لربما كان مؤلف 1984 ومزرعة الحيوان سيبقى على صمته حيال سوريا الأسد.
ثمة على الدوام مخاطرة في أن تنسب لشخص ميت آراء حيال أحداث معاصرة. ونحن لا نستطيع أن نقول، بيقين مطلق، أن جورج أورويل ما كان ليساند نظام الأسد بوصفه أهون الشرَّين، كـ«علماني» و«معادٍ للإمبريالية»، لأننا ببساطة لم نبتكر بعد طريقة لبعث الميت وسؤاله. إلا أن سجل أورويل في معارضة «ياءات النسبة» الفتاكة الثلاث المعاصرة له (الإمبرياليّة والفاشيّة والستالينيّة) يعني أن بمقدورنا طرح تخمين حاذق فيما يتعلق بوجهة النظر التي كان قد يشكلها حيال الحرب السورية.
كان ثمة وضع مماثل لما هو الحال في سوريا، شهدته إسبانيا أثناء حياة أورويل، وهذا ملائم بما يكفي للقياس. وقتها، حاولت مجموعة من الضباط الفاشيين أن تطيح بحكومة مانويل آزانا اليسارية. وكان هؤلاء الضباط يتلقون الدعم من إيطاليا موسوليني وهتلر؛ بينما تلقت القوى الجمهورية اليسارية، الداعمة للحكومة، مساعدة المكسيك واتحاد ستالين السوفييتي فقط. أما الديموقراطيات الغربية، وبذاكرة ما تزال حية عن فوضى مستنقعات الدم في الفلاندرز وفرنسا، فبقيت محايدة بحذر طوال فترة الحرب. والخرَق الوحيد لهذا الحياد كان قراراً كارثياً اتخذته كل من بريطانيا وفرنسا بفرض حظر تزود بالأسلحة. فكان له نتيجتان ناقضتان له، الأولى هي تقوية الطرف الفاشي (الذي لا تأتي أسلحته مما وراء البحار و، تالياً، لم يؤثر عليه الحظر)، والثانية هي ضمان اضطرار الجمهوريين إلى التعويل على الاتحاد السوفييتي حصراً للتزود بالأسلحة. (مارست القوى الأوربية، بشكل مشابه، عادة قذرة بفرض حظر مثير للتقزز على التزود بالأسلحة، مستبقة ما فعلته بعدها بستين عاماً بفرض حظر على بوسنيا، وعلى السوريين حتى شهر حزيران من هذا العام، نتجت عنه عقابيل مشابهة في الحالين كليهما).
اعتبر أورويل أن مكافحة الفاشية شأن عظيم، إلى حد أنه ترك ما توفر له من حياة مريحة ككاتب في إنكلترا، كما هجر زوجته بعد فترة لم تتعد الأشهر الستة من زواجهما، ليسافر إلى إسبانيا ويقاتل في صفوف الجمهوريين. أمضى أورويل أشهراً عديدة في الجبهة، وشهد معارك كبيرة وأصيب برصاصة قناص في عنقه كادت تقتله. وبعد أن أصابه الفاشيون بجرح، أُجبرت الميليشيا التروتسكية، التي كان أورويل منخرطاً فيها، على الخضوع لأوامر شرطة ستالين السرية، الـNKVD. تحوُّل شرطة ستالين السرية إلى مزوِّد حصري بالسلاح استحثّ إلى هذا الحد أو ذالك توجيه النيران نحو الجانب الجمهوري. فكان على أورويل أن يفرّ إلى فرنسا ليتجنب الحبس بشق النفس، وهكذا، حصَّلَ في إسبانيا امتياز جعْل نفسه عدواً لكل من شيوعية ستالين وفاشية فرانكو المبتذلة. تجربته الأولى، هذه، مع الستالينية في إسبانيا سمحت لأورويل أن يصوِّر بقوة الأنظمة الشمولية في روايتيه، «1984» و«مزرعة الحيوان».
لا بد أن قراءً أذكياء، ممَنْ لهم ألفة بسوريا، قد رصدوا سلفاً ثلاثة أوجه للشبه بين الصراع في سوريا والحرب الإسبانية. أولها أن الديمقراطيات الغربية، في الحالين، لم تقف عند حدود رفض التدخل إلى جانب الطرف الذي يقاتل الفاشية فقط: لقد أعاقته بالحد من تزويده بالسلاح. وهذا أجبر الطرف الإسباني المعادي للفاشيين التعويل على الستالينيين وأجبر السوريين التعويل على الجهاديين للحصول على البنادق والنفط وحتى الغذاء. وثانيها، ونتيجةً لذلك، تم اختطاف الطرف المعادي للفاشية من قبل الستالينيين في إسبانيا ومن قبل مجانين المتدينين في سوريا. وثالثها، جَذَبَ قتال الفاشية، في كلٍ من إسبانيا وسوريا، أعداداً كبيرة من المقاتلين الأجانب ينتمون إلى شرائح أيديولوجية متنوعة وذات سمعة متدنية في الغالب.
بطبيعة الحال، انتهت الحرب الأهلية الإسبانية لأن تكون مجرد افتتاحية لعقد كامل من الكفاح ضد الفاشية على مستوى العالم كله. ففي الفترة السابقة على الحرب العالمية التالية (الثانية)، كان أورويل متشككاً بدايةً حيال ما إذا كانت حرب الحفاظ على الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، واستغلالهما المنهجي للأعراق المقهورة، هي حرب تقبل التبرير. حقيقة الأمر، أنه مضى إلى حد تسمية الإمبراطورية البريطانية بالشر «الأكثر اتساعاً» من ألمانيا هتلر. في معرض دفاعه، كتب أورويل ذلك في صيف العام 1939 قبل أن يتوقع أي امرئ الهولوكوست بوقت طويل.
غزو هتلر السريع لأوربا دفع أورويل إلى تغيير رأيه سريعاً وبالكامل، فبحلول صيف العام 1942، كان قد بدأ بالسخرية من معارضة الحرب. إذ يصف في مقالته «السلمية والحرب» السلميين البريطانيين بـ«مؤيدي الفاشية موضوعياً»، وسمى أيديولوجيتهم بـ«وهم برجوازي فرَّخهُ المال والأمن». ومن العام 1941 إلى العام 1943، عمل أورويل لصالح هيئة الإذاعة البريطانية BBC، ووضع برامج مصممة لمجابهة الدعاية النازية في الهند، رغم معارضته الراسخة للاستغلال الاستعماري.
بمعزل عن سجل مناهضة الشمولية هذا، اصطنع أورويل لنفسه عادة مارسها طوال حياته، عادة التصويب نحو الدوغما اليسارية والمثقفين اليساريين ممّن كاثروا أي شيء من قبيل خط حزبي. ففي مقالته «الكاتب والتنين»، 1948، جادل في أنه للكاتب أن يرغب في الانخراط بالسياسة كـ«إنسان، لكن لا ككاتب». ويمضي أورويل ليحاجج: أن تنخرط في الدعاية أو «تخضع ذاتياً، ليس لآلة حزبية وحسب، بل حتى لجماعة أيديولوجية، هذا يعني تدميراً لذاتك ككاتب».
مارس أورويل طوال مسيرته المهنية ما كان يبشِّر به، مستهلكاً حبراً أكثر في مهاجمة زملاء يساريين (أو رجعيين تموقعوا كيساريين) مما في مهاجمة الفاشية. لذا يمكن للمرء أن يخرج بانطباع مفاده أن أورويل أعتبر أن الفاشية قريبة تماماً من الدحض الذاتي. فالستالينية، لا الفاشية، هي الدريئة الرئيسة لهجماته في كل أعماله الأكثر أهمية، من «تحية إلى كتالونيا» إلى «مزرعة الحيوان» إلى أعظم إبداعاته: «1984».
نظراً إلى رغبته في إطلاق النار على يساريين زملاء، ومعاداته المتعصبة للشمولية، واتساقه في تحديد صائب لهوية أهون الشرين، يجد المرء مشقة في تخيل –دون أن يدفعه ذلك إلى الضحك– انضمام أورويل إلى تحالف الخسّة بين الستالينيين ومعادي الإمبريالية، ممن شكلوا «تحالف وقف الحرب». (وبينما يتعرض ملايين السوريين إلى القصف والتجويع والتعذيب والسجن والتهجير، تنشغل حثالة معادي الإمبريالية في التنكر لمسؤوليتها الجمعية وتهنئة الذات على «إيقاف الحرب»). يبدو غير مرجح، بطريقة ما، أن رجلاً كان ليصف سوريا تحت حكم الأسدين في «1984»سيؤيد استمرار بقاء عائلة سيكوباثية مجرمة، لأنها، ببساطة، لم تنبس ببنت شفة تجاه معاداة الصهيونية.
كما لا يبدو معقولاً، بوجه خاص، أن أورويل كان ليلتحق بأولئك «اليساريين» الذين يتبنون النظام الديني القروسطي في إيران، وما نظام الأسد إلا تابع مملوك كلياً له. ونظراً إلى تأييد أورويل للديمقراطيات الغربية في وجه أشكال مشابهة من الفاشية، فمن السذاجة بمكان تخيل أنه سيلتحق بصفوف «اليساريين» المعاصرين، الذي يتحمّسون لإخبارنا بأن أي شيء، بما فيه القتل الشامل والأنظمة الفاشية صراحةً، مفضل بالمقارنة مع الإمبريالية الغربية ومصالحها في إخراج سوريا من المدار الإيراني. ولا يمكن لأي امرئ أيضاً أن يتحمل –دون أن تسمع قهقهات ضحكه الساخر– فكرة أن يؤيد أورويل حزب الله في أي صراع وأياً تكن الحال.
وحتى فكرة أقل معقولية، مفادها أن ينضم أورويل إلى أولئك في يسار الوسط: الذين رغبتهم الحقيقة الوحيدة تتمثل في أن تنتهي الفوضى السورية ببساطة حتى يمكن للرئيس أوباما أن يلتفت إلى أجندته الداخلية، وليس ضرورة أن يخرج باستراتيجيا متماسكة، أو تذهب ولايته الثانية رئيساً أدراج ورطة أخرى في الشرق الأوسط. إن التزام أورويل بالأممية، وبتجنّب إغرء الدافع الإنعزالي الحاضر أبداً، قد أُثبتا بأفضل طريقة ممكنة من خلال إرادته القتال في إسبانيا. فوق ذلك، فإن ما أشرنا إليه أعلاه من بغضه التكيف مع أي خط حزبي أو دوغما حزبية يسهّل قابليتنا للاعتقاد بأنه ما كان ليضع أرقام أوباما في استطلاعات الرأي أو وحدة الحزب الديمقراطي موضع الأولوية على سياسة متماسكة تجاه سوريا، حال كثيرين فعلوا ذلك.
على العكس من ذلك، يشعر المرء بثقة كاملة في افتراض أن أورويل كان ليتبنى بإخلاص حركة الاحتجاجات السلمية التي اندلعت في درعا، 15 آذار/مارس 2011. وما من شخص قرأ مقالته «السلمية والحرب» يمكن أن يشك في أنه كان ليتبنى بطريقة مشابهة الكفاح المسلح الذي استحثه النظام بنجاح أواخر العام نفسه، مثلما فعل تماماً في تبنّيه القتال ضد الفاشية في إسبانيا وتبنيه الحرب العالمية الثانية. ويبقى رهاناً أكثر أماناً أنه كان ليفضل ثورة في الثورة ضد البرابرة الملتحين، الساعين راهناً (بنجاح مثير للقلق) لاختطاف المعارضة السورية وصياغة نظام على النمط الطالباني في شمال سوريا. كما لا يمكن للمرء تخيل أن أورويل كان ليوفر أية نخزة فيما يتعلق بضعف وتشظّي المعارضة السورية في المنفى. في التحليل النهائي، فإن الموقف الوحيد الذي كان يبدو أن أورويل ليتخذه، فيما لو كان حياً، هو موقف التضامن والأممية والمعاداة المبدئية للشمولية، الموقف الذي برهن عليه طوال حياته. وما يثير الأسى بالنسبة الشعب السوري، أن الكثيرين جداً في اليسار «المعادي للإمبريالية» قد اختاروا بدلاً من ذلك أن يمحضوا القاتل الشامل تضامنهم، لكن تحت شعار معاداة الغرب.