حافظ -1-

على الرغم من أن الوزارة المسؤولة عن التعليم في سوريا فيما بعد المرحلة الثانوية اسمها «وزارة التعليم العالي»، فإن الوزارة المسؤولة عن التعليم في المرحلة الثانوية وما قبل ليس اسمها وزارة التعليم كما يفترض منطق بسيط، وإنما «وزارة التربية»، وقد نالت هذا الاسم بعيد الانقلاب البعثي الأول في العام 1963 بعد أن كان اسمها سابقاً وزارة المعارف، وكأن التربية في الفكر البعثي تأتي في مقام أول سابق على العلم والمعرفة. ولكن أية تربية؟

إنها تربية السوريين على تفويض أمور دولتهم ومجتمعهم لحزب واحد، هو حزب البعث، ومن أجل إنجاز هذه التربية أُوكلت المهمة إلى منظمات رديفة للحزب ينتسب إليها الطالب السوري تلقائياً بمجرد دخوله المدرسة أو الجامعة أو المعهد، فـ«منظمة طلائع البعث» رديفته في المرحلة الابتدائية، و«اتحاد شبيبة الثورة» في المرحلتين الإعدادية والثانوية، و«اتحاد طلبة سوريا» في مرحلة التعليم العالي.

ولكن هذه التربية سيتم تصحيحها لاحقاً بعد الانقلاب البعثي الثالث في العام 1970، إذ سيتم توجيهها لتربية السوريين على نقل تفويضهم من حزب البعث إلى أمينه العام، قائد «الحركة التصحيحية» حافظ الأسد، الذي سيصبح لاحقاً القائد الأب لكل السوريين، ومن واجب الأب تجاه أبنائه حسن التربية، لذا قامت الوزارات المسؤولة عن التعليم بإدخال مواد خاصة لهذه التربية، فوزارة التربية أدخلت مادة التربية الوطنية في الصفوف العليا من المرحلة الابتدائية، وفي المرحلة الإعدادية، وذلك بهدف حب الوطن «السوري» مقترناً بحب قائد الوطن… وفي المرحلة الثانوية سيصبح اسم المادة التربية القومية، وهنا يغدو الربط بين الوطن الأكبر «العربي» وقائده «قائد الأمة»… أما في مرحلة التعليم العالي، فإن الوزارة المسؤولة ستكتفي بالسنتين الأوليين من أي كلية أو معهد لإدخال مادة مشابهة، يغدو اسمها ظريفاً، «مادة الثقافة [القومية الاشتراكية]»، إذ يفترض أن الطالب الذي قد بلغ العشرين عاماّ قد أحسنت تربيته إلى درجة أن هذه التربية الخاصة صارت ثقافة عامة.

في كل كتاب من مواد التربية الوطنية والقومية والثقافة ثمة دروس خاصة لدراسة فكر القائد الملهم حافظ الأسد، من خلال أقواله التي يقولها في المناسبات التاريخية، والطالب ملزم بحفظ هذه الأقوال، بالحرف، تماماً كما يحفظ الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة في مادة التربية الإسلامية.

على مدى ثلاثة عقود، هي حكم حافظ الأسد، لم يترك الرجل مناسبة أو موضوعاً إلا وله فيه قول، في الحرب والسلم، في العلم والثقافة والعمل والشهادة… وهكذا أصبح له بنك من الأقوال يستلف منه المتملّقون عند الضرورة، ولكن هناك أقوال أصبحت مأثورة على ألسنة أجيال من السوريين من كثرة تكرارها في الكتب المدرسية والإعلام، خاصة الأقوال المقترنة في الأذهان باعتباره الأول في موضوعها، فهو العامل الأول، والفلاح الأول، والجندي الأول، والأهم من ذلك هو المعلم الأول، وقد قال في المعلمين «المعلمون بناة حقيقيون لأنهم يبنون الإنسان، والإنسان هو غاية الحياة وهو منطلق الحياة»، وعلى الرغم من أن له أقوالاً كثيرة في الشهادة والشهداء («الشهداء أكرم من في الدنيا، وأنبل بني البشر»)، إلا أن صفة الشهادة هي الصفة الوحيدة التي تنازل عنها كلياً، وليس فقط عن أن يكون الأول فيها، ولكن بعد وفاته حصل بدلاً عنها على صفة الخلود فأصبح «القائد الخالد»، خلوداً جسدياً من خلال توريث ابنه البيولوجي، وفكرياً من خلال سير الابن على نهج أبيه، خاصة في مضمار التربية، تربية السوريين، فتمت إضافة دروس جديدة لكتب التربية الوطنية تدرّس فكر قائد مسيرة التطوير والتحديث الدكتور بشار الأسد.

-2-

من أقوال الأسد الأب الشائعة، التي اضطر آلاف من الطلاب السوريين إلى حفظها وكتابتها في امتحاناتهم، خاصة المصيرية منها التي قد تغير بضع علامات مستقبلهم مثل امتحان الشهادة الثانوية، ذلك القول الذي اجترحه في كلمته «التاريخية» في اليوم الأول من حرب تشرين «التحريرية» (10/1973): «لسنا هواة قتل وتدمير، وإنما نحن ندفع عن أنفسنا القتل والتدمير، لسنا معتدين، ولم نكن قط معتدين، ولكننا كنا وما نزال ندفع عن أنفسنا العدوان».

بعد ذلك بعشرين عاماً، كانت سوريا قد دخلت مرحلة من الفنتازيا السياسية تمثلت بالإعداد العلني لتوريث الابن الأول باسل موقع أبيه، بعد إعداد سرّي سابق، ولكن المصادفة الدرامية أودت به في حادث سير على طريق مطار دمشق الدولي، فتم استدعاء الابن الثاني بشار، الذي كان مشغولاً في بريطانيا باستكمال اختصاصه الطبي في أمراض العيون، وذلك في خطوة ارتجالية من الأسد الأب يبدو أنه اضطر إليها بسبب من السرطان الذي كان يفتك بأيامه… في نفس الفترة، كانت موضة الفنتازيا التاريخية قد كسحت سوق الدراما التلفزيونية السورية على أيدي عرابَيها: هاني السعدي كتابةً، ونجدة أنزور إخراجاً. في أحد مسلسلاتها، في الحلقة الأخيرة، في المشاهد الأخيرة منها، وبعد أن يُلحق «البطل» (رشيد عساف) الهزيمة بأعدائه الافتراضيين، في مكان ما، وزمان ما، تقترب الكاميرا من البطل، وإذ به يقول: «لسنا هواة قتل وتدمير، وإنما نحن ندفع عن أنفسنا القتل والتدمير، لسنا معتدين، ولم نكن قط معتدين، ولكننا كنا وما نزال ندفع عن أنفسنا العدوان»، لينتهي المسلسل بتوديع الإخوة المشاهدين على أمل اللقاء بهم في جزء ثانٍ ورؤية جديدة.

في حزيران 2000، بدأ الجزء الثاني من الفنتازيا السورية بوفاة الأسد الأب، وتوريث الأسد الابن، ولكن لم يكن ثمة رؤية جديدة؛ إنها نفس رؤية الأب، ولكن بألفاظ الابن، الذي بلغت به السذاجة أن يشرح لأعضاء مجلس الشعب، في إحدى خطبه الأولى أمامهم، عن الفرق بين الرؤية بالتاء المربوطة والرؤيا بالألف الممدودة!

في آذار 2011، انطلقت الثورة السورية ضد الأسد، ابناً وأباً، ونظاماً، لتنتهي مرحلة الفنتازيا، وتبدأ المرحلة الواقعية، وهي كذلك، على الرغم من كل ما يعتورها من عبثية وسوريالية، وقد يكون استنساخ أسود صغيرة أحد مظاهرها، وكمثال على استنساخ الأسد لغوياً، نقرأ ما ورد في العدد 15 من جريدة «صدى الشام»، الصادر بتاريخ 19/11/2013، إذ حاورت «القائد الميداني في لواء فلوجة حوران» أبو هادي العبود، وقد اقتبست من أقواله عنواناً للحوار هذا القول: «لا نعتدي على أحد وإنما نردّ العدوان عن أعراضنا وأهدافنا وأنفسنا… ونحن لا نهوى الدمار وإنما نسعى لإعمار سورية خالية من بشار الأسد وأعوانه».