيعية عن القتال مع «المهدي» ضد «السفياني» في بلاد الشام، واعتبر الجيش السوري الحرّ هو جيش السفياني، وقال إنه يُعِدّ جيشًا لغزو السعودية وقتل الكفار والصلاة في الحرم.
كما قام مقتدى الصدر في أواخر عام 2003 بتأسيس تنظيم عراقي مسلح تحت اسم «جيش المهدي»، مكون من مقلِّدي والده السيد محمد صادق الصدر، لمواجهة القوات الأمريكية، فقد اتخذ من قتل متظاهرين من أنصاره محتجين على إغلاق صحيفة «الحوزة» ذريعة مباشرة لبدء المواجهة مع القوات الأمريكية. وقد قام الجيش المذكور، أو ما يسمى بفرق الموت، بعمليات خطف وقتل جماعي ضد السنة العراقيين وضد من يخالفه الرأي في بغداد والبصرة وبعض مدن الجنوب الأخرى، فأعمال القتل والذبح الرهيبة والإبادة الجماعية والتهجير الطائفي القسري لسنّة بغداد وديالى، التي حدثت بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006، كانت بمشاركه من عناصر من جيش المهدي وبأوامر مباشرة من مقتدى الصدر نفسه. وقد شاركت عناصر من جيش المهدي في القتال إلى جانب النظام السوري في منطقة السيدة زينب، لكن التيار الصدري أعلن تعليقًا على مقتل أبو درع في سوريا أنه غير معني بالموضوع لأن القتيل منشق عن الجيش، وأكد أن زعيم التيار طالب الأجهزة الأمنية في أكثر من مناسبة باعتقال أبو درع، المشهور بسفاح بغداد، مشددًا على رفضه تدخُّل الأطراف العراقية في الشأن السوري.
أما في اليمن حيث ينتشر المذهب الزيدي، وهو مذهب شيعي أخذ بعض نظرياته عن حركة المعتزلة، فتشكلت في شماله حركة أنصار الله، وهي حركة سياسية دينية مسلحة، عرفت باسم «الحوثيين» نسبة إلى مؤسسها حسين الحوثي، وقد اتخذت من مدينة صعدة مركزًا رئيسًا لها.
اتهمت الحركة الحوثية الحكومة اليمنية بالتمييز ضد الزيدية، واتهمت السعودية بدعم النظام اليمني والجماعات الجهادية السلفية بالأموال لقمع المذهب الزيدي، بينما اتهمتها الحكومة بالتخطيط لإسقاطها وإقامة نظام قائم على مبدأ الإمامة الذي كان قائمًا في اليمن قبل ثورة 1962، وبالقيام بنشاطات شبيهة بما يقوم به حزب الله في لبنان، بما في ذلك التحريض على الولايات المتحدة في المساجد. خاضت الحركة بدءًا من عام 2004 ستة حروب مع حكومة علي عبد الله صالح، وحربًا سابعة مع السعودية في ما عرف بنزاع صعدة.
اتهمت اليمن إيران بدعم جماعة الحوثيين والتدخل في الشأن الداخلي اليمني وزعزعة استقرار البلاد، وأعلنت في عام 2009 ضبطها لسفينة إيرانية محملة بالأسلحة مرسلة لدعم الحوثيين. وقد نفت طهران الاتهامات.
جددت الحكومة اليمنية تأكيداتها بشأن الدعم الإيراني للحوثيين، وضبطت يوم 23/1/2013 السفينة «جيهان 1» المحملة بـ 48 طنًا من الأسلحة والمتفجرات وصواريخ مضادة للطائرات قادمة من إيران، وتقدمت بطلب لمجلس الأمن الدولي للتحقيق في القضية وقد استجاب مجلس الأمن لطلبها لكن النتائج لم تعلَن الى الآن.
لقد لعبت عدة عوامل دورًا كبيرًا في انتشار حركات الإسلام السياسي، والجهادية بخاصة، وكسبها الأنصار والمتعاطفين، أهمها:
1) الإسلام، فتبني المرجعية الإسلامية له جاذبيته، ذلك أنه يضع صاحبه في تطابق واتساق مع عقيدة المجتمع، فيجعل قدرته على التواصل والتفاهم مع المواطنين عالية واستقطابهم وتحشيدهم كبيرًا.
2) دعم أمريكا لإسرائيل التي اغتصبت فلسطين، ونكّلت وما تزال بالفلسطينيين، واعتدت باستمرار على الدول العربية، إضافة لاحتلال العراق وأفغانستان وتدميرهما.
3) الدعوات العنصرية ضد الإسلام والمسلمين، والتعبئة ضدهما، وارتفاع حدة الاحتكاكات والمواجهات في عدد من الدول الأوروبية عبر قرارات رسمية (منع الحجاب في فرنسا) أو حزبية (دعوة أحزاب يمينية في هولندا والدنمرك وبلجيكا لطرد المسلمين) أو حملات إعلامية (الرسوم الكاريكاتيرية التي أساءت للرسول عليه السلام) وفي أمريكا (التحريض على الإسلام ووصفه بالدين الإرهابي، وقيام بعض القساوسة بحرق القرآن الكريم وتصوير أفلام تشهّر بالإسلام).
4) موقف الغرب السلبي من الثقافة الإسلامية، وعدم اعترافه بالتعددية الثقافية في العالم، وسعيه لقولبة المسلمين بقوالبه (حديث توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق عن عدم معارضته لممارسة الإسلام العادي، أي الاكتفاء من الإسلام بإقامة الصلاة والصيام)، وفرض السيطرة والهيمنة الفكرية والثقافية عبر الترويج لأطروحةِ عالميةِ القيم الغربية والتبشير بما أسماه صموئيل هانتنغتون «صراع الحضارات».