لا يتجلّى الحنين العُصابي لأب كلّيّ القدرة فقط لدى الإسلامويين بين الأطراف اللاعبة على الساحة السورية. إنما نلمسه، وإن بصورة أكثر تجسيداً، لدى البعض من عِلمويي اليسار المنغمسين منذ سنتين في هجاء الثورة.

ويأتي هذا الهجاء غالباً من موقع الأبوة الحانقة، حيث تطغى على كتابات هؤلاء نزعة أبوية واضحة تميل لمخاطبة الجمهور والثوار والمعارضة بأسلوب اللوم والتوبيخ والتأنيب، الموجه ضد صبية «مارقين» وأفراد ومجموعات آثمة.

وكما هو متوقع، فإن ردّ الفعل على هؤلاء سوف يأتي أيضاً من ذات الموقع، الأنا الوالدية الناقدة، والتي تجنح باتجاه القطيعة مع كل ما يخالف رأيها وإرادتها وثوابتها، من نفس الموقع وبنفس الاتجاه (أبوة حانقة – طفولة آثمة)، وسوف ينتج عنها بالضرورة خطاب متبادل تخويني اتهامي، هو الخطاب الرائج الآن بعيداً عن الصيغ العقلانية التي يمكن أن تؤدي إلى التقاءات وتوافقات ضرورية، تلك التي تستلزم نمط تبادل مختلف، من موقع الرشد باتجاه العقل، خطاب راشد لراشد، ينطلق من الأنا الراشدة التي تتمثل الواقع ويُردّ عليه من نظيرتها لدى الآخر، مستبعداً سيطرة الأنا الوالدية أو الطفلية على الخطاب.

هذا الاتجاه لدى غالبية الأطراف على الساحة السورية هو الأخطر، وهو مقتل السياسة وقفل يسد منافذ الحوار والتواصل، ويقود إلى حالة تتصف بالتأزّم وعدم الرضا، لأن كل طرف يخيب أمله ويشعر بأنه غير معترف به. وهو يؤدي إلى حوار الطرشان وتدهور الاتصال، الذي ينخفض بالضرورة عن مستوى الواقع الموضوعي إلى المستوى الانفعالي المتحيّز. وبدل أن ينهض كل طرف للتصدي لمسؤولياته، نراه ينصرف للدفاع عن نفسه وينصّب نفسه حاكماً على الآخرين ومعتقداهم وتصرفاتهم ويوزّع الشهادات شمالاً ويميناً، ويزداد شططاً وتطرفاً.

وهنا لا بدّ من البحث عن عقدة التناقضات، وهي من المرجّح تتعلق بالتاريخ الشخصي للمثقّف وتاريخ علاقته الطفلية مع أبيه في إطار عقدة أوديب، والتي لم تتم تصفيتها كما يجب في مثل هذه الحالة، فبقيت تعتمل كالجمر تحت الرماد، وتتظاهر بمشاعر متناقضة، حنين مبالغ به نحو الأب، والذي يغطي بدوره مشاعر مبالغ بها من الكره والرغبة بالانتقام للآلام السالفة في تاريخ علاقتهما المشتركة مع الأم.

إن الفشل في كبت عقدة أوديب، والتي تستلزم ربما أكثر من الكبت (التصفية كما ينوه فرويد)، سوف يسم على الدوام عواطف الشخص الخاضع لها ومسلكياته، والتي ستتميز بحنق ظاهر وعصبية زائدة تغذيها مشاعر الحقد المكبوتة نحو الأب، والتي سرعان ما تنقلب إلى الضد بفعل الشعور بالذنب الذي أملته الخيانة المتوهمة، ليتولد حنين جارف نحو الأب ذاته وسعي لرضاه وغفرانه، بينما ينزاح الغضب والسخط، بآلية الإسقاط، نحو الآخر الذي يحمل صفات التمرّد البنويّ.

وإذا سلّمنا بأن العاطفة نحو الأب سوف تصبغ كل علاقة مستقبلية مع السلطة، فسوف نفهم لماذا يتذبذب البعض في مواقفهم تجاه السلطة والمتغيرات الاجتماعية والثقافية التي تصطدم بها وبملحقاتها من القيم والتقاليد والقوانين الراسخة، بين الرفض والولاء، بين الثورة والخضوع، بين الحب والكره…، وسنفهم طبيعة حنقهم وعدائهم العميق للموقف البنويّ السويّ الذي يعارض بالبديهة منطق السلطة الغاشمة.

هؤلاء، ومنهم ممثلو اليسار الهزيل، قادرون في العموم على المشاركة بنصف تمرد، نصف ثورة، أو فورة على الأصح…، ثم يتراجعون إلى مواقع التوبة إذا ما اصطدموا بمقاومة جلية من قبل السلطة/الأب، وتلك حالة نمطية لديهم يمكن التقصّي حولها حتى في تاريخهم الشخصي. وهم لا ينفكّون يعبّرون في حواراتهم وعلاقاتهم العادية عن امتعاضهم من أية تعبيرات تمرّدية تصدر عن المبدأ البنويّ.

سوف تتعزّز هذه الازدواجية بالطبع كلما كان قمع السلطة أشدّ وأقسى، وكلما بدت السلطة كلية القدرة وعصية على التنازل، كما كانت على الدوام صورة الأب القاسي في عيون طفله العاجز.

وفيما كان السفاح بشار الأسد قبيل الثورة بعيداً نسبياً عن السمات الأبوية التي وسمت الأسد الأول، إلا أن الوحشية التي مارسها منذ بداية الثورة؛ والمظهر القوي والمحنّك الذي ظهر عليه محلياً ودولياً؛ بدعم روسي إيراني وتواطؤ غربي وعالمي، كل ذلك جعله يكتسب صفات أبيه، وعمّق حضوره ونظامه كأبٍ كلّيّ القدرة في الوعي المازوخي المستلب للقوة وطغيانها.

أياً يكن، يبقى الأهم في الموضوع أن التبادل الراشد على ساحة المعارضة السورية هو الغائب الأكبر. وهذا يحتاج إلى ثقافة جديدة وتدريب جديد، وتجريب جديد، ومحاولة جدّيّة للتعرف على الذات. والعلاج الضروري لذلك، إذا ما توافرت النوايا الحسنة، يكمن في تحييد الدوافع اللاشعورية بواسطة الوعي؛ ومحاولة تحويل كل هذه التبادلات إلى نمط التبادل الراشد؛ الذي يكفل وحده الاعتراف المتبادل ويهدّئ الانفعالات السالبة؛ ويفتح الطريق أمام التعاون والتوجه إلى العمل المشترك.