بعد الثورة السورية فقط، وبتردّد، أخذ مدرك الجمهورية يدخل التفكير العام. وعلى مشارف ثلاث سنوات من الثورة، نجد أكثر من مبادرة ونشاط عام تحمل اسم الجمهورية، يبدو أن منها مشروعاً لتأسيس حزب سياسي. مع ذلك، ليس هناك سجلّ حقيقي بعد للتفكير في المفهوم وخلفياته الفكرية والتاريخية، وتناقضاته، ووظائفه السياسية المحتملة.
كان كاتب هذه السطور قد أسهم في إطلاق النقاش حول المفهوم، وذلك في سياق نقدي واعتراضي على تحولين نكوصيين كبيرين، سياسي وفكري، أصابا الحياة العامّة في سورية في بضع العقود الأخيرة: أولهما نظام السلالة الأسدية الوراثي، الذي استولى على الدولة العامّة وفرض حكم طغيان دموي، وردّ السوريين من شعب يتشكّل إلى رعايا تابعين؛ ثم العقيدة النخبوية المعادية للعامّة باسم «الحداثة» أو «العلمانية» أو «التنوير»، والتي تدعو إلى تقييدهم والتشدد في معاملتهم. وبين المملكة الأسدية وهؤلاء الدعاة من الروابط المباشرة وغير المباشرة ما يجعلهم المثقفين العضويين لـ«العالم الأول الداخلي» الذي تشكل الطغمة الأسدية طليعته الفاشية.
على أن هذه المقالة ستحاول أن نظهر أن المبدأ الجمهوري فعال أيضاً في نقد ومقاومة «الإسلام السياسي» عموماً، والتشكيلات الإسلامية الفاشية بخاصة، التي أخذت بالظهور بعد تفجر الثورة، وطغت في عام 2013 المنقضي، مقدمةً للنظام الأسدي خدمة العمر، ومُدخلةً البهجة على قلب مثقفي «المملكة» العضويين.
الجمهورية وامتلاك السياسة
لأغراض هذه المقالة ودونما انفصال عن مقاصده الأصلية، نعرّف المبدأ الجمهوري هنا بـ: امتلاك جمهور السكان للسياسة.
فضيلة الجمهورية، إن تكلمنا بلغة قديمة، هي النشاط السياسي لعموم الناس وعامّتهم. ويمكن تصوّر الجمهورية هيئة اجتماعية يتملّك الناس فيها عمليات تدبير أمورهم وتسييرها، ويتساوَون سياسياً عبر هذا التملّك، فيصنعون شرائعهم ويتحكمون بعمليات التشريع، وتالياً بتنظيم واتجاهات تطوّر الحياة المشتركة.
يعني امتلاك السياسة امتلاك التغيّر الاجتماعي أيضاً، أو تحكم المجتمع بمحرِّكات وعمليّات وآليّات تغيّره، وذلك مقابل «تغيير المُلكيّة» الشيوعي التقليدي، الذي آل في كل مثال معروف إلى تحكم نخبة ضيقة بالسكان وحكمهم بآليات فاشية، وإنتاج أشكال من اغتراب الأفراد والجماعات تفوق ما ينتج في ظل الرأسمالية. على أنه يرجح للتملّك الاجتماعي للتغيير أن يبقى أسير حدود ضيقة دون تغيير الملكية في اتجاهات تضع المنتجين في أوضاع أكثر تحكّماً بعمليات الإنتاج، إنتاج شروط حياتهم وحياة المجتمع ككلّ. تملّك الجمهور للسياسة والتغيير بهذا المعنى يستوعب المبدأ الاشتراكي الذي تشكل في القرن التاسع عشر، وكان في صيغته الماركسية يرى أن الاقتصاد أساس أو بنية تحتية (تكوينياً وتفسيرياً)، فيما السياسة بناء فوقي. نميل اليوم إلى فهم السياسة والاقتصاد بصورة تجعل من السياسة أساساً أو «بنية تحتية»، وإن بعد تحويل مفهومها لتشمل كل أوجه تشكيل وتنظيم وإنتاج الحياة الاجتماعية، أي لا تقتصر على الدولة والمنظمات السياسية، فيما يكون الاقتصاد بوصفه إنتاجا للحياة المادية تابعاً للسياسة بهذا المعنى، أو جانباً من جوانبها المهمة. هذا على كل حال هو الفهم الذي نصدر عنه هنا. وعلى أساسه، فإن الامتلاك الاجتماعي للسياسة مقدّم على «تأميم قوى الإنتاج»، وهو شرط للتحكم الاجتماعي بالموارد العامّة وشروط الحياة.
