مرّ التاريخ العربي الإسلامي بعصور ومراحل، من عصر النبوة إلى عصور الانحطاط مروراً بعصر الخلفاء الراشدين وخلفاء التغلُّب والملك العضوض، شهدت حالات نهوض وانهيار، تغيرات كبيرة وتحولات عاصفة، عرفت صراعاتٍ دامية وأحداثاً قاسية، فترات رخاء وضنك، استرخاء وتوتر، كان لها انعكاساتها الإيجابية والسلبية على حياة المسلمين، أفرزت تكوينات سياسية واجتماعية، فرقاً وأحزاباً، ونظريات فكرية وفقهية. وقد تواضع عموم المسلمين على اعتبار عصرَي النبوة والخلفاء الراشدين الفترة المشرقة في تاريخهم، والتي مازالوا يحنّون إليها ويروُون أحداثها، بتفاصيلها الصغيرة، بتأثر بالغ، وهي المرحلة ذاتها التي أرادت السلفية إعادة انتاجها في حياة المسلمين المعاصرة، وعبر القيام بما تسميه تصحيح العقيدة والسلوك وبعث العلاقات السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك، فالمشروع السلفي يعيش في الحاضر وهو يتطلع إلى الماضي أو يعيش ومستقبله وراءه.

وُلد المشروع السلفي على يد أحمد ابن تيمية (1263- 1328) في ظروف دقيقة ومعقدة: ضعف الخلافة، تجرُّؤ الخارج على أطرافها، غزو التتار والمغول للقلب وإلحاق هزائم مدوية بجيوش الولاة، انحطاط علمي وثقافي، تراجع تجاري، مجتمع هشّ ويعاني الظلم والقهر والبطش والإذلال على ايدي الخلفاء والولاة. ربط ابن تيمية بين نشوء هذه الظواهر، السياسية الاجتماعية الاقتصادية السلبية، وحالة التدين وسلوك المسلمين، واعتبر المخرج بالعودة إلى الينابيع، والاقتداء بالسلف الصالح، وحدَّد هؤلاء السلف بـ«الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم»، ثلاثة أجيال، وهذا أطلق حركة ثقافية بهدف بعث التراث وغربلته وتنقيته من كل عنصر دخيل دخله عن طريق الترجمة والنقل والمثاقفة؛ ووضع قواعد لعلوم القرآن والحديث والسِّيَر والسلوك؛ وإعادة تأهيل المسلمين دينياً واجتماعياً عبر وضع معايير دقيقة للحلال والحرام وللشرعي وغير الشرعي؛ ومحاربة العادات السلبية والبدع؛ والتحريض على الجهاد. والجهاد وضعه في رأس أولويات المجتمع المسلم، للرد على الغزو الخارجي ولاستعادة الردع والدور والحضور، وهو نفس موقف جماعة أهل الحديث التي جسّدها أحمد بن حنبل، والتي لم تعمّر طويلاً بسبب الانقسام الفكري بين أشاعرة وحنابلة ورواج مذهب الأشاعرة على حساب الحنابلة – حتى جاء ابن تيمية وبعثه من جديد مع تعميق فكري ومنهجي كبير. لكن السلفية عادت وانحسرت لقرون، حتى جاء محمد بن عبد الوهاب (1703- 1791) في شبه الجزيرة العربية وجدّد الدعوة إليها والإيمان بها.

شهدت ساحة العمل الإسلامي الحديث انتقالاً من مسلمين إلى إسلاميين (حركات ذات مرجعية إسلامية – إسلام سياسي: الإخوان المسلمون، حزب التحرير الإسلامي) ومن سلفية علمية (تقليد السلف الصالح، الصحابة وتابعيهم وتابعي تابعيهم) إلى سلفية جهادية (الالتزام بمبدأ الحاكمية لله، والولاء والبراء، وجهاد الأنظمة: تنظيم الجهاد المصري، جماعة المسلمين، جماعة شباب محمد، تنظيم القاعدة… الخ).

السلفية السورية

خرجت سوريا من فترة حكم مملوكي عثماني مديدة دام قروناً طويلة، وقد سيطر النزوع الصوفي والأشعري على ثقافتها الدينية والاجتماعية، بتبنّيه المذاهب السنّية الأربعة (الحنفي، المذهب الرسمي للدولة العثمانية، الشافعي، الحنبلي، والمالكي) وبرفضه ما عداها من مذاهب واجتهادات، وبتعايشه وانسجامه مع السلطة السياسية القائمة بغض النظر عن مدى شرعيتها وطبيعة هذه الشرعية، شرعية بَيعة أم شرعية تغلُّب قائم على تبادل المصالح والخدمات، وقد أطلق عليه بعض الباحثين وصف «الإسلام الشامي»، نسبة إلى بلاد الشام بحدودها الجغرافية المعروفة، على الإسلام المشيخي الظاهري الذي يكتفي من الدين بالعبادات والمعاملات.

أدى انتشار أفكار الإصلاح وتنقية الدين من الشوائب والقشور والبدع التي أطلقها محمد بن عبد الوهاب وجمال الدين الأفغاني وتلامذته من محمد عبده إلى محمد رشيد رضا إلى وصولها إلى بلاد الشام وتلقّفها من قبل السيد جمال الدين القاسمي (1866 – 1914)، الذي دشّن التوجه السلفي في بلاد الشام بدعوته إلى إصلاح العبادات والمساجد (كان أتباع المذاهب الأربعة لا يصلّون معاً في صلاة جماعة بل لكل مذهب صلاته ومشايخه)، واعتماد الإسلام النقي كأساس جامع وموحِّد للمسلمين، والتحرّر من الخلاف الفقهي والمذهبي. نجح الشيخ القاسمي في بث أفكار عبده ورضا، وأضاف اجتهاده الخاص، باعتبارها أداة بعث وإصلاح شامل للأمة، واستقطب تلامذةً كثراً مثل محمد بهجة البيطار (1894 – 1976) وأحمد مظهر العظمة (1909 – 1982) ممن تابعوا بعده الدعوة إلى السلفية ونشر ثقافتها. يروي الشيخ علي الطنطاوي في كتابه «رجال من التاريخ» كيف تأثر بالبيطار، يقول في ص414: «لقد وجدتُ أن الذي أسمعه منه يصدم كل ما نشأتُ عليه، فقد كنت في العقائد على ما قرره الأشاعرة والماتريدية، وهو شيء يعتمد في تثبيت التوحيد من قريب أو بعيد على الفلسفة اليونانية، وكنت موقناً بما ألقوه علينا، وهو أن طريقة السلف في توحيد الصفات أسلم، وطريقة الخلف أحكم، فجاء الشيخ بهجة يقول بأن ما عليه السلف هو الأسلم، وهو الأحكم. وكنت نشأت على النفرة من ابن تيمية والهرب منه؛ بل وبغضه، فجاء يعظّمه لي، ويحبّبه إليّ، وكنت حنفياً متعصباً للمذهب الحنفي، وهو يريد أن أجاوز حدود التعصب المذهبي، وأن أعتمد على الدليل، لا على ما قيل. تأثرت به، وذهبت مع الأيام مذهبه مقتنعاً به بعد عشرات من الجلسات والسهرات في المجادلات والمناظرات…». ويتابع الطنطاوي في ص416 قائلاً: «وكان اتصالي بالشيخ بهجة قد سبب لي أزمة مع مشايخي، لأن أكثر مشايخ الشام ممن يميلون إلى الصوفية، وينفرون من الوهابية، وهم لا يعرفونها ولا يدرون أنه ليس في الدنيا مذهب اسمه الوهابية، وكان عندنا جماعة من المشايخ يوصفون بأنهم من الوهابيين، على رأسهم الشيخ محمد بهجة البيطار…».

وقد أنشأ الأستاذ العظمة جمعية التمدّن الإسلامي، والتي أصدرت مجلة بهذا الاسم، ورأس تحرير مجلتها منذ تأسيسها عام 1933.

غير أن الدعوة السلفية لم تنجح في اختراق المجتمع الشامي –المغلق والمسوَّر بآراء المشايخ التقليديين– اختراقاً في العمق، وبقي تأثيرها مقتصراً على فئة من متعلمي المناهج الحديثة وبعض مثقفي الطبقة الوسطى المدينية، هذا وقد لعب ظهور وانتشار حركة «الإخوان المسلمين» في سوريا، ونجاحها في استقطاب التشكلات الإسلامية الناشئة، دوراً كبيراً في تراجع ظاهرة السلفية كتيار قائم بذاته، في ضوء كون الحركة –وفق توصيف مؤسسها الأستاذ حسن البنا– دعوةً سلفية، ما أفقد السلفية مبرّر التواجد المستقل، وكونها قوة سياسية منظمة لها جاذبية بالنسبة للمتعلمين.

عادت السلفية إلى الظهور في ثوب جديد، ومسمى جديد: السلفية العلمية (النظرية) على يد عالِمَي الحديث الشيخ ناصر الدين الألباني (1914– 1999) الذي تتلمذ على الأستاذ محمد بهجة البيطار، وأخذ عن الشيخ محمد رشيد رضا التوجه السلفي وعلم الحديث عبر متابعته لمقالاته التي كان ينشرها في مجلة المنار؛ والشيخ عبد القادر أرناؤوط (1928- 2004) الذي تأثر بكتابات ابن القيّم، تلميذ ابن تيمية، وأخذ عنه التوجه السلفي. وقد تتلمذ على الشيخ الألباني كل من الشيخ محمد عيد عباسي، الأستاذ خير الدين وانلي، الشيخ علي خشان، الشيخ عدنان العرعور، الشيخ محمد جميل زينو، الشيخ عبد الرحمن عبد الصمد، والأستاذ محمود مهدي الإستانبولي؛ ومن الذين استفادوا من الشيخ وتأثروا بمنهجه: الأستاذان زهير الشاويش وعصام العطار، والشيخ الدكتور عبد الرحمن الباني.

غير أن حضور السلفية ودورها بقي محدوداً، فقد حاربها المشايخ واتهموا دعاتها بـ«الوهابية» و«الضلال»، كما حدّت سيطرة تيار الإخوان المسلمين على المشهدين الديني والسياسي من فرص انتشارها، رغم رفدها بالمؤيدين والأنصار من خلال طلاب العلم الشرعي من المغاربة، وخاصة الجزائريين، الذي جاؤوا لتلقي العلم الشرعي في سوريا، وفي معهد الزهراء الشرعي تحديداً، لكن هذا الرفد بقي ضمن حلقات الدرس وأطره العلمية.

سعت السلفية العلمية/النظرية إلى إحياء الكتاب والسنّة والتمسك بمرجعيتهما، ومحاربة البدع والانحرافات الفقهية والفكرية والمذهبية، قال الشيخ عبدالقادر أرناؤوط في مسألة التزام الإنسان مذهباً معيناً: «في المسألة تفصيل: فبالنسبة للعامي لا مذهب له، ومذهبه هو مذهب مفتيه، فالتزامه بمذهب يكون أمراً طبيعياً. وطالب العلم الذي في أوّل أمره لا يستطيع أن يميِّز بين الأقوال الصحيحة والضعيفة، فهو يعمل ضمن ما يسمع من شيخه. أمّا بالنسبة لطالب العلم المتمكّن الذي درس الفقه المقارن، وعرف دليل كل إمام من الأئمة، فإنه عندئذ يستطيع أن يميِّز بين القول الصحيح والضعيف. وأرى أنه في هذه الحالة لا يحق له أن يكون مقلِّداً»، كما وعملتْ السلفية العلمية\النظرية على تصويب ما تعتبره انحرافات في سلوك المسلمين وأفكارهم، استناداً إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، ولم تتبنَّ مشروعاً سياسياً، حتى إن بعض شيوخها رأى في الأحزاب السياسية بدعة معاصرة ينبغي الحذر منها وعدم الانتساب إليها.

استفادت السلفية في العقود الأخيرة من العمالة السورية في دول الخليج بعامة، والسعودية بخاصة، وكسبت أعضاء ومؤيدين، حيث إن معظم العاملين هم من أوساط إما متوسطة الثقافة او شعبية ضعيفة الثقافة، إن لم تكن معدومتها، لذا فإن عملها في الخليج واحتكاكها الطويل بالخليجيين جعلها تتفاعل مع الممارسات الدينية الخليجية التي تنتمي إلى السلفية الوهابية والمحافظة وتتقمّصها، وهذا يفسّر توسّع المدّ السلفي في الأرياف بشكل خاص وتفاعل سكان الريف السريع مع كتائب وألوية السلفية الجهادية، ناهيك عن الدور الكبير للمال السياسي، حيث ضُخَّت مبالغ طائلة إلى المجموعات السلفية ساعدتها في تطوير اوضاعها وتأمين احتياجات أعضائها واستمالة المواطنين بتوفير متطلباتهم اليومية من غذاء وماء ودواء ووسائل تدفئة.

السلفية والصراع على الإسلام

مع انتصار حافظ الأسد على خصومه داخل النظام والحزب الحاكم ونجاح انقلابه (يوم 16/10/1970) بدأت معركة من نوع آخر، معركة السيطرة على البلد والشعب من خلال الهيمنة والتحكم في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي، وبدأت بإطلاق تحولات اقتصادية: فتح الأسواق والسماح بالاستيراد والتصدير. وقد سمحت في البداية في كسب تأييد التجار والصناعيين (ومعظمهم من السنّة) الذين ضرّهم عهد «يسار» البعث (أو من كانوا يُعرفون بالشباطيين، كونهم قاموا بانقلاب عسكري على رفاقهم في الحزب يوم 23 شباط 1966)، وتم منحهم فرصاً لتوسيع نشاطهم التجاري والصناعي، قبل أن تذهب إلى إقامة شراكة بينهم وبين رجالات النظام، خاصة ضباط المخابرات، يدفع التجار نسبة من ارباحهم مقابل منحهم حق احتكار أصناف معينة، إنْ عبر الاستيراد أو التصنيع أو استجرار إنتاج شركات القطاع العام بطرق ملتوية واحتكار توزيعها في الأسواق، كما فتحت أبواب التوظيف في الوظيفة العامة، وتثبيت العاملين المؤقتين، ناهيك عن دعم المواد الغذائية والوقود. تلت ذلك مرحلة انفتاح سياسي داخلي بإشراك أحزاب سياسية في الحكومة وتشكيل ما عُرف بـ«الجبهة الوطنية التقدمية» التي ضمت عدداً من الأحزاب القومية (حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، حركة الوحدويين الاشتراكيين، حركة الاشتراكيين العرب…) واليسارية (الحزب الشيوعي السوري)، وانفتاح عربي بالدخول في مشروع الاتحاد الثلاثي مع كل من مصر وليبيا، قبل أن يصبح رباعياً بالتحاق السودان به.

أراد حافظ الأسد، من إعادة صياغة المشهد الاقتصادي والسياسي الداخلي وجَسْر الهوة التي خلفتها سياسات النظام السابق المتشددة مع الدول العربية، إقامة إجماع حوله لسدّ ثغرة الشرعية التي يعاني منها، كونه صعد إلى سدة الحكم عن طريق انقلاب عسكري من جهة، ومن جهة ثانية التغطية على كعب آخيل (كونه علوياً في مجتمع معظمه من السنّة) عبر تحقيق إنجازات تحسن الاوضاع المعيشية والخدمية للمواطنين تقود إلى تقبلهم لقيادته للبلاد وغضّ الطرف عن كونه من أقلية مذهبية.

غير أن شهر العسل بين حافظ الأسد والقوى السياسية لم يعمّر طويلاً، حيث كشفت السياسات القائمة على التمييز بين المواطنين وإعادة صياغة الهرم الاجتماعي والإداري من خلال تنصيب قيادات على خلفية مذهبية، ووضع اليد على الدورة الاقتصادية، وزرع الشقاق في المجتمع وتخويف الأقليات واستدراجها إلى تحالف غير مقدس هدفه تكريس النظام وتثبيت دعائمه، كل ذلك كشف عن مخاطر جمة.

انفجرت أولى الأزمات، على خلفية صياغة دستور دائم للبلاد 1973، حيث تحفَّظ حزب الاتحاد الاشتراكي العربي على المادة الثامنة: «حزب البعث قائد في المجتمع والدولة»، مما قاده إلى الخروج من الجبهة، بينما استنفر الإسلاميون (الإخوان والسلفية والمشايخ) على المواد المتعلقة بـ«دين رئيس الجمهورية» ودور الشريعة الإسلامية في التشريع.

أطلق الخلاف صراعاً مكتوماً بين النظام وقوى سياسية متعددة على خلفيات متنوعة: الإسلام ودوره، الشراكة السياسية وصنع القرار الوطني، العامل الاجتماعي والموقف من حقوق الطبقات الفقيرة. وقد استخدم النظام أساليب ووسائل مركبة لتسويق سياساته وتكريس قيادة حافظ الأسد، وذلك عبر ربط كل الإنجازات والإيجابيات بشخصه لكسب قلوب المواطنين واحتواء أي نقد سياسي، تبدأ من مخاطبة الطفولة (نشير هنا إلى كتاب للأطفال كتبه الأستاذ عادل أبو شنب، وطبعته مؤسسة طلائع البعث ووزعته على المدارس، يضع حافظ الأسد في مصافّ الأنبياء بالحديث عن عجائب كونية حدثت عند ولادته)، ولا تنتهي عند توظيف الدين، مروراً بتزخيم دور الاتحادات والنقابات، من تشكيل طلائع البعث والشبيبة وإلزام الطلاب والعسكر بالانتساب للحزب الحاكم، وصولاً إلى إلزام الاتحادات والنقابات بالدفاع عن مبادئ الثورة (المادة الثالثة من النظام الداخلي لكل الاتحادات والنقابات في سوريا)، بالإضافة إلى برنامج دعائي شامل لتسويق الرئيس كمتدين: عبر حضور صلوات الجُمَع والأعياد واحتفال عيدَي المولد النبوي ورأس السنة الهجرية؛ وتَباري الخطباء على إسباغ صفات الإيمان والانتماء لبيت النبي عليه الصلاة والسلام (خاطبه مروان شيخو مراراً في عدد من الخطب بـ«يا ابن فاطمة الزهراء»)؛ وكذلك التوسّع في بناء المساجد و، فيما بعد، معاهد الأسد لتحفيظ القرآن…؛ وكذلك الترويج لانتمائه سراً إلى المذهب السنّي (هذا ما كان يقوله البوطي لتلاميذه)؛ ناهيك عن العمل على احتكار الحديث باسم الإسلام من خلال تشجيع نمط من الإسلام يوصف بـ«الرسمي» قائم على طاعة أولي الأمر، القبول بحكم المتغلب، و«الشورى مُعلِمة وليست مُلزِمة»، و«الرئيس ظل الله على الأرض»، و«الصلاة وراء كل بّرٍّ وفاجر»؛ والاعتماد على جهود علماء دين ودعاة مثل مفتي الجمهورية السابق الشيخ أحمد كفتارو، ومروان شيخو الذي تصدَّر الخطابة في المساجد التي يرتادها رئيس النظام حافظ الأسد، وعدنان شيخو الذي تخصّص بتقديم البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون، الدكاترة محمد سعيد رمضان البوطي، صهيب الشامي، محمد حبش وآخرين، وتوظيف كل ذلك في الترويج للنظام ورئيسه، وتغطية مواقفه وسياساته شرعياً (تذكر هنا فتوى البوطي بخصوص التفاوض مع إسرائيل).

في المقابل، سعت حركة الإخوان المسلمين إلى الإمساك بورقة الإسلام عبر تأليب المواطنين على النظام باستثمار نقطة ضعفه الرئيسة، كون رئيس النظام علوياً، وعمله على عَلْوَنة الدولة عبر وضع العلويين في المناصب الحيوية، وخاصة أجهزة المخابرات والجيش، وفتحه البلاد أمام المد الشيعي الذي تقوده السفارة الإيرانية.

لم ينجح تكتيك الإخوان المسلمين في محاصرة النظام وعزله، وهذا أثار خلافاً داخل الحركة حول الأسلوب المناسب لمواجهة النظام، وبرز تيار يدعو لاستخدام القوة يمثله مروان حديد وعبد الستار الزعيم وعدنان عقلة، منحهم الخلاف حول موادّ الدستور تبريراً عقائدياً لممارسة العنف، حيث دعوا إلى الجهاد ضد السلطة «الكافرة» باعتباره فرض عين، وشكّلوا «الطليعة المقاتلة» عام 1975، والتي بدأت بالاغتيالات على أساس طائفي، وقد زاد من دقة الأوضاع إعلان عدنان عقلة، بعد مجزرة مدرسة المدفعية 16/6/1979، عن حركته باسم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» في محاولة منه لجرّ الحركة إلى ما أسماه «الجهاد».

لم يقبل النظام إعلان قيادة حركة الإخوان المسلمين أن لا علاقة لهم بالطليعة المقاتلة وقيامها بفصل «الطليعيين» وتسميتهم بالفوضويين، وحمّل كامل الحركة مسؤولية عمليات الطليعة، وشنَّ حملة اعتقالات واسعة في صفوفها طالت المئات، فأعلن الأستاذ عدنان سعد الدين (المراقب العام آنذاك) التعبئة العامة والدخول في «المعركة»، وأصدر النظام القانون 49 لعام 1980 القاضي بإعدام المنتسبين للحركة، ما زاد في حدة العنف وسقوط آلاف الضحايا ودمار طال مدناً آخرها حماه عام 1982.

بقيت الدعوة السلفية خارج الصراع السياسي على خلفية الاكتفاء بنشر الفكر السلفي في المجتمع وتنقية الإسلام من الشوائب والقشور التي علقت به بفعل البدع المحدثة، والعمل على تصحيح عقيدة المواطنين وممارساتهم الدينية. كان تركيزها على الدروس والمحاضرات وتحقيق كتب التراث التي تعكس الموقف السلفي، وتأليف كتب سلفية جديدة بلغة معاصرة، وخلق شبكة علاقات تربط بين أبناء التيار السلفي في عموم البلاد.

وجدت السلطة في المواجهة التي دارت مع حركة الإخوان المسلمين (1976-1982) فرصة للتخلص من الجماعات الإسلامية المستقلة، وإغلاق فضاء العمل الإسلامي الدعوي على الموالين من المشايخ (كفتارو، البوطي، حبش) والجماعات الدعوية (القبيسيات والتبليغ والدعوة والاحمدية) والمعاهد التي تدرِّس الفقه التقليدي (معهد النور/ كفتارو ومعهد الفتح/فرفور) والتضييق على النشاطات الدينية المستقلة وضرب تعبيراتها وتجلياتها، ومن بينها الدعوة السلفية، فأبعدت الشيخ ناصر الدين الألباني إلى الأردن عام 1980 بعد أن زجّت به في السجن لفترة من الزمن (8 أشهر في سجن الحسكة)، ومنعت الشيخ عبد القادر أرناؤوط من القيام بأي نشاط ديني أو دعوي، وزجت بأعداد كبيرة من شبابها في السجون.

غير أن التطورات الإقليمية والدولية، أحداث 11/9/2001، وغزو أمريكا لأفغانستان والعراق، والترويج لخطة شاملة تقضي بمتابعة الحملة العسكرية الأمريكية لتشمل سوريا والسعودية ومصر، استدعت توجهاً لدى السلطة السورية لاستثمار إيمان السلفية بشعيرة «الدفاع عن أرض الإسلام» واعتبار الجهاد في حال غزو دار الإسلام «فرض عين»، وكراهية السلفية لأمريكا خاصة، وتوظيف هذا التقاطع المصلحي معها في مشاغلة القوات الأمريكية في العراق وإرباك مخططها، ودفع واشنطن إلى التخلي عن فكرة تطوير هجومها وتنفيذ فكرة الشرق الأوسط الجديد الذي رفعته إدارة بوش الابن والذي يقضي بإسقاط الانظمة القائمة، ومن بينها النظام السوري. فالدفاع عن النظام كان هدفاً من جهة، ومن جهة ثانية التخلص من شباب السلفية بإرسالهم إلى الموت في العراق، فأفرج عن المعتقلين منهم وشجعهم على التوجه إلى العراق لمحاربة الغزو الأمريكي لبلد مسلم. تذكر هنا دعوة الشيخ أحمد كفتارو، مفتي الجمهورية آنذاك، للجهاد في العراق؛ وتحرُّك الدكتور محمود قول أغاسي الملقب بأبي القعقاع وتشكيلة مجموعة «غرباء الشام» للقتال في العراق، وقد اغتيل بعد أن انتهت مهمته التحريضية – ومما كان له دلالة عن موقع الدكتور أغاسي في سياق استراتيجية النظام «الجهادية» أن آخر حديث مسجل له كان موجهاً إلى رئيس النظام بشار الأسد، بعنوان «زفرات بين يدي القائد»، يدعوه فيه إلى محاربة الفساد؛ دون أن ننسى تشكيل النظام لـ«جند الشام» و«فتح الإسلام». ثم، بعد تراجع التهديد الأمريكي نتيجة انهيار حسابات الإدارة حول المعركة لجهة كلفتها البشرية والمادية، عاد النظام إلى محاصرتهم واعتقال من عاد منهم وتسليم بعضهم إلى القوات الأمريكية.

والنتيجة أن الهجرة إلى أرض الجهاد (العراق) والقتال ضد الأمريكيين أحدثا نقلة في طبيعة السلفية السورية وحولتها من سلفية علمية/نظرية إلى سلفية جهادية.

السلفية الجهادية

ما إن بدأت التظاهرات الاحتجاجية بالتصاعد والانتشار الأفقي، وبدأ استخدام النظام للقوة والرصاص الحي لتفريقها، حتى قفز إلى السطح المكون الثقافي الرئيس والأصيل في الشخصية السورية: الإسلام، إنْ عبر التكبير في مواجهة العنف وسقوط الشهداء وتدمير المساكن والمحالّ التجارية ودور العبادة، أو بالحديث عن الجهاد والشهادة والجنة الموعودة للشهداء الصادقين ولقد كان لافتاً هتاف المشاركين في تظاهرة سوق الحريقة 17/2/2011، بالعفوية نفسها التي دفعتهم للتظاهر الذي جاء رداً على قيام شرطي بصفع مواطن يعمل في السوق، بـ«الله اكبر».. لقد انطلق من داخلهم إيمانهم الراسخ بما زرعته فيهم الثقافة الإسلامية من قيم نبيلة ترفض تأليه الاشخاص أو تقديسهم (لا اله إلا الله)، فالتجبر والتألُّه تجديف وهرطقة دينية محرمة، وإذلال الانسان الذي كرّمه الله وإهانته هرطقة اجتماعية وسياسية مرفوضة ومدانة، وقبول الظلم والذل جريمة يُعاقَب عليها الإنسان يوم القيامة بدخول جهنم كل الأديان تعاقب الظالم، وينفرد الإسلام بمعاقبة المظلوم أيضاً إذا سكت على الظلم. قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} [النساء: 97]، أو قوله جل شأنه: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود: 113]. والتمادي بالقتل وبطرق غاية في الوحشية، والتفنن بأساليب التعذيب وإزهاق الأرواح، أجّج العواطف وصعَّد المشاعر الدينية التي يحتاج إليها الإنسان وبقوة لمواجهة لحظات عصيبة وقاسية كالتي يعيشها السوريون.

بدأ الخطاب الديني في الظهور في فعاليات الثورة بصيغ شعبية وعامة، عبر التكبير ورفع شعارات تدور حول التضحية والشهادة والجنة، واللجوء إلى الله وطلب النصر والمساندة منه («لبيك، لبيك يا الله»، «ع الجنة، رايحين، شهداء بالملايين»، «يا الله ما لنا غيرك يا الله») قبل أن يأخذ شكل تنسيقيات بخلفية إسلامية، وتالياً كتائب مقاتلة بعقيدة إسلامية، تعبِّر عن إسلاميتها بدءاً من أسماء الكتائب (كتيبة الأنصار، كتيبة أحفاد الرسول، كتيبة الصحابة، كتيبة عائشة أم المؤمنين، كتيبة صقور الإسلام، كتائب الإيمان المقاتلة… الخ) لتنتهي عند البرنامج السياسي الإسلامي الواضح.

وقد قاد تصاعد المواجهة، في ظروف نقص الإمكانيات، إلى التعاون والتنسيق بين الكتائب المتقاربة فكرياً والقريبة من بعضها جغرافياً، ثم إلى تشكيل ألوية من اتحاد مجموعة كتائب (لواء التوحيد في حلب، لواء أحرار الشمال في حلب، لواء الحق في حمص، ولواء الإسلام في دوما… الخ) وجبهات عسكرية (الجبهة الإسلامية السورية، الجبهة الإسلامية الموحّدة، جبهة تحرير سوريا، حركة الفجر الإسلامية، حركة الطليعة الإسلامية) هذه قائمة بأسماء أهم الكتائب والألوية والجبهات السلفية: – كتائب أحرار الشام، مجموعة مستقلة مكونة من عشرين كتيبة منتشرة في عدد من المحافظات، تأسست في كانون الثاني 2012 – كتائب الأنصار/ حمص (علم أبيض إلى جانب علم الثورة) تأسست في آذار 2012 – كتيبة الفاروق/ حمص، أصبحت كتائب منتشرة في عدد من المحافظات، تأسست أيلول 2011 – كتيبة درع الشمال/ إدلب، تأسست 21/2/2012 – لواء صقور الشام/ إدلب تأسس في شهر تشرين ثاني/ نوفمبر 2011 – لواء الإسلام/دوما تأسس في آذار 2012 – لواء التوحيد/ حلب تأسس في أيار 2011 – لواء الفتح/ حلب، تأسس في أيار 2012 – لواء رجال الله/ حمص، الرستن، تأسس في 24/2/2012 – لواء الحق/حمص، تأسس في 11/8/2012 – اتحاد ثوار حمص، أول محاولة ائتلاف عسكري، أيار 2012 – جبهة ثوار سوريا، تأسست في حزيران 2012 – تجمع أنصار الإسلام، تأسس في 8/8/2012 ويتكون من أبرز الفصائل السلفية في دمشق وريفها: لواء الإسلام، كتائب الصحابة، لواء الفرقان، لواء أحفاد الرسول، كتائب ديرة الشام، لواء الحبيب المصطفى، كتيبة حمزة بن عبدالمطلب – جبهة تحرير سوريا، تأسست في 20/9/2012 وهي تحالف مستقل مكون من لواء صقور الشام وكتائب الفاروق – جيش الإسلام\ دوما، تأسس في 30 ايلول 2013.، وتبنّي برنامج نضالي يتحدث عن نظام إسلامي ودولة إسلامية، وأخيراً إقامة الخلافة وتطبيق الشريعة. ناهيك عن مشاركة سياسية من بعض السلفية، الشيخ محمد عيد العباسي في مؤتمر الإنقاذ السوري الذي عقد في إستنبول يوم (16/7/2011)، والتيار الوطني السوري (الدكتور عماد الدين رشيد، رياض الحسن، خالد الصالح) في المجلس الوطني السوري.

يمكن اعتبار «الجبهة الإسلامية السورية» مثالاً نموذجياً للتيار السلفي الجهادي السوري ولخياراته الفكرية والسياسية والاجتماعية، فالجبهة التي تكونت من أحد عشر لواء، من بينها «كتائب أحرار الشام» (التي تعمل في جميع أنحاء سوريا)، و«حركة الفجر الإسلامية» (التي تعمل في مدينة حلب وحولها)، و«كتائب أنصار الشام» (في اللاذقية وحولها)، و«لواء الحق» (في حمص)، و«جيش التوحيد» (في دير الزور)، و«جماعة الطليعة الإسلامية» (في المناطق الريفية من إدلب)، و«كتيبة مصعب بن عمير» (في المناطق الريفية من حلب)، والجماعات «كتيبة صقور الإسلام» و«كتائب الإيمان المقاتلة» و«سرايا المهام الخاصة» و«كتيبة حمزة بن عبد المطلب» (التي تعمل في منطقة دمشق). وقد نشرت «الجبهة الإسلامية السورية» يوم 17/1/2012 شرحاً مستفيضاً لأهدافها بصورة ميثاق مكوَّن من سبع صفحات عرضت فيه لمنطلقاتها الفكرية وأهدافها السياسية والاجتماعية بعد الإطاحة بالنظام وهي:

1) الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع.
2) تمكين الإسلام في المجتمع، وذلك عن طريق إعداد الأفراد لتولّي أدوار قيادية في عدة مجالات خلال الفترة الانتقالية.
3) اتخاذ القرارات وفقاً لمبادئ الشورى وفي ضوء أحكام الشريعة الإسلامية.
4) إعادة بناء سوريا على أساس الوحدة والشفافية، ومحاربة الفساد والاستغلال وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية.
5) دور المرأة تكميلي، رفض الاختلاط واعتبار المفاهيم الغربية المتعلقة بحقوق المرأة غير مقبولة.
6) اعتماد العدل والإنصاف في التعامل مع غير المسلمين.
7) رفض التبشير بين المسلمين.
8)  تنفيذ البرنامج بشكل تدريجي.

كما برزت الدعوة إلى إقامة نظام «الخلافة» كجزء من تصور لمجموعات سلفية سورية أخرى لنموذج الدولة في سوريا، حيث أصدرت مجموعة من الكتائب المسلحة والتنسيقيات «ميثاق العمل المشترك لإقامة خلافة إسلامية» جاء في مقدمته: «إيماناً منا بوجوب العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية واستئناف الحياة الإسلامية وتحقيق بشارة الرسول (ثم تكون خلافة على نهج النبوة) نعاهد الله تبارك وتعالى على العمل وإسقاط مشروع الدولة المدنية الديمقراطية في سوريا وإقامة خلافة إسلامية». وقد وقّع على هذا الميثاق كلٌّ من يحيى مزاوي، قائد كتيبة أحفاد الرسول؛ الرائد أمين خليل، قائد كتيبة المهاجرين؛ النقيب خليل العمر، قائد كتيبة عبد الله بن الزبير؛ مصعب السعيد، قائد كتيبة أحرار الإسلام؛ عبد الحميد عبد الحميد، ممثل حزب التحرير؛ وعشرات الكتائب والفصائل المسلحة؛ وانضمت إليه تنسيقيات مثل: تنسيقية تفتناز؛ تنسيقية ثوار الغوطة؛ تنسيقية الحمراء؛ تنسيقية الدبلان؛ تنسيقية تل أبيض… وما زال التوقيع مفتوحاً للراغبين. وقد تبنى اصحاب الميثاق مشروع الدستور الذي اقترحه حزب التحرير الإسلامي لدولة الخلافة الموعودة. كما رفعت شعارات في بعض التظاهرات تقول: «الشعب يريد خلافة إسلامية».

وكانت آخر ظواهر السلفية السورية إعلانها عن توجهها المستقل عن الإطار السياسي والعسكري للمعارضة السورية (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الجيش السوري الحرّ) على خلفية اختلاف وجهات النظر، إنْ بخصوص المشاركة في مؤتمر جنيف2 أو شكل الدولة السورية المنشودة بعد إسقاط النظام، حيث تحدث البيان رقم واحد، الذي وقعه ثلاثة عشر لواء يوم 24/9/2013 عن إقامة دولة اسلامية وتطبيق الشريعة ورفضه الاعتراف بالائتلاف او بالحكومة المؤقتة التي يعمل على تشكيلها. كما تم تشكيل «جيش الإسلام» من خلال اتفاق ثلاثة وأربعين مكوناً عسكرياً منتشراً في ريف دمشق، وإعلان مكونات عسكرية أخرى عن نيتها تشكيل «جيش محمد».

صعود السلفية مع الثورة

لم يكن حضور التيار السلفي ظاهراً أو بارزاً في المشهد السياسي السوري اشتكى قيادي من التيار السلفي في دير الزور من محاربة النظام والتيارات الإسلامية لهذا التيار ودلل على رأيه قائلاً « ليس للتيار مسجد خاصّ في دير الزور».، خاصة بعد الحملة التي شنّها النظام على هذا التيار عام 2005 بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري وانفجار الخلاف بينه والمملكة العربية السعودية على خلفية اتهامها النظام باغتياله، وكانت الحملة بدعوى محاربة الوهابية والفكر الظلامي التكفيري،غير أن عوامل محلية وإقليمية ودولية ساعدت، ليس على ظهور التيار السلفي فقط، بل وتصدّره لهذا المشهد خلال الثورة. لعل أهم هذه العوامل هو:

– عنف النظام ووحشيته في الرد على الاحتجاجات؛
– عسكرة الثورة؛
– الحالة الروحية للسلفي واستعداده العالي للتضحية بالنفس في سبيل العقيدة؛
– انحياز المؤسسة الدينية التقليدية إلى جانب النظام أو بقاؤها على الهامش؛
– ضعف الشخصيات الدينية «المعتدلة» وفرارها إلى الخارج؛
– الدعم المالي والعسكري الكبير من الأفراد والدول دفع حتى الكتائب غير السلفية إلى الالتحاق بالسلفية للاستفادة من هذا الدعم؛
– الدعم السياسي والإعلامي (كتجنيد دعاة سلفيين، مثل نبيل العوضي الكويتي ومحمد العريفي السعودي، وتسخير أقنية تلفزيون للترويج للخطاب السلفي)؛
– إيران ووقوفها، هي وحكومة العراق وحزب الله، إلى جانب النظام، وقد أعطى ذلك قوة ومصداقية لخطاب السلفية حول طبيعة الصراع: صراع مذهبي؛
– تقاعس المجتمع الدولي، وإخفاقه في وقف سفك الدم السوري، مما عزّز الخطاب السلفي المناوئ للغرب باعتباره شريكاً سلبياً في جرائم النظام؛
– الدور الذي لعبته دول الخليج العربي بعامة، والسعودية بخاصة، في دعم وتمويل هذه الجماعات ورعايتها، على خلفية حذرها وخوفها من انتصار ثورة ديمقراطية في سوريا تهزّ ارتداداتُها الإقليم، بما فيه دول الخليج العربي ذاتها، وسعيها لاستثمار عنف النظام ووحشيته والبناء على توجهه لزرع الفتنة الطائفية كسياسة لحرق الثورة وتشويهها، فرعت تلك الدول ردّ الفعل الشعبي إزاء السلوك الطائفي للنظام واحتضنت بذرة السلفية وسعت لتحويلها إلى الوجه الرئيس للثورة عبر تمويلها وتسليحها، ودمّرت المكون المدني والديمقراطي فيها، وقد تسارع هذا التوجه بعد تسلم حركة الإخوان المسلمين للسلطة في مصر وتناغمها مع تركيا في دعم الإخوان المسلمين السوريين والعمل على احتلالهم دوراً كبيراً في سوريا المستقبل تنطلق السعودية في مقاربتها للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية من اعتبار الصوفية والإخوان المسلمين خصوماً من داخل الفكر الاسلامي، وكانت المملكة على علاقة قوية ببن لادن وتنظيم القاعدة إلى أن انفجرت العلاقة بسبب استعانة السعودية بالقوات الامريكية لمواجهة احتلال العراق للكويت، وقد عرض بن لادن نقل قوات القاعدة لمحاربة قوات صدام على ألا تستعين الحكومة السعودية بقوات أمريكية، لكن الأخيرة رفضت العرض فانفجر الخلاف وتحول إلى خصومة وعداء بوضع الحكومة السعودية في خانة العدو القريب وبدء العمل المباشر ضدها، وتعتبر الحكومة السعودية كل الفكر الحداثي القومي واليساري والليبرالي والديمقراطي معادياً ومرفوضاً..

التيار السلفي أمام الامتحان

غير أن صعود التيار السلفي طرح عليه تحديات كبيرة وخطيرة وضعت مستقبله، ومستقبل المشروع السلفي، على المحكّ، لجهة النجاح في التعاطي مع مترتبات هذا الصعود وإعطاء أجوبة فقهية وسياسية تقنع المجتمعين السوري والدولي بأن سوريا ستكون دولة مستقرة يعيش مواطنوها بأمان ومساواة في ظل سيادة القانون والحريات العامة والخاصة.

يستدعي هذا أن تنجح جماعات التيار السلفي في حل الإشكالات التي تنطوي عليها منطلقاتها وخياراتها الدينية والسياسية وأهمها:

أ- قراءتها للنص الديني وتمسكها بظاهر النص وتجاهلها لأسباب النزول والمقاصد العميقة للنص الديني التي تجعله منفتحاً على الزمان والمكان عبر ترك هوامش واسعة في المجالات غير العقدية لتحرك البشر واجتهاداتهم والتفاعل مع التغيرات التي تطرأ على المجتمع الإنساني والإسلامي، كما قفزها فوق حالة المجتمع الإسلامي الراهنة على صعيد تعاطي المسلمين مع قضايا الإيمان أو ثقله في ميزان القوى العالمي، وغير ذلك مما يجعلهم الطرف الأضعف والذي يحتاج إلى ما في أيدي الآخرين من علم وتقنية ليحل مشكلاته المعيشية والخدمية والصحية.

ب- رفضها للقراءات والاجتهادات الأخرى، ما يضعها في مواجهة فقهية مع أصحاب هذه القراءات ويحول دون مدّ جسور التفاهم والتعاون والتعاضد والتعايش تحت سقف مجتمع واحد، والانزلاق إلى الصدام معها.

ج- عدم وجود تصور سلفي يلحظ ما في العالم المعاصر من قضايا ومسائل ومشكلات تؤثر في حياة الإنسان بشكل عام والمسلم بشكل خاص، فالتصور السلفي فقير في مكوناته وغريب عن عالم اليوم نتيجة استغراقه في الماضي والانطلاق من نظرة نكوصية ترى القرون الأولى أفضل القرون وتبدأ الحالة بالانحدار مع التقدم في الزمان، ولذا فهي غير قادرة على التعاطي مع الحاضر والمستقبل وغير قادرة على طرح نموذج سياسي مقنع وجذاب، ما لم تكسر قواعد نظرتها وتنطلق من فهم التاريخ واكتشاف السُنَن والتطلع إلى المستقبل من خلال احتياجات الانسان الذي بُعث الأنبياء لمساعدته على التحرر والعيش في ظروف مريحة وإيجابية، فالدين جاء لخدمة الإنسان وليس العكس في واقعة ذات دلالة أن سلفياً من ديرالزور علق على خبر من إذاعة لندن حول لقاء الرئيسين السوري حافظ الأسد والفرنسي جاك شيراك في دمشق أواخر عام 1996 بالقول: «هل يستطيع الرئيس السوري أن يقول للرئيس الفرنسي: «أسلم تسلم». فقلت له: «وكيف يستطيع أن يقول له ذلك وكل 7 أرغفة من 10 أرغفة من التي نأكلها نحن العرب تأتي من دول غربية/مسيحية». فصمت الرجل وكأن على رأسه الطير..

د- دعوة مجموعات سلفية إلى إقامة الخلافة (دولة أمة المسلمين، دولة فوق وطنية) باعتبارها فرضاً إسلامياً، ما يجعلها أصلاً من أصول الدين، وهو مخالف لما تواضع عليه المسلمون من أصول (الألوهية، الرسالة، الميعاد)، وليس له سند صلب وواضح من النص الديني (القرآن الكريم)، حيث لم ترد في النص لا صراحةً ولا مداورةً، فالتسمية وُلدت عفوياً من وصف طبيعة دور الإمام الذي تلا الرسول (خلفه في موقعه في قيادة المسلمين فهو خليفة، ثم وصف النظام السياسي بالخلافة)، وقد تخلى عن الكلمة عمر بن الخطاب إلى «أمير المؤمنين»، لأنه اعتبر نفسه خليفة أبي بكر وليس خليفة الرسول، ورأى أن وصفه سيكون «خليفةَ خليفةِ رسول الله» وأن في ذلك ركاكة وإرباكاً. أما الحديث الشريف «ثم تكون خلافة على منهاج النبوة» نص الحديث: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه إذا شاء الله أن يرفعه، ثم تكون ملكًا جبرياً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله إذا شاء أن يرفعه، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت». الذي يستند إليه هؤلاء الدعاة فبحاجة إلى تدقيق، لأنه لا يتسق مع منطق القرآن الكريم الذي يجعل من الغيب ساحة خاصة بالله عز وجل، وقد منع النبي عليه الصلاة والسلام من الخوض فيه. كما أن وقائع التاريخ في العهد الراشدي تشير إلى الضد من ذلك، حيث تباين منهاج الخلافة أيام عثمان وعلي عنه أيام أبي بكر وعمر تبايناً شديداً.

لقد أخطأ دعاة إقامة دولة الخلافة عندما لم يميزوا بين ضرورة الإمامة، التي نادت بها كل المذاهب الإسلامية، وطبيعة الدولة وارتباطها بشروط وسمات العصر الذي تقوم فيه، حيث لا يمكن فصل الدولة عن العصر الذي تنشأ فيه. كان التمييز بين ضرورة «الإمامة» وطبيعة «الإمامة» حريّاً بوضع حدّ لهذه الدعوة غير المنطقية والتي لن تقود إلى مكان، لأنها تتناقض مع روح العصر ومع الدولة الحديثة، حيث لم يعد للدولة الإمبراطورية وجود بعد أن قاد التطور السياسي والاجتماعي العالمي إلى إلغاء «حق الفتح» عام 1919 في عهد عصبة الأمم (كان «حق الفتح» قد ألغي في أوروبا قبل قرون من هذا التاريخ عبر معاهدة وستفاليا 1648، لكنه بقي اتفاقاً أوروبياً)، ما جعل الدولة الإمبراطورية بسماتها المعروفة (عدم ثبات حدود الدولة والشعب والسيادة، لأنها عرضة للتغير الدائم بحسب نتائج الحروب والغزوات) غير شرعية ولا تمتلك فرصاً للنهوض، لأنها ستُواجَه من قبل دول العالم قاطبة، وأمامنا أمثلة معاصرة: الإمبراطورية السوفييتية المنهارة، والأمريكية التي تلقى مقاومة دولية للحد من ممارساتها الإمبراطورية.

موقع المرأة في التصور السلفي أو دورها في حياتنا، والذي يصفه بالتكميلي، فيه انتقاص من مكانتها ودورها الذي حدده الشرع الإسلامي إذ يمنحها موقعاً أفضل، فهي مساوية للرجل في آدميته المرتكزة إلى وحدة الأصل، ومكلفة مثله، ودورها تكاملي مع دور الرجل وليس تكميلياً، في ضوء اعتباره الأسرة (ذكر وانثى) الوحدة الاساسية للمجتمع، وعدم تحديده سقفاً أو محرمات أمام دور المرأة، وقد كان لافتاً أن القرآن الكريم في روايته لقصة بلقيس ملكة سبأ مع النبي سليمان أنه لم يعكس أي تحفظ حول موقعها في رأس هرم السلطة، ملكة في بلدها، بل نقل صورة إيجابية عن قيادتها لبلدها أنها لا تأخذ قراراً إلا بعد مشاورة مجلس حكماء في المملكة، وأن كل ما يقال عن أدوار وقيود وحدود لدور المرأة في المجتمع هو من وضع فقهاء المسلمين، رأي/ اجتهاد بشر قابل للطعن والتعديل.

هـ- عدم وجود تصور سلفي مرن للتعاطي مع المختلف دينياً ومذهبياً، وتمسك التيار بفقهِ أزمات قائم على فكرة الدفاع والمواجهة، ما جعله عاجزاً عن التعايش في مجتمع تعددي ومفتوح وانحيازه للصدام والعنف، في حالة خوارج جدد تدفع للانقسام والتمزق الاجتماعي والسياسي.

و- انقسام هذه الجماعات بين تيار لا يعترف بالأوطان، وله برنامج جهاد عالمي، وآخر وطني، وله برنامج جهاد محلي فقط، وهذا سيربك المجتمع السوري بسبب تضارب الخيارات والبرامج وصعوبة التمييز بين التيارين من حيث الظاهر، ناهيك عن احتمال الدخول في صراعات بين الجماعات السلفية على هذه الخلفية.