على الرغم من وحشية النظام السوري وانفلاته من أي ضوابط سياسية أو وطنية أو أخلاقية، فقد ظهر بين السوريين فئة من المثقفين والسياسيين والمتعلمين المعارضين أطلقت على نفسها تسمية «التيار الثالث»، ورفضت وصف ما يجري بأنه ثورة منذ البداية، والتقت مع النظام على الرغم من معارضتها له في وصف ما يجري بـ«الأزمة». وربما يكون تحليل موقف هؤلاء وانتقاده معاداً ومكرراً حتى الملل، لكنه يبدو واجباً اليوم لأن لهذا «التيار الثالث» نظيراً مطابقاً في صفوف الثوار أنفسهم؛ إنهم أولئك الذين يصفون المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بـ«الفتنة»، ويرون فيها حليفاً ضالاً يجب إعادته إلى رشده بدل قتاله وهزيمته.
التيار الثالث «الوطني السوري» يبني موقفه على ثلاثة حوامل رئيسة، والثلاثة تحتل موقعاً مركزياً في السردية الوطنية السورية بنموذجها الذي هيمن على الحياة السياسية السورية لنصف قرن: أولها (1) تمثيل النظام لشرائح مهمة من السوريين، مما يجعل الصدام معه خطيراً على مستقبل «الدولة الوطنية السورية»، خاصة في ظل وجود طائفيين وإسلاميين في صفوف مناوئي الأسد؛ وثانيها (2) يتمثل في نظرة «وطنية إنسانوية» تنتهي إلى أنه لا يحق السوريين –وهم أبناء شعب واحد– حمل السلاح ضد بعضهم البعض، لأن قتلى النظام سوريون ولا يجوز سفك دمائهم، بمن فيهم أولئك الذين يرتكبون الفظائع، فهؤلاء يجب أن يساقوا إلى محاكم وطنية مستقلة بعد التغيير السلمي الديمقراطي؛ وأما حاملها الثالث (3) فيتمثل في مقولة الصراع مع الصهيونة والغرب الامبريالي الذي يتآمر علينا ويغذي صراعاتنا لنضعف في مواجهته، ويوجب التيار الثالث على السوريين، بناءً على ذلك، التصالح ورصّ الصفوف وعدم التفرق، كي لا يتسرب المشروع «الصهيوأمريكي» إلى بلادنا. هكذا ينتهي هؤلاء إلى ترميم شرعية النظام والحرص على عدم القطيعة الجذرية معه حفاظاً على «الوطنية السورية» بنسختها البائسة، التي تحولت إلى عبء على سكان هذه البلاد بدل أن تكون حاملاً للنماء والتقدم والاستقرار.
وعلى الرغم من أن للمعركة مع تنظيم القاعدة أبعاداً دولية لا تخطئها عين، كما هي المعركة مع النظام السوري في واقع الحال؛ وعلى الرغم من استخدام اللاعبين الدوليين والمحليين جميعاً لتلك المعركة بوضوح، بمن فيهم النظام السوري، لتحقيق أهداف لا صلة لها بمصالح سكان المناطق التي تشهد المعارك مع التنظيم، إلا أن لهذه المعركة حوامل محلية تبدو مطابقة إلى حد بعيد لحوامل الثورة على نظام الأسد، وتتعلق بالتوق للحياة والحرية والكرامة لدى الثائرين على «داعش» وحاضنتهم الشعبية. غير أن هناك تياراً ثالثاً «إسلامياً» يُطلّ برأسه مرمّماً شرعية «داعش»، على النحو نفسه الذي ينتهجه التيار الثالث «الوطني السوري»، وعلى حوامل مشابهة إلى حد بعيد.
تنظيم «الدولة الاسلامية في العراق والشام»، الذي لا يعترف بالكيان الوطني السوري ولا بأي كيان وطني آخر، ويكفّر كل مخالف له، ويقتل الناس تحت التعذيب، ويخطف الإعلاميين والأطباء ويقتلهم، بل ولا يتردد في تصفية واعتقال بعض عناصر التنظيمات المشابهة له في الأيديولوجيا (كـ«حركة أحرار الشام» السلفية)، هذا التنظيم بالنسبة للتيار الثالث الإسلامي مجرد حليف مخطئ، والمعركة معه فتنة يجب وأدها.
الحجج والذرائع نفسها. فـ«داعش» (1) تمثل جزءاً من المسلمين الثائرين على الأسد، ومن ثم فإن الصراع معها يهدد «وحدة الصف» الإسلامية، وخاصة في ظل وجود «علمانيين وملحدين وكفار» في صفوف مناوئي «داعش». وأما عناصر التنظيم فهم (2) من المسلمين الذين «لا يجوز سفك دمائهم»، ومن ثم فإن قتالهم أمر مرفوض أو مكروه، وإنما يجب تحكيم شرع الله فيهم أمام «محاكم» شرعية، ويجب التفاوض معهم وعقد الهدنة كلما أمكن ذلك تجنباً لسفك الدماء. وفوق كل هذا (3) فإن المعركة معهم «مطلوبة أمريكياً واسرائيلياً وغربياً»، وحتى من قبل النظام السوري الذي قد يستفيد من المعركة، إذ يجعلون من المعركة التي تجري في الوقت نفسه في العراق دليلاً على تواطؤ محتمل لبعض أعداء «داعش» المحليين مع المالكي في العراق وإيران والولايات المتحدة الأمريكية والنظام السوري.
هكذا، وكما تم التبرير الضمني من قبل التيار الثالث «الوطني السوري» لجرائم قمع المتظاهرين وقتلهم، وللاعتقالات التعسفية والتصفية تحت التعذيب، يتم التبرير الضمني للجرائم نفسها من قبل التيار الثالث «الإسلامي»، ويصبح قتل الطبيب الشهيد حسين سليمان (أبو ريان) تحت التعذيب خطأ فردياً، أو ربما حدثاً مفبركاً أو مؤامراتياً يمكن التغاضي عنه بصورة من الصور لصالح المعارك الكبرى والشعارات الكبرى، كما كان قتل الطفل الشهيد حمزة الخطيب خطأ فردياً، أو ربما حدثاً مفبركاً أو مؤامراتياً يمكن التغاضي عنه بصورة من الصور لصالح المعارك الكبرى والشعارات الكبرى.
لا يبدو أن هناك نهاية لبؤس «الأيديولوجيا» وانعدام الاتساق الذي تخلفه، وكما لا يرى بعض «الأيدولوجيين» مشكلةً في أن تبنى الدولة السورية على جماجم الناس ورُفات توقهم للحياة، لا يرى أيدولوجيون آخرون مشكلة في أن تبنى الدولة الاسلامية أيضاً على جماجم الناس ورفات توقهم للحياة. على أن مما لك شك فيه أن المعركة مع «داعش» ليست فتنة من وجهة نظر ما، إلا بقدر ما تكون المعركة مع النظام فتنة أيضاً من وجهة نظر أخرى، وليس تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام، وهو النموذج الأكثر وحشية للفاشية الدينية، قابلاً للإصلاح أصلاً، إلا بقدر ما كان نظام الأسد، وهو النموذج الأكثر وحشية للفاشية العسكرية، قابلاً للإصلاح.