الجمهورية بهذا المعنى «اشتراكية سياسية»، يتشاطر الجمهور فيها في امتلاك السياسة والدولة.
المساواة السياسية بمعنى تملّك الجمهور للسياسة والتغيير تتقابل أيضاً مع «المساواة الحقوقية» التي تكاد تشكل سقف التفكير السياسي الليبرالي. المطلوب ليس المساواة أمام القانون، بل المساواة خلف القانون إن جاز التعبير، أي في صنع القوانين (حسب صيغة لميشيل فوكو). بل إن رهان الجمهورية هو المساواة خلف السياسة ذاتها، أي في صنع السياسات، وليس المساواة أمام السياسة والمشاركة في صنع القوانين. نسمي المساواة في صنع السياسة «المساواة السيادية»، أي كون الناس جميعاً سادةً متساوين من حيث هم صانعون للمصير العام وللهوية المشتركة (الهوية هنا مشروع مفتوح، وليست تراثاً أو ميراثاً). فكرة الجمهورية مبنيّة على سيادة كل فرد وكل الناس، على المساواة السيادية.
وبهذه الصفة، يتيح تملّك السياسة والتغيير الجمهوري تجاوز التقابل بين ليبرالية غير حسّاسة اجتماعياً، وبين نزعة اجتماعية تسلّطية أو فاشية، وينفتح على مشاعية السياسة، إن جاز التعبير، أي المساواة السيادية.
لا شيء يحتّم أن تكون الجمهورية دولة مركزية تقوم على المجانسة، كالجمهورية الأتاتوركية في تركيا، والتي تعني بالضرورة سيطرة نخب «قومية» تجعل من صورة المجتمع المتجانس مثالاً عامّاً مفروضاً، وتُقصي من لا يتوافق معه إلى هوامش الدولة والمجتمع. برنامج التجانس ليس برنامجاً بلا «جنس»، إنه برنامج هيمنة نخب محدّدة الأصل والتوجه على الجمهور المتنوع، لتصنع منه «جنساً» واحداً، مجرّداً من الاختلاف والتنازع والسياسة.
لا تُحيل الجمهورية إلى جمهور واحد متماثل، بل إلى جمهرات نشطة سياسياً، لكن منغرسة في بيئاتها وأوضاعها الخاصة، وتحفّزها تطلّعات مختلفة. الجمهورية ليست مبدأ لقمع هذه التطلّعات أو منح الأولوية لبعضها على بعض، بل هي إطار لتفتّحها معاً، بحيث يكون تفتّح كل منها شرطاً لتفتّح جميعها (إن حاكينا صيغة لماركس).
ضد المملكة الأسدية
على هذه الأرضية يمكن لمفهوم الجمهورية أن يكون حجر الأساس في نقد ومقاومة النكوص السلطاني المحدث للدولة السورية، أو انقلاب البلد إلى مملكة أسدية وراثية تقوم على الاستبداد بالسكان والاستئثار بالمواد العامة، وعلى التنظيم الطائفي للمجتمع، وعلى «الفتنة» كشكل مرجّح للصراعات الاجتماعية.
لا توريث في الجمهورية، والسيادة فيها للجمهور النثري المتنوع الذي لا يختزل في هوية أياً تكن، وليس لسلطان أو سلالة أو حزب. وليس لبشار الأسد أو سلالته أية شرعية في الحكم، وهذا استناداً إلى تصوّر الجمهورية العامّ، وقبل أي كلام على جرائم السلالة وجرائرها على سورية، مجتمعاً ودولةً وكياناً. وما كان للسلالة الأسدية أن تتوارث حكم سورية لولا ما لحق بالسوريين جميعاً من إفقار سياسي مفرط، وصولاً إلى تحريم النقاش السياسي ذاته. من شأن تحرير النقاش، تالياً، وفي قضايا السياسة والسلطة، وفي الجمهور وتكوينه الكثروي المركّب من جمهرات مختلفة، أن يكون انتهاكاً واجباً لدستور المملكة (القائمة جوهرياً على انتهاك السوريين) وإعادةَ وضع للسياسة والنقاش بين أيدي الكثرة.
قامت المملكلة الأسدية أساساً على الفصل بين الجمهور الكثير والسياسة القليلة، وعلى احتكار السياسة النادرة من قبل نخبة الحكم. وبقدر ما صارت السياسة علماً خاصاً و«شريفاً»، لصيقاً بحزب خاصّ أو عقيدة خاصة، أو بأشخاص ممتازين، أو بفرد عبقري، صارت أيضاً جوهراً قابلا للتملّك الخاصّ والتوريث. هذا التصوّر للسياسة مناسب للحَجْر على العامة، وقد تكفّلت أجهزة الحكم الأسدية، المخابرات والتشكيلات العسكرية المولجة بحماية النظام، الجيش كله عملياً، بفرض حَجْر سياسي فعّال لأكثر من 40 عاماً، حَجْر محروس بالحرب واحتكار وسائل الحرب وقرارها.
من هذا الباب مثّلت الثورة السورية انتهاكاً كبيراً لدستور المملكة حين وضعت السياسة، والحرب، بمتناول العامّة، كثير منهم. الجمهورية هي «الوعي الذاتي» بعمليات كسر نظام الحجْر السياسي وامتلاك الجمهور للسياسة، وللحرب حين يكون امتلاك الحرب شرطاً لامتلاك السياسة. ليس هناك أيّ وجه عادل أو تحرّري للاعتراض على تملّك الجمهور للسياسة عبر الحرب حين يكون احتكار السياسة محمياً بالحرب. وأيّ احتكار للسياسة والحرب مسوِّغ كافٍ لكسر الاحتكار بالحرب حين لا تجدي السياسة. هذا في وجه المحتكرين المحتملين الجدد، كما في وجه المحتكرين الأسديين.
مفهوم الجمهورية لا يوفّر أساساً نقدياً وتحرّرياً لمقاومة النظام الأسدي الوراثي فقط، بل كذلك لتعبئة الاحتجاج على الامتلاك الخاصّ للسياسة من قبل نخب سياسية أو دينية، تسترجع السيرة الأسدية على أسس عقدية وتنظيمية مغايرة. مقاومة الانحطاط الأسدي لسورية تحوز مضموناً تحرّرياً بقدر ما هي تنفتح على مقاومة مشاريع الطغيان الجديدة. ويمكن للديمقراطية ذاتها أن ترتدّ إلى جملة إجراءات لا روح تحرّرية فيها دون نزعة جمهورية تكافح من أجل تملّك الجمهور للسياسة والسلطة.
وبقدر ما أبعدت المملكة الأسدية الجمهرات السورية الكثيرة والمتنوعة من مجال تدبير الشأن المشترك، وجعلتها غير مرئية وغير مسموعة، ومنسيّة، فإن الجمهورية الجديدة مشروع تغييري يتطلع إلى نزع ملكية السياسة من نازعي ملكيتها (إن حاكينا مرة أخرى صيغة لماركس)، وإعادتها إلى «البروليتارية السياسية»، عموم السوريين، ولجعل السوريين، هذه البروليتاريا السياسية، مرئيّين ومسموعين ومذكورين. وقبل ذلك أيضاً لمحو الفرق بين من يَرون أو يَسمعون أو يَذكرون، وبين من يُرون أو يُسمعون أو يُذكرون.
هناك مرتبة سيادية واحدة في الجمهورية، يشغلها عموم السكان، وليس أمثال بشار الأسد وفريق محتكري الرؤية والذكر، والسياسة والحياة، ذاك المكوّن لنظامه.
من جانب آخر، ليست الجمهورية السورية كياناً يفرض هوية سورية مجردة على جمهرات محلية وإثنية ودينية ومذهبية، بل هي إطار المساواة السيادية والسياسية بين تلك الجمهرات الكثيرة، بوصفها مكوّنات مؤسّسة وأساسية للجمهورية.
يتوافق مبدأ امتلاك السياسة الجمهوري أيضاً مع لامركزية واسعة، تتيح للبيئات المحلية تصريف شؤونها والتحكم بمواردها، وتوفر للجمهرات الجهوية والثقافية المختلفة نفاذاً إلى السياسة والتشريع والسلطة العامة، بوصفها المورد العامّ الأهم. تحكّم الناس بشؤونهم المشتركة يتعارض مع النموذج المركزي للدولة.
ضد النخبوية الحداثية…
لمفهوم الجمورية مضمون نقدي وتحرّري من منظور ثانٍ: نقد النخبوية الداعية للتنوير أو العلمانية أو الحداثة بوصفها استراتيجية للتحكّم بالجمهور، ولفصله عن السياسة، باسم واجبات منحولة، تحيل إلى تجريدات مثل «التاريخ» أو «العقل».
يعرض التنويريون ولاء غير منقوص للمنطق اللينيني الخاص بنقل الوعي الثوري الجاهز إلى جمهور غافل، أو إلى طبقة غارقة في العفوية والمطلبية. بعد التثوير الفوقي جاء التنوير الفوقي بدوره دون أدنى تغيير في البنية. ويفترض بدعوى التنوير أنها تحمل معها المعرفة والعقل الصحيح إلى الجمهرات الغافلة التي لا تستطيع وعي نفسها وتحرير نفسها وتمثيل نفسها. وهي لن تتقدم في معارج التحرّر دون أن تسلم قيادها لمتنوّرين يملكون العقل، بشهادة أنفسهم.
وتعرض الحداثية أو التنويرية نفسها كدعوى فكرية مجرّدة، متعالية على السياسة والصراعات السياسية المباشرة، ومنشغلة بقضايا الفكر وحدها. لكننا في الواقع حيال مناضلين سياسيين يتكتّمون على الصفة السياسية لعملهم، ويفضلون الكلام على الفكر والمعرفة والعقل. إنكار الصفة السياسية لعمل هؤلاء الدعاة لا يلغيها، بل هو مؤشر على إرادة حيازة موقع مرجعية عليا للسياسة، لا تنازَع ولا تكون موضع تفاهم سياسي، على نحو لا يغاير ما يتطلع إليه بعض الإسلاميين. لكن بينما يتطلع الأخيرون إلى حكم المستبد العادل، وإن تقبلوا ضرباً إجرائياً ومعدوم الشخصية من الديمقراطية، تتطلع نخبة العقل إلى «الاستبداد المستنير» نموذجا للحكم، يراعي الخاصّة ويقرّبهم ويعامل العامّة بحزم.
على أن أهم ما يميز النخبوية الحداثية والتنويرية هو شراكتها للمملكة الأسدية في تكوينها الامتيازي النخبوي المعادي للعامّة. الأولى بينهما ضد «الشعبوية» دون أدنى تساؤل عن وضع «الشعب»، جمهرات السكان في واقعها العياني، ودون أي جهد للإحاطة بالواقع السياسي؛ والأخرى تقيّد الجمهرات فعلياً بألف قيد، ولا يبدو أنه ضايقها يوماً دعاة الحداثية والتنوير.
ولا ينفتح نقد الشعبوية، عند هذا التيار المتنوّر في عين ذاته، على معرفة أكثر تعقيداً بواقع مجتمعاتنا وكثرة جمهراتها وتنوع تطلعاتها، بل على اقتراحات فاشية من نوع منع الأميين من التصويت في انتخابات حرّة، انتخابات لم تحدث وقت كتب «مفكر» سوري مثل هذه الكلام الهاذي، ولا كان أي بلد عربي «مهدّداً» بحدوثها آنذاك. وظاهر من هذا المثال أن أقوى احتياطات العقيدة النخبوية يتوجّه نحو ضبط الأضعف بين الجمهرات، الأميّين والمحرومين، وليس الأقوى من أهل السلطة والثروة. ومن غير المتوقع أن نجد عند هؤلاء «المفكرين» تحليلاً يعرض العلاقة بين حالة الأمية والحرمان، وبين نمط ممارسة السلطة وتكوين نخبة الحكم.
ويجمع بين المملكة و«العلمانيين» هاجس «الأصولية» أيضاً. لكن ما لا تراه نخبة العلمانية التسلطية هذه أن «الأصولية» ونظام الامتياز السياسي وثيقا الارتباط فيما بينهما، كمنشأ تاريخي وكبنية اجتماعية. بما هي زجّ للدين في الميدان السياسي ومحاولة لامتلاك السياسة عبر الدين، الأصولية وليدة مصادرة هذا الميدان من قبل نخب حكم ضيقة. فإن كان من فرصة لسورية لتجنب التهديد الأصولي، فهي فرصة معدومة في غير سياق يجرف النظام السياسي والاجتماعي القائم على احتكار السياسة وعلى الامتياز المادي والرمزي (المكانة و«الشرف» والاعتبار).
ولا تختلف العقيدة الحداثية عن المذهب الاجتماعي الذي يتبناه ضبّاط مخابرات النظام الأسدي عن عامّة السوريين، إن من حيث التشخيص كمتعصّبين ومتخلفين وحثالات و«عراعير»، أو من حيث المعالجة التي توجب الحجْر السياسي عليهم، كما سبق القول. والمسافة ضيّقة بين الحجْر السياسي وبين إبادة هؤلاء الحثالات بالبراميل المتفجرة وصواريخ سكود والسلاح الكيماوي حين يتمرّدون. هذه الوقائع التي لا جدال فيها، بالمناسبة، لم تحفز «المتنورين» لرفع الصوت احتجاجاً.
خلافا لذلك، الجمهورية تُعرِّف الموقع الفكري والسياسي الذي يمكّننا من كشف الأصول الفكرية للإبادة، وفي مقاومة فكر الإبادة.
ككفاح من أجل امتلاك الجمهور للسياسة، الجمهورية هي النقيض الجذري للضرب الحداثي من النخبوية. الفصل بين الجمهور والثقافة («العقل»، «المعرفة»، «الفكر»…) هو السمة النوعية للتيار النخبوي الحداثوي، على نحو يكمل فصل الجمهور عن السياسة على يد الطغيان. الجمهورية برنامج يتطلع إلى امتلاك الجمهرات للثقافة وإنتاج المعاني والقيم والعقائد، بقدر ما هي كفاح من أجل امتلاك السياسة (الكلام، التنظيم، الاحتجاج، المبادرات العامة…)، والتحكم بالحياة الاقتصادية (إنتاج وتوزيع الثروة والموارد العامة).
ضد النخبوية الإسلامية
تؤسس الجمهورية، ثالثا، لنقد التيارات الإسلامية الفاشية، ونظرية الإسلام السياسي ككل. المبدأ الجمهوري يضع السياسة والسيادة، والسلطة والتشريع بين يدي «أكثر الناس» الذين «لا يعلمون»، لا بين يدي سلطان سلالي، أو أصحاب العلم الصحيح، أو بين يدي كائن متعالٍ ووكلائه الأرضيين. الذين «لا يعلمون» يمكن أن يتعلموا، هذا غير أنهم أعلم بما هو خير لهم في كل حال، أما الذين «يعلمون» فيعلمون علماً مستقراً لا تغيّر فيه. و«العلم المستقر جهل مستقر»، على ما يقول النفري.
وبهذا المعنى، الفكر الجمهوري فكر دنيوي وعلماني جذري، وإن وضعته انحيازاته الاجتماعية في موقع القطيعة مع العلمانية التسلطية.
من الوجهة الاجتماعية، الفكر السياسي الإسلامي نخبوي عموماً، يمنح القول الفصل في شؤون السياسة والمعرفة والتشريع والأخلاق لأفراد أو جماعات مالكة للعلم الصحيح، الديني. هذه النخبوية تصبح مضاعفة عند التيارات الإسلامية العنفية التي تتوسل العنف أداة عادية في الصراع السياسي وتطرد أكثرية الجمهور، بما في ذلك عموم المؤمنين، من ميدان السياسة، وتستصلح التكفير أساساً فكرياً لإبادة المخالفين.
يحيل الفكر الجمهوري إلى الوجود العياني والنثري للناس في أوساطهم الاجتماعية وبيئاتهم الحياتية وجمهراتهم المتغايرة الأصول والمشارب، وليس إليهم بوصفهم «عباد الله» أو حملة الهوية الإسلامية. هؤلاء الناس النثريون هم ملّاك السياسة الشرعيون والمخوّلون بصنع مصيرهم والتحكم بشروط حياتهم، دون مقتضيات عقدية أو اشتراطات دستورية أو فوق دستورية سابقة متعالية عليهم.
وبوصفهم ملّاك السياسة الشرعيين، الناس متساوون في الجمهورية، لا يمسّ بمساواتهم في صنع السياسة والقوانين والمؤسسات تفاوت في العدد، أو اختلاف في الأصول، أو تمايز في الجنس. كل الجمهرات والجماعات متساوية تأسيسياً وسيادياً، ومالكة شرعية للسياسة. وأجساد النساء، مثل أجساد الرجال، ملك حصري لهنّ، ليس للأمة أو للدولة أو للدين.
في سياق الثورة السورية ساعد التدين الإسلامي جمهوراً واسعاً على امتلاك السياسة، أي على الاحتجاج والكلام والتنظيم، وحاز بذلك مفعولاً جمهورياً واجهته بأشدّ عدائها وعنفها نخبة الحكم المتسلطة، ونخبة العقل المزعومة. لكن الأثر الجمهوري للإسلامية يختنق في كل لحظة بفعل نخبوية الفكر السياسي الإسلامي ونزوعه الاستبدادي. لذلك يتلاشى هذا الأثر عند التيارات الإسلامية الأكثر تبلوراً، التيارات التي تسخّر الطاقة الاحتجاجية للتدين الإسلامي لصالح مشروعها النخبوي الخاص، لكنها لا تتساهل مع هذه الطاقة إن لم تتمكن من السيطرة عليها. الحكم الذي يتطلع إليه الإسلاميون ليس «جمهورية المسلمين» أو المسلمين المتدينين، بل هو حكم استبدادي نخبوي في أحسن الأحوال، فاشي من نموذج «داعش» في الحالات الأسوأ.
ولا يزال التفكير الإسلامي عموماً عاجزاً عن تطوير مفاهيم وتجارب دينية تحرّرية، لا يتآكل امتلاك السياسة فيها في مشاريع طائفية أو حزبوية ضيقة. هذا تحدٍّ كبير، والاستجابة له يمكن أن تنتج ما يعادل لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية.
الفكرة الجمهورية مؤهلة أيضاً لاختراق التصور الإجرائي للديمقراطية الذي يتقبله الإسلاميون المعتدلون، التصور الذي يفصل السيادة عن السياسة، ويقبل أن تكون السياسة بمتناول الجمهور العام، لكن ليس السيادة، سيادة الأفراد والجماعات على مصيرهم وتحكمهم بشروط حياتهم. هذا تصور ضعيف الشخصية للديمقراطية، يفتح الباب باستمرار لاختراقات كبيرة من طرف دعاة السيادة الإلهية المتطرفين، أعني جماعة «الحاكمية الإلهية». «إن الحكم إلا لله» تعني عند هؤلاء أن الحكم والسلطة، والسيادة والتشريع، والشرعية، بيد من يحكمون باسم الله، بيد أشخاص مثلنا يحوزون مبدأ مطلقا للحكم، يعلو الحياة البشرية ويسوّغ خفض قيمتها، وقتل المخالفين بضمير مرتاح، بل كