من المحبّذ، قبل البدء بإطلاق العنان للمخيلة الشعبية لغير المتمرسين في الشان الدبلوماسي من المعارضين، أن تضع المعارضة السورية، ممثلة بالِائْتِلَاْفِ، أُسُس العقيدة الدبلوماسية الخاصة بها، وأن تحدّد أولويات تتعلق بالمرحلة، وأن ترسم استراتيجية ترى من منظارها إلى أين تريد أن تصل على المدى الطويل عبر الانخراط بجِنِيْفْ، وأن تعرف الأدوات التي يمكن أن تستخدم على المدى القريب، إذ إن جِنِيْفْ مرحلة لا بدّ أن تمرّ بها الثورة. إن الدبلوماسية لا تتعلق بتحقيق نجاحات خالدة، بل إنجازات آنية. إنها فنّ التكيّف الدائم وملاحقة اللحظة التي لا تتوقف عن التبدّل، وهي علم بذات الوقت. وجِنِيْفْ٢ ليس حدثاً، بل هو عملية تنطلق بتاريخ محدّد. ولهذا لا بدّ من السؤال: ما هي محدّدات السياسة بالنسبة للمعارضة قبل الذهاب إلى المفاوضات؟
إن استمرارية التفاوض مبدأ في الدبلوماسية، فالتفاوض يكون في زمن السلم أكثر منه في زمن الحرب، وهذه النقطة لم تختبر سابقاً خلال ما يزيد عن عامين ونصف من عمر الأزمة السورية بين المعارضة والنظام من جهة، وبين المعارضة وداعمي النظام من جهة أخرى، وذلك لأن الثورة السورية لم تتمكن من تبيّن مركزية السلطة التي تقرّ السياسة، وربما بسبب نقص روح التعاون، والفردية، وقلة خبرة المتعاطين بالسياسة، وذهاب المعارضة للتدرّب على أصول الدبلوماسية والمفاوضات في زمن الدمار والدم، ولنقص القادة النوعيين القادرين على أخذ الشعب في طريق لم يعتد السير فيه من قبل وعلى منحه بعض الأمل، ناهيك عن تعقيد الوضع الذي لم يسمح لشروط الدبلوماسية بأن تنضج أساساً في الحالة السورية. الفرصة سانحة الآن عبر جِنِيْفْ للأخذ بهذا المبدأ وإطلاقه لمصلحة الشعب السوري. لقد كانت المعارضة، وعلى رأسها الِائْتِلَاْفُ، قادرة عند نقطة معينة من مسار الأزمة على تقديم مبادرات، إلا أن صعود اْلْجَبْهَةِ اْلْإِسْلَاْمِيَّةِ كان بداية انهيار مشروعها في دولة مدنية ديمقراطية بعد جِنِيْفْ٢.
في الدبلوماسية يتمّ التفريق بين «المفاوضات»، التي يجب أن تترك للمحترفين المدرَّبين، وبين «صياغة السياسة»، وهي وظيفة السياسيين. إن الرأي العامّ السوري يبدي اهتماماً بالغاً بالعلاقات الخارجية التي تخطّها المعارضة، ولعل عدم القدرة على التمييز بين «السياسة الخارجية» و«المفاوضات» (التي تدعى «الدبلوماسية») أضعف فهمه للمشاكل التي تعترض المعارضة، ويعود ذلك إلى عدم القدرة أيضاً على التمييز بين ما يمكن أن يسمى بالوجه «التشريعي» للمسألة وما تمكن تسميته بوجهها «التنفيذي».
من جهة أخرى، يواجهنا في الحالة السورية غياب مركزية السلطة التي تقرّ السياسة مع اقتراب استحقاق جِنِيْفْ، ولذلك فإن الخلط بين الوجه التشريعي (أي إقرار سياسة الِائْتِلَاْفِ، ومحدّداته اتجاه جِنِيْفْ) وبين الجانب التنفيذي (المسمى «مفاوضات»– شكّل سوء فهم كبير لجِنِيْفْ على أنه حدث وليس عملية مستمرة تتطلب مثابرة ودبلوماسية جريئة مدروسة بشكل استراتيجي.
الخلط في الأذهان أمر مشروع، أولاً بسبب حداثة عهد المعارضة بموضوع الدبلوماسية، وثانياً بسبب مسألة الشرعية –ومحركّها انطباعات الرأي العامّ– وأثرها في سياسيي الِائْتِلَاْفِ. فغالبية سياسيّي المعارضة لم يُبدوا فهماً مختلفاً عن فهم الإنسان السوري العادي للعلاقات الدبلوماسية، وبين المعارضين من هو جاهل وكسول وينسى كثيراً ما يتعلق بالالتزامات الدولية، ولم يدرك بعد أن العلاقات الخارجية هي علاقات خارجية، يعني لا تتصل بمصالحنا نحن فقط ولكن بمصالح باقي الدول. وفي مسألة جِنِيْفْ بالتحديد، لا يصلح الرأي العام المنقسم دليلاً على إقرار أو عدم إقرار مبدأ المشاركة في المؤتمر. وإذا أردنا القيام بعمل دبلوماسي في الحالات العادية فإن المفاوض أو الدبلوماسي لا يُقْدم على أي عمل ما لم يكن الرأي العام هادئاً تماماً، حتى يتمكن من تبيّن طريقه، فما بالك بالرأي العام السوري داخلياً وخارجياً، وهو أبعد ما يكون عن وصفه بذلك، فضلاً عن انتفاء مسألة هدوئه؟
بالنسبة لوفد المعارضة إلى جِنِيْفْ، من الخطر، بعد أن قام بوضع محددات سياسته تجاه المفاوضات وبمجرد إقراره للسياسة الخارجية، الاعتقاد بأنه أقرّها، من دون الانتباه إلى أن لباقي الدول الفاعلة في الحالة السورية مصالح وضغائن ويجب أن تستشار أولاً، هذا إذا كانت المعارضة ووفدها تريد لسياستها أن تكون فعالة، خصوصاً حين يتعلق مصير الحالة السورية برمّتها بالأطراف التي تمتلك حصصاً بها. وهنا يكمن الفرق بين السياسة والدبلوماسية، وبالتالي بين السياسي والدبلوماسي المحترف من المعارضة، والذي أمضى وقتاً طويلاً في دراسة الحالة النفسية والشروط الخاصة بالبلدان الأخرى، بما لا يسمح له أن يتسرّع بالتعميم المرتكز على الظواهر الخارجية للأمور وعلاقتها مع الحالة السورية.
وبالعودة إلى التمييز بين المفاوضات وصياغة السياسة، يطرح سؤال من الناحية التقنية: هل يبدو هذا التمييز صحيحاً اليوم في دبلوماسية المعارضة نحو جِنِيْفْ المزمع؟ بمعنى، هل يستطيع كل سياسي في الِائْتِلَاْفِ مثلاً أن يؤثّر في المحتوى التفاوضي؟ ومن أي أرضية يستمد شرعيته لفعل ذلك؟ وهل سيجد أولئك السياسيون أنفسهم منخرطين في المفاوضات؟
لا نعتقد أنه يمكن لكل سياسي في المعارضة أو الِائْتِلَاْفِ أن يؤثر في المحتوى التفاوضي، إذ إن إطار عمل وتمثيل بعض هؤلاء الساسة، في ظل الوضع القائم، هو إطار هيكلية ما زالت في طور تشكيل مرجعيات وطنية حقيقية، غير الرأي العام وموقفه من جِنِيْفْ٢، وولاء بعض هؤلاء السياسيين هو للمكونات التي أوصلت بهم إلى مواقعهم، وللأسف لبقائهم السياسي. فلا يمكن لنظام تمثيل أن يكون نظاماً حقيقياً في هيكلية تتكون من مستويات متعددة من الهوية، هيكلية لا تَصنع السياسة الخارجية فيها أجهزة مختصة ولا جسم منتخب يُقرّها ولا جسم دبلوماسي سُمح له أن يمتلك من الاحتراف ما يمكنّه من تنفيذ تلك السياسة، أي التفاوض. لكن من الخطر أن يؤثر أولئك الشعبويون وغير البراغماتيين في المحتوى التفاوضي.
تدافع الأحداث باتجاه جِنِيْفْ أتاح للائتلاف أن يحدد عقيدة دبلوماسية، لأول مرة غير مبادئه العامة تجاه الخارج وموقفه من النظام، بعد أن كان الرأي العام السوري غير مطّلع على محتوى السياسة الخارجية للائتلاف وأهدافها وغير مهتم بمن يقوم بتنفيذها. وهذه إحدى فوائد جِنِيْفْ التي تحصّلت قبل المؤتمر أساساً.
من المقلق أن تقود سياسة الِائْتِلَاْفِ في التعاطي مع الداخل السوري إلى عكس الاتجاه المرغوب فيه لسياسة خارجية فعالة. إن مسايرة الِائْتِلَاْفِ للأفكار والمنكّهات الراديكالية، التي يضفيها البعض من الجناح المتطرف من الثورة على مكوناته الداخلية، تتيح حكماً لهذه العناصر إعادة إنتاج نفسها كمواقف متحجرة في السياسة الخارجية، وبخاصة تجاه جِنِيْفْ2، والمصطلح المعبّر عن ذلك هو «مزج السياسة الداخلية بالسياسة الخارجية»، أو، بمفهوم تلك العناصر الراديكالية والقائمة على الأيديولوجيا، تسمى العملية «مزج الدين بالدبلوماسية»، وهي مسألة قديمة من كلاسيكيات الأدب الدبلوماسي وليست أمراً تختص به الأزمة السورية فقط. إن الشروط الذاتية والموضوعية التي يضعها طرفا جِنِيْفْ هي شروط تطالب بكل شي أو لاشي، وفي هذه الحالة النصر التام في صراع لا يمكن حسمه عسكرياً، وسيأتي على كل ما تبقى من جذور للحراك السوري الذي قضمت العسكرة وجوده.
كيف يمكن للائتلاف والمعارضة تجاوز هذا المطبّ؟
من الأفضل لهما كسب المصداقية عبر تحقيق نتائج مميزة من خلال مسيرة جِنِيْفْ، واستخدامها رافعة لتحسين الوضع الإنساني على الأرض كهدف أوّلي تتلوه بقية الأهداف، وعلى رأسها إسقاط نظام الأسد. هذا سيعطيها الشرعية، فتحقيق نتائج ملموسة في المسارات التي تؤثر على الوضع الإنساني (والتي تضمنتها وثيقة جِنِيْفْ الأولى) كمسألة المعتقلين السياسيين وإيصال المساعدات عبر فتح المعابر والممرّات الإنسانية، وإعادة الإعمار لاحقاً، كل ذلك سيعوّض عن الخسارة في القاعد الشعبية التي نجمت عن قرار الذهاب إلى جِنِيْفْ٢ في بادئ الأمر. وهذه التفاصيل لا بد من أن تلزم الأطراف الدولية على التقارب لإيجاد حلول تقنية لهذه المسائل، تحسّن الأجواء وتزيد من انخراط الأطراف بإيجاد حل للمسألة السورية، على أمل أن تحسم القوى الكبرى أمرها نهائياً باتجاه هدف مشترك ينهي المأساة السورية التي أصبحت تهدّد علاقاتها ذاتها.
وعلى ذكر القوى الدولية، وفيما يخص دبلوماسية المعارضة تجاهها، لا يبدو أن تلك القوى كانت تمتلك رؤية استراتيجية واعية لمفهوم مهم في الدبلوماسية، «الترابط» (Linkage)، وصلته بالاستراتيجية الكلية للقوى الدولية بمواجهة إيران في المنطقة. الولايات المتحدة لن تسلّم لإيران بالورقة السورية كاملة، وحدوث تقدم على صعيد المفاوضات مع النظام من شأنه أيضاً أن يسرّع المفاوضات بالنسبة للجانب الإيراني، المستعد لبحث مصير النظام كإحدى أوراق التفاوض مع الغرب. إن من شأن فكّ ارتباط جِنِيْفْ عن خلفية المجابهة مع إيران أن يحرم المعارضة من رافعة مهمة تجاه النظام السوري، الذي يرتبط وجوده كذلك بتبعات العلاقة بين الغرب وإيران. والعكس صحيح. أيّ سوء فهم لتلك المجابهة سيحرم الِائْتِلَاْفَ في المستقبل من دوره السياسي برمّته، ومن أن يستشار في مآلات الحالة السورية بعد أن تقرر القوى الكبرى مصير الأزمة في سورية، خصوصاً والمعارضة المعتدلة هي الجانب الأضعف في المعادلة مع صعود القوى الإسلامية. لذلك، إذا أرادت المعارضة المعتدلة أن تتجنب مصيراً محتوماً بالتفكك، لا بدّ لها من المخيّلة الخصبة والمرونة الهائلة، المرونة التي تسمح لحلفائها بأن يتمتعوا بهامش مناورة إزاء داعمي النظام، ولم يتبق للمعارضة في حقيقة الأمر في هذه المرحلة سوى الدبلوماسية عبر مسيرة جِنِيْفْ، للدفع باتجاه اتفاق القوى الفاعلة على فرض حلول للأزمة السورية نابعة من توافقاتها في وثيقة جِنِيْفْ١ وإسقاط الشروط المسبقة. وهي حلول قائمة على أساس إنهاء القتل ومجابهة قوى الجهاد العالمي، التي لا تقل خطورة عن النظام، وإيقاف تمددها قبل فوات الأوان. التعاون الأمريكي-الروسي في شأن نزع سلاح النظام الكيماوي، وكذلك إطلاق المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، قد يقود لتحسين العلاقات الروسية-الأميركية، بما ينعكس على مسار الأزمة السورية. إن قدرة الولايات المتحدة على التصدي بثبات للسياسة الروسية، التي تحاول إبقاءها إزاء روسيا وإيران، تفيد بأن التنازلات ممكنة تحت الضغط، في ما يتعلق بالشروط الخاصة بالنظام وبما لا يدع مجالاً للقلق لدى المعارضة.
*دبلوماسي سوري سابق