مرت سنة، تقريباً، على انقضاض النظام بأشد أشكاله كشفاً له، بالطيران الحربي، على جامعة حلب.

تساءل الجميع في وقتها عن السبب الذي دفع النظام إلى أن يكشف ذاته للشعب قائلاً: أنا من فعلت ذلك هذه المرة، لا الآخرون، لا أرتدي عباءة أحد، لم أفكك صاروخي لأجعله متفجرات في سيارة مفخخة… أريدكم أن تؤمنوا جميعاً أنني أنا، لا الآخر ولا غيري ولا أشباهي، من تسيل الدماء من شدقي.

يوم مشمس

لم يعمّ الأثير السوري سؤال الـ«كيف» كثيراً، فقد انتشر تسجيل مصور يظهر الغارة الجوية الثانية على الجامعة، أما السؤال الذي تم طرحه وتداوله هو: لماذا؟

بدأ الحراك الثوري في الجامعة بإعادة تشكيل نفسه واستعادة عنفوانه في قلب المدينة، في جزئها المحتل، فكان ردّ النظام الأسدي على التحرك حاسماً حازماً: لن أتساهل أبداً مع المثقف الترابي الموجود في الثورة السورية، بكل بساطة ووضوح: سأقتله!

كانت رسالة غاية في الوضوح، تحمل ختم الطيران الحربي.

لكن القصة لم تقف عند ذلك الحد، بل كانت إعلاناً للمخطط ومهره علناً، وسيراً به على أكمل وجه.

في ذلك اليوم، كنت لا أزال أستطيع التنقل بين المناطق المحررة والمحتلة من مدينة حلب، واقفاً أسند ظهري إلى سور «شهبا روز»، أنتظر صديقتي الجميلة، لعل لقاءنا يكون حاضراً كلا في واقع متشظي بين ماضٍ لم يمض تماماً ومستقبل لم يأت تماماً بعد.

وبينما أنا واقف، ارتجّ المكان، السور.

انتظرتها، مؤوّلاً الزمان بين المنطق والواقع والرغبة.

وصلت، انعكست على وجهها فداحة المصاب ودقة الإصابة: في قلب الثورة تماماً.

مختطفون

سالت الدماء في الجامعة، بعد عدة أيام من خروج مظاهرة فيها.

لكن لم تكن هذه الخطوة الأولى على مستوى التراب السوري، فقد عمد النظام الأسدي منذ اليوم الأول إلى إخراج المثقف الترابي من المشهد السوري، وإغراق المشهد بالدماء والقرف، وتصديره للعالم على أنه مشهد رعاعي متطرف.

صعد القناص إلى منزله الجديد، بدأ الرجل بتقطيع المدينة، ورسم خطاً بدماء أهل المدينة بين حيَّي بستان القصر والمشارقة، حيث كان هذا الخط أهم الخطوط  في خريطة المدينة الجديدة ومحور تقسيم المدينة، حيث أنه فصل قلب المدينة، مركزها الثقافي، الدوائر الحكومية والمؤسسات الخدمية والصحية، كل هذه المراكز تتركز أصلاً في أحياء الطبقة المتوسطة والغنية من أهل المدينة.

وليس من الصدفة أن جميع المراكز الأمنية بُنيت في تلك المناطق وتمترست بها.

بعد دخول المقاومة الشعبية إلى المدينة، دافع النظام بشراسة عن قلب المدينة، وحاول جاهداً أن يرسم خريطة يسيطر فيها الثوار على حزام الفقر فقط، بينما تترك بقية المناطق له.

في بداية قصف النظام الأسدي للمناطق المحررة، نزح الكثير من سكان تلك المناطق إلى حلب المحتلة أو إلى الريف الحلبي، ومع استقرار الأوضاع النسبي بدأ الناس بالعودة إلى منازلهم، ولم تسجل بعد ذلك حالة نزوح جماعية على مستوى المدينة إلا عندما بدأ النظام بإحراق المدينة وإراقة دماء سكانها بشكل جماعي كثيف في حملة البراميل المتفجرة على الجزء المحرّر من المدينة.

مع عودة السكان إلى المدينة، وغياب سلطة ثورية واعية تأخذ على عاتقها تسيير أمور المناطق المحررة، حيث أني لست بصدد مناقشة أسباب غيابها حالياً، وغياب دور المثقفين في صفوف المقاومة الشعبية كان من نتائجه استمرار تفكك قوى المقاومة، كل هذا أدى إلى اصطدام المقاومة الشعبية بحاضنتها، والتي أخذتها بالأحضان في بداية تحريرها للمدينة.

استمر المثقف الترابي بالالتحاق بالمناطق المحررة، انخرط في المجال الطبّي والإعلامي والإغاثي والعسكري وغير ذلك، لكن لم يكن ذلك كافياً، إذ إنهم افتقدوا للمشروع الذي يجمعهم، مما أفضى استمرار ضعف قوتهم في على حساب قوى أخرى جديدة، ومما أسهم في زيادة التفكك بين تشكلات المقاومة الشعبية، خصوصاً بعد برود جبهات المدينة لفترات طويلة.

عاشت الثورة في المناطق المحررة حالة من الحرية، لكنها لم تطرح مشروعاً يضمن استمرارية هذه الحالة وتمدّدها، أما النظام الأسدي فكان يُعدّ العدّة للنيل من مثقفي الأراضي المحررة، بدءاً من إنشاء عصابات صغيرة إلى دسّ عناصر داخل التشكيلات المقاومة، إلى افتتاح فرع جديد من فروعه هناك، سمّاه باسم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وسميناه باسم «داعش».

نعم، هناك مشكلة حقيقية بين النظام الأسدي وبين المثقف الترابي، المثقف المنخرط في صفوف المقاومة بكافة أنواعها، أعلن عن المشكلة بكل وضوح في قصفه لجامعة حلب، التي خرجت قبل أيام معدودة من قصفها بمظاهرة أعادت لها عنفوانها وبريقها وتألقها، قصفها بالطيران الحربي، لكن الحراك الثوري فيها لم يستكن، وعبّر عن نفسه بعد أيام قليلة بمظاهرة أخرى في قلب المدينة، في الجامعة.

تم إخراج العديد من أبناء الثورة من المشهد الثوري والسوري، بين شهيد ومختطف ومعتقل وجريح ومهجر.

جدارة

لم أكتب هذا المقال لتبيان السبب وراء قصف قلب المدينة، جامعتها، وتظهير نتائجه. إن طموحي الآني أقل من ذلك بكثير، وقدراتي أيضاً، أطمح فقط إلى الإشارة إلى المشهد بشكل بانورامي بسيط، لعل ذلك يساعدنا على الفهم أكثر، والفعل أكثر.

إن تعداداً كاملاً للأسباب والنتائج يحتاج إلى مركز دراسات متتبع بدقة لمجريات الأحداث، وكل هذا يحتاج وقتاً، ولعله يحتاج ظرفاً آخر غير الذي نعيشه حالياً.

لكل ساكن من سكان حلب قصته عن ذلك اليوم.

كان يوماً كباقي أيام السوري، جديراً بكل شيء جميل. اغتالت يد المجرم أشكاله المحتملة، ليسبح واقعه بدماء الشهداء.