الشهر الثاني والثلاثون على تاريخ انطلاق الثورة السورية المجيدة، كيف تقرأ المشهد السياسي الآن؟
الثورة السورية فعلياً ما زالت في مرحلة المراوحة. وإذا أردنا تحديد أسباب هذه المراوحة فإن الثورة السورية، التي بدأت ثورة شعبية وعفوية وغير منظمة، ما زالت ضعيفة التنظيم وضعيفة القيادة بصورةِ عامة، وهذا أثّر بشكل سلبي على ميزان القوى حينما اضطرتها الخيارات العسكرية للنظام على مقاومته بالسلاح.
الاتفاق النووي الإيراني-الدوليسيلقي بظلاله على الثورة السورية، ما هو تأثيره على الثورة السورية حسب رؤيتك؟
لنحدّد شكل الاتفاقية الأخيرة بدايةً. الاتفاقية الأخيرة تحول دون إنتاج إيران لقنبلة نووية، ويجنّبها العقوبات الاقتصادية التي أثّرت بشكل سلبي على اقتصادها –حيث لم يعد النظام قادراً على تقديم الرشى والعطاءات لشخصياته الأكثر نفوذاَ وتأثيراً للاستمرار– ويجنّبها بذات الوقت ضربة أمريكية-إسرائيلية متوقعة على إيران في حال الاستمرار في مشروعها النووي.
المآلات السابقة المتحدَّث عنها ستجبر النظام الإيراني على إدخال تغييرات جذرية فيما يتماشى مع الإرادة الدولية –إذا كان لديه رغبة– في التدخل بالشأن السوري، بما يخدم أحقية المطالب الشعبية بالحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية، وتبنّي القضايا الكبرى للثورة، وخاصةً التحول السلمي للسلطة.
هل وقوف المجتمع الدولي بموقف عدم المساعد للثورة السورية، سواء عبر الدول أو المنظمات الأممية والمدينة والأهلية، أليس يُميط اللثام عن رغبة لديه في استمرار نظام بشار الأسد في حكم سوريا؟
بالضرورة لا يجب أن نفسّر الأمر بهذا الشكل، ونستطيع القول إن المجتمع الدولي لم يساعد السوريين في الثورة، ولم يساعد أيضاَ الشعب بالصمود في تلبية حاجاته الأساسية، وإيقاف عنف النظام المنفلت من عقاله، هذه مساعدة للنظام، «مساعدة سلبية»، بمعنى أنهم سمحوا للنظام حتى الآن بانتهاك أبسط القواعد في الحروب، عبر حصار المدنيين والاستمرار في قتلهم وتشريدهم واعتقالهم الخ. كان بمتناول وبإمكان المجتمع الدولي أن يتدخل ولم يتدخل، وليس فقط بسبب الفيتو الروسي ولكن أمريكا –التي وجّهت إنذاراً للأسد من أجل تسليم سلاحه الكيمائي تحت طائلة توجيه ضربة عسكرية في حال التمنع– كانت قادرة على توجيه مطالب مماثلة كفتح ممرّات وحتى الوصول إلى منع تصاعد خياراته العسكرية، لأنه ليس بالكيميائي وحده يقتل بشار الأسد شعبه.
وبتفسير آخر، إنهم لا يريدون مساعدة النظام، ولكنهم ساعدوه بشكل سلبي بإقامة نوع من التوازن بينه وبين الثورة، وكل توازن سيبقي النظام هو الأقوى (الثورة ذات ثقل معنوي بفضل زخم الشارع المتمرد)، وهكذا ريثما يقضون على البنى الأساسية التي يستهدفونها، وهي البنى العسكرية والبنى الاجتماعية والبنى الاقتصادية التي يرغبون في القضاء عليها.
يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مؤتمر جنيف2، ما هي آليات جنيف2التي أصبح الشغل الشاغل للمجتمع الدولي والإعلام؟
ما هو جنيف2؟ جنيف2هو قرار من المجتمع الدولي بجمع السوريين بنيّة إنهاء الحرب وإجراء عملية انتقالية، ولكن حول هذين الموضوعين ما زالت هناك اختلافات مصالحية بين قوى المجتمع الدولي. نستطيع أن نقول إذا لم ينجح جنيف2 أو تم إرجاؤه، فإن مأساة الشعب السوري ستطول بطول عمر بقاء النظام.
أفهم من حديثك أن جنيف2سيُتبع بعدد من الأرقام الدالّة على وجود الكثير من أمثاله؟
نعم، أعتقد ذلك. ليس هناك آليات واضحة في جنيف2: إذا كان تعيين الحكومة الانتقالية بالتوافق، ما هو شكل هذا التوافق؟ طالما أن النظام ما زال يناقش ماهية المرحلة الانتقالية، هذا يدلّ على رغبة بالمماطلة. النظام اليوم، على لسان السفير في المملكة الأردنية اللواء بهجت سليمان، يقول إن الدستور الحالي سيطبق على جنيف، وبهذه الحالة تكون كل الصلاحيات ليست بيد الحكومة الانتقالية، حيث الصلاحيات كلها وبحسب بنود الدستور الحالي ستكون بيد رئيس الجمهورية الحالي، وبالتالي هناك عدد من المسائل ما زالت غير محدّدة. ما هو الدستور الذي سيطبق على المرحلة الانتقالية؟ كيف سيجري تركيبها؟ ماذا إذا اختلف الطرفان على تركيبها؟ ما هي آليات تسليم السلطة؟ كلها مسائل وقضايا ما زالت غير محسومة بعد، وبالتالي فإن العملية الاجرائية ستأخذ وقت ومفاوضات كثيرة وشاقة.
هذا يقود لسؤال جوهري حسب رأيي:المعارضة السورية بوضعها الآني المشرذم، المجلس الوطني وشقيقه الائتلاف الوطني، وهياكل سياسية غير رسمية من قبيل هيئة التنسيق وأخواتها، وما يزيد الطين بلّة حسب التوصيف الشعبي هو افتقار كل هذه الهياكل للخبرة السياسية… هل برأيك تستطيع أن تكون ندّاً للنظام في التفاوض؟ خاصةً أن للنظام أصدقاء بينما المعارضة يتيمة، والنظام لديه خبرة طويلة في مجال العلاقات الدولية، بينما المعارضة لا تملك الحدّ الأدنى من السياسية والخبرة في التفاوض، وقد طلبت مساعدة بعض الدول لتأهيل كوادرها لديها استعداداً لاستحقاق جنيف2…
هنالك صعوبات على جبهة المعارضة السورية، أشرت لها في بداية حديثنا. المعارضة ما زالت غير منظمة؛ لا أتحدث فقط عن المعارضة السياسية، ولكن أتحدث عن المعارضة العسكرية، التي هي غير موحدة في مصادر تمويلها وتسليحها وفي تنظيمها العسكري، وكل ذلك مؤثّر. وفي الوقت الذي يُطلب من النظام أن يأتي لتسليم السلطة، ما زال هو يقاتل؛ هناك تناقض ما، النظام ما زال يقاتل، يقاتل على أمل أن يحافظ على جزء من السلطة، بينما مؤتمر جنيف2، ماهيّة مؤتمر جنيف –إذا أخذنا جينف1 نموذجاً لروحه– يشتمل على مطلب جوهري يتجسد عبر تسليم السلطة، ليس تسليم السلطة للمعارضة، ولكن تسليم السلطة لحكومة انتقالية لا يكون فيها –كمطلب رئيسي– رئيس النظام في السلطة، وبالمآل فالقوى المسلحة التي يتمتع بها بشار الأسد ونظامه، والدعم الذي يتلقاه عسكرياً من إيران وحلفائها، يجعله في موضع ينافس على اقتسام السلطة وليس تسليم السلطة، وبالتالي القضية ليست قضية تفاوض بقدر ما هي إرادة دولية لإجبار النظام على تسليم السلطة.
بالشأن اللبناني، وتحديداً بما يخصّ التفجيرات التي شهدتها بيروت بالخصوص ولبنان بالعموم، ما هي قراءتك للمشهد اللبناني جرّاء تفاعله مع المشهد السوري، وهل هناك رابط بينه وبين سياسية حزب الله بالتدخل العسكري المباشر في سورية؟
إن سياسات حزب الله الخطأ في سوريا أسهمت في توسيع التوتر الطائفي، السني-الشيعي، وجعلِه مهيكلاً للسياسة في الشرق الأوسط، وهذا أمر خطير وتمّ بتنسيق إيراني كلي وبقيادة إيرانية، وبالتالي دخل حزب الله في سوريا كشريك كامل في القتال. كل هذا لا يمكن أن يزيد إلا التوتر الشيعي-السني أوراً، وبالتالي لبنان، بوصفه جزءاً من هذا الصراع، لا بد أن ينعكس ما يجري في سوريا عليه. إن سياسة حزب الله في سوريا إضافة لما راكمه النظام في لبنان من أحداث شبيهة لما تشهد سوريا الآن، وخاصةً في منحى الاستعمار الداخلي وإحياء النعرات الطائفية وتقويتها وتلغيم المجتمع بالتناقضات ما قبل المدنية…، كل هذا كان كافياً لكي تقع الفتنة في لبنان بشكل معارضة لا عارضة. وللأسف هذا هو الوضع الذي أوجده في البلاد للحيلولة دون وجود حكم ديمقراطي، وعبر السلاح، وكل ذلك أدّى إلى استقطابات حادّة ذات ثيم طائفي في لبنان. وصار قسم من اللبنانيين ينظرون للجبهة من طهران إلى بيروت وكأنها جبهة واحدة، وبالتالي قسم من اللبنانيين يعتبر أن النظام السوري وشركاءه من حزب الله وإيران مسؤولون بقدر المساواة عما يجري في سوريا، وهذا يوفّر أجواء تطالب بعقابهم، بالوسائل التي يستعملونها. هذا ليس خط القوى الديمقراطية في لبنان، بالبداهة ومن ناحية المفروغ من أمره، ولكن هذه ردة فعل قد تكون استثمرتها بعض الشبكات الأصولية؛ ولكن كل هذا مسؤول عنه حزب الله والنظام السوري والإيراني، جرّاء السياسات المتبعة عسكرياً في سوريا.
بالعودة للقضية السورية، ولكن هذه المرّة من منظورها الإنساني والاجتماعي في لبنان، بما يخصّ قضية اللاجئين السوريين: هناك حملة عنصرية يشهدها لبنان ضد اللاجئين السوريين، بدأت مشعبنة وفي جانب منها مثقّفة، والآن المساران المشعبن والمثقّف يسير على ذات المنوال، علماً أن العلاقة التاريخية لسوريا بما يخصّ لبنان، ومنذ الحقبة العثمانية، تاريخ يشهد لسوريا بكونها صاحبة أيدي بيضاء… إلامَ تعزو هذه العنصرية؟
هناك عدة مستويات لبحث مشكلة العنصرية التي تتحدث عنها اتجاه السوريين. خلال حقبة حكم النظام السوري للبنان، لدى اللبنانيين ذاكرة وحشية جراء ممارسات النظام، هذه الذاكرة زادت وساهمت في هذه العنصرية. قسم من اللبنانيين يحمّل السوريين مسؤولية ممارسات النظام في لبنان، وهي شبيهة لما يجري في سوريا: استعمار داخلي. هذا من ناحية. أما من الناحية الأخرى، كان الواجب من البدء أن تبدأ سياسة منهجية للاهتمام بالسورين كلاجئين. ولكن القوى السياسية المتحكمة، بما فيها حزب الله بوصفه قوى عسكرية وسياسية وزانة، جعل اللجوء الإنساني خارج أي تنظيم، بما فيه التعليم والصحة ولقمة العيش. وكون وجودهم غير منظم لا يخلق مشكلة مع اللبنانيين فحسب، بل مع أنفسهم بذات المقدار، بوصفهم محتاجين لحاجات أساسية لا تتوفّر لعدم شرعية تواجدهم في الأراضي اللبنانية، الذي لم يقنن.
لديّ وجهة نظر بعيداً عن توصيفك للقوى اللبنانية المؤيدة للثورة السورية: أتفهم عدم قدرة القوى المناصرة للثورة السورية على مواجهة حزب الله وحلفائه بما يخص سياساته في سوريا؛ ولكن على باقي الأصعدة، الثورة السورية لم ترَ من القوى السياسية المناصرة في لبنانسوى بعض الظهورات الإعلامية والخطابات الحالمة، التي لم تبصر النور واقعاً معاشاً. ألا يعتبر ذلك فشلاً مدويّاً للقوى اللبنانية المناصرة للثورة السورية على كافّة الأصعدة؟
لم تُعِرْ 14 آذار ما يكفي من الاهتمام لمسألة السوريين، لا من ناحية مساعدتهم وتنظيم وجودهم؛ ولا من ناحية تبنّي سياسات ملائمة من قبل الحكومة، والتي نصحت بها المنظمات الدولية؛ ولم تتبنَّ سياسة إعلامية ملائمة أيضاً. ومرجع هذا الأمر عائد لتركيب المعارضة اللبنانية، لأنها في جانبها الأكبر معارضة طائفية، حيث تجد في 14 آذار قُوىً سياسية تعتمد خطاباً تمثيلياً للقوى المسيحية، وهلمّ جرّا، والخطاب الديمقراطي غائب لصالح الخطاب الطائفي. دويلة حزب الله وحلفائه مسيطرون على الدولة، 14 آذار خارج إطار الحكم: هذا الأمر يجعل من القوى اللبنانية قوىً غير فاعلة ديمقراطياً وأسيرة لمنظومة قبلية من السياسة ذات السمة الراديكالية.
سؤال أخير:هناك من يتحدث عن رغبة وليد جنبلاط بالعدول عن موقفه المناصر للثورة السوريةوإجراء مراجعة للتصالح مع النظام القائم في سوريا، ما هو رأيك؟
لا أعتقد بصحّة المعلومات الإعلامية المتداولة بما يخصّ تغيّر جنبلاط لموقفه حيال مناصرة الثورة السورية. هناك مراجعة، ولكن هذه المراجعة تقتصر –حسب ما أعلم– على مقاربة تأثير ما يجري في سوريا على لبنان، ولكن جنبلاط مازال على موقف مناصر للثورة السورية.
بالماضي حدث شيء مماثل، اختلف جنبلاط مع النظام في سوريا ثم عاد للتصالح معه…
الآن الأمور مختلفة السياقات، الآن السياقات ذات بعد أخلاقي أكثر من كونها ذات بعد سياسي. النظام في سوريا قتل ما يناهز المئتي ألف شخص مدني، وهجّر 7 مليون آخرين في دول الجوار وما بعد الجوار وفي الداخل السوري، وحطّم البُنى الفوقية والتحتية للدولة السورية ومؤسّساتها، والسكوت عنه كارثيّ النتائج، وخيانة على الصعيد الأخلاقي قبل الصعيد السياسي.