يربط كل جانب من طرفي جنيف مستقبلهما، وهذا أمر مشروع في حالة أي زعيم أو جسم سياسي، بقدرتهما على تحقيق أهدافهما، وهذا يصعّب من عملية إيجاد تسويات منطقية ومعقولة عند قيام مفاوضات علنية كما ستكون عليه الحال عليه في جنيف.والسؤال:هل أخذ الائتلاف الوقت الكافي لاستعادة تركيزه على الفروقات بين الآراء الخاصة به وتلك الخاصة بالخصم، وعلى أزمة الوجود والشرعية التي تعتريه وتلك التي تعتري النظام، ومن ثم الحكم على الأصلح من هذه الآراء؟ هذه العملية بالتحديد هي ما يمكن اعتباره الجوهر في نجاح الديبلوماسية.وعلينا أن نتوقع، تماماً في حالة مثل جنيف، أن يقوم النظام السوري وبكافة السُبُل بتجنّب إنجاز أي اتفاق إلا ضمن صيغ مبهمة تفسح له المجال لإنكاره أو فك ارتباطه به لاحقاً إن لم يحقق غايته، دون أن يمتلك الائتلاف أي حيلة للدفع بالمفاوضات أو تحقيق إنجازات ملموسة للسوري العادي على أرض الواقع.

إن لقاءً مثل لقاء جنيف يجمع خصمين إيديولوجيين، بعد حقبة توتّر ودم، أمر معقد، ولا بد أن تحدث اضطرابات لدى الشعب السوري، وستزداد حدة هذا التوتر مع الإعداد لجنيف.وإن كان المؤتمر هذا يثير لدى البعض أملاً فإنه بذات الوقت يحمل مخاطر عظيمة قد تنتج عن خيبة الأمل وما يتبعها من تجاذبات وتذبذبات خطرة حال فشله المتوقع بالشروط الذاتية والموضوعية التي سيذهب بها الطرفان لعقده.يحتاج الائتلاف السوري المعارض كذلك، وبشكل دوري، إلى أن يكوّن فكرة حول المحاكمات الديبلوماسية للجانب الغربي وتصوراته لحل الأزمة عبر جنيف، وإلا فإنه سيقع في خطر العيش في سلسلة من الأوهام يبعث بها البعض من الأيديولوجيين لا طائل منها سوى تشجيع أفكار متعصبة معدّة مسبقاً.التفاوض في جنيف، وكبداية قبل الخوض في التفاصيل الملموسة لما يمكن أن يحققه، سيقدم لممثلي الجانبين فرصة هامة لمعرفة دواخل الطرف الآخر وتفاصيله النفسية، وهذا مكسب لديبلوماسية الائتلاف لمواجهة أفكارهم المسبقة عن النظام وممثليه، فهو قد لا يتجاوز اختبار ما يطلق عليه من صفات، مما يمهد الطريق لاحقاً لوضع استراتيجيات تفاوضية ذات جدوى وفعالية أكبر.

من المحال في الديبلوماسية الحصول عن طريق التفاوض على أمر لا يستطيع أي طرف إنجازه بالجهود والقدرة الذاتية.ولكن ماذا تعني هذه المقولة حين إسقاطها على الائتلاف والنظام معاً؟ بالنسبة للائتلاف، فإنه لا يستطيع التأثير في الدول الإقليمية التي تمتلك حصصاً في الأزمة السورية، كما في بعض الفصائل العسكرية المؤثرة أو قوى الجهاد العالمي التي ينسحب أمامها الجيش الحر على الأرض؛ بينما يتمتع النظام بأفضلية في ذلك. صحيح أنه، بدوره، ربما لا يستطيع التأثير المباشر في الدول الإقليمية التي تمتلك حصصاً في الأزمة السورية، إلا أنه (أي النظام) يمتلك بعض الروافع تجاهها ليؤثر في طريقة إدارتها للأزمة. يتمتع النظام أيضاً بمركزية السلطة والقدرة على التأثير في مكوناته الداخلية، العسكرية والمدنية منها، كما يمتلك حرية مناورة أكبر في صياغة موقفها من الأزمة ويناصره الرأي العام لديه.

إذا كان الائتلاف لا يمتلك مقوّمات هامة، ماذا يمكن أن يبقيه في خضم جنيف إذاً؟ إن النجاح ليس هدف الديبلوماسية المتمثلة بالمفاوضات في مثل هذه الحالة، بل يجب أن نقتنع برمزية المجابهة لا بنتائجها. لقد انقلبت الاستراتيجية بالنسبة للنظام إلى عملية حسابية صرفة، فطالما بقي لديه سلاح تقليدي كافٍ لردع أعدائه والحفاظ على حياة النظام فلا ضيرَ من تسليم السلاح الكيماوي. وإن هو ذهب إلى المفاوضات فهو لهذا الغرض بالذات، وليس لتسليم السلطة على الإطلاق.

أين يلتقي إذاً الائتلاف والنظام؟ يُعتقد أن الاثنين لا يمتلكان النفوذ السياسي والأدبي الكافي. لا النظام على الصعيد الدولي ولا الائتلاف على الصعيد الداخلي؛ بينما يتمتع الائتلاف بالمقابل بالشرعية الدولية. وبالعودة إلى نفس النقطة التي تقول باستحالة الحصول بالمفاوضات على أشياء لا يستطيع احد الأطراف تحقيقها بجهوده الخاصة، ماذا يجب على الائتلاف أن يفعل على هذا الصعيد قبل الذهاب إلى جنيف؟

إن أفضل نقطة للانطلاق في ملحمة الجدل الدائر حول جنيف بالذهاب أو عدمه هي موقف الائتلاف الحالي ذاته وليس موقف النظام، لأنه يطول الكلام حول ضرورة وقدرة جعل موقف الائتلاف أفضل من موقف النظام على كافة الصعد، وبخاصة العسكري منها، إذ كشفت الضربة الأمريكية التي كان من المفترض أن توجه إلى النظام أن الجانب العسكري المدعوم من الغرب غير قادر على تحقيق أي تقدم بقواه الذاتية الخاصة من دون تدخل عسكري دولي مباشر. إن شروط الديبلوماسية غير ناضجة بين الائتلاف والنظام لأسباب لا يتسع الوقت لشرحها، ولن تفضي العملية التفاوضية بشكل مباشر إلى انتقال السلطة وواهم من يعتقد ذلك، ولكن هذا لا يعني التنكر لجنيف، لأن هناك دائما إمكانية اللجوء إلى الملاذ الآمن لأي ديبلوماسي أو لعملية ديبلوماسية لا تتمكن من التوصل إلى اتفاق مع خصم حول آرائهما، بينما يرفضان الإقرار بالهزيمة بذات الوقت، أو حين توصلهم المفاوضات إلى مأزق، ويمكنهم هذا الملاذ من الحفاظ على موقفهما الأصلي. في مثل هذه الحالة الملاذ دائماً هو جنيف١ بشروطه المعروفة للتوقيع في النهاية على عدد من المبادئ العامة بهدف التنفيذ، يقرّها ساسة الائتلاف نابعة من موقفه ومن الإجماع الدولي من النظام والتي جاءت في وثيقة جنيف١، إذ أن النظام ذاته اعترف بهذه النقاط سابقاً وخاصة فيما يتعلق بالمسار الإنساني والممرات الأمنة وإطلاق سراح المعتقلين وإعادة الإعمار.

سيكون الهدف الوحيد من جنيف هو تعرية النظام بإبراز مفاوض شرعي للشعب السوري أمامه يفاوضه على تسليم بعض من السلطة التي يحتكم عليها بقوة الأمر الواقع بشكل غير شرعي وذلك عندما تنضج شروط الحوار واستكمال مسيرة إسقاط النظام لاحقاً والتي قد تكون طويلة، لكن دون أن يحلم المرء بتحقيق نجاح واحد ومكسب أبدي خالد من جنيف٢ وإنجاز المطالب دفعة واحدة، ويستحسن أن تبلور المعارضة فكرياً الأداة التي تمكّنها من فعل ذلك مستقبلاً. من المقلق حقاً أن تتحول قصة جنيف إلى قضية أكاديمية وتقنية أكثر ما يتطلبه الأمر، وبخاصة في ظل غياب استراتيجية حقيقة واقعية للمعارضة أو بدائل تكتيكية تقترب بها من جنيف والنظام معاً، كما هو واضح من العملية المستمرة المتمثلة في حقن الأيديولوجيا بالديبلوماسية الناتجة عن حقن الدين بالسياسة في الأزمة السورية وأثرها المدمّر على مستقبل الائتلاف وسورية برمّتها على المدى الطويل. إن جنيف، بقدر ما هو الطريق إلى تحقيق ما تصبو إليه المعارضة من أهداف الشعب السوري على المدى البعيد، هو طريق لتحلّل الائتلاف وتفكّك المعارضة إن هما لم يحسنا التعامل معه، وبخاصة أن حل الأزمة السورية خاضع لاعتبارات تتجاوز الائتلاف والنظام كليهما معاً من جهة، ودخول عوامل أخرى غيّرت طبيعة الأمر الواقع في مثلّث الأزمة الحالية (معارضة–نظام–قوى الجهاد العالمي) من جهة أخرى. يجب علينا من الآن فصاعداً النظر إلى العملية كسيرورة تتطلب القوة والعزم وديبلوماسية مثابرة مقررة.

عند مواجهة النظام بالحقائق الثابتة الموجودة في وثيقة جنيف الأولى وتثبيتها بشكل عملي كأرضية للمفاوضات عبر جنيف٢، لن يكون بإمكان النظام اعتبار أن لديه الكثير من الأوراق الرابحة، ومن هنا في هذا الظرف يتطلب الهدف الاهتمام بالشكل المتمثل بحضور المفاوضات أكثر منه بالمبدأ المتمثل بإسقاط النظام بالضربة القاضية وربما من الجولة الأولى في جنيف٢.

إن ديبلوماسية النظام، إن حضر جنيف٢، تقوم ببساطة على معاملة الطرف الآخر بإنكار وقسوة وسخرية ودعابات سمجة تؤدي به إلى التسليم، والكل يتذكر آخر هذه الدعابات من وليد المعلم الذي سيغرق المعارضة بالتفاصيل ونصيحته إليها أن تتعلم السباحة… أو السماجة في توصيف الفرق بين معارضة الداخل والخارج، وللأسف فان الكثيرين يقعون في فخ هذه الترهات. إن أفضل ما يمكن للمعارضة فعله هنا هو أن تتحلى بخفة الظل مقارنة بالطرف الآخر، وهو أمر لم تحسن القيام به بعد على الإطلاق؛ وأن تجتنب المواجهات على أساس شخصي؛ وأن تأخذ الأمور على محمل الجدّ لتبيّن موطن قوة وشرعية قضيتها؛ وعدم التعامل كذلك مع جنيف على أنه حدث تاريخي خارق للعادة؛ كما ومن المحبذ ربطه بالاستراتيجية الكلية للغرب في مواجهة إيران في المنطقة وأن يعاد إلى الأذهان مفهوم الترابط Linkage بشكل مستمر، أي أن حدوث تقدم على صعيد المفاوضات مع النظام من شأنه كذلك أن يسرع المفاوضات بالنسبة للجانب الإيراني مع الغرب. إن من شأن فك ارتباط جنيف عن خلفية المجابهة مع إيران أن يحرم المعارضة من رافعة مهمة اتجاه النظام الذي يرتبط وجوده كذلك بتبعات العلاقة بين الغرب وإيران والعكس صحيح، لأن أي سوء فهم لتلك المجابهة سيحرم الائتلاف من رافعة مهمة.

أما كل هذا الجدل الذي ينخرط فيه الجميع حول جنيف داخلياً فإنه ليس بمقدمات منطقية لديبلوماسية هدفها إسقاط النظام بل إطالة لعمره، وتعقيد للأمور أكثر عن طريق تشويش الرأي العام، الجاهل أصلاً بما يسمى ديبلوماسية، بسوء الفهم الذي يركز على الجانب التقني من المفاوضات (جدول زمني ضمانات الخ) في ظل غياب الاستراتيجية الواضح من خلال كل ما تقدمت به المعارضة من طروحات سواءً أمام مؤتمر أصدقاء سورية الأخير أو أمام الجامعة العربية. إن الائتلاف غير قادر على تحقيق ما يصبو إليه من إسقاط للنظام وانتقال السلطة بقدراته الذاتية، ولهذا نعيد التذكير بأن أي نجاح لحظوظ المعارضة بالبقاء السياسي من عدمه هو استثمار جنيف٢ والنظام ذاته عبر مسيرة ديبلوماسية جريئة وحصيفة بين أضلع أطراف مثلث الأزمة الداخلية السورية (معارضة–نظام–قوى الجهاد العالمي)، ديبلوماسية تعتمد العزم، مرسومة مسبقاً بشكل استراتيجي، وهذا ما لم يحصل بعد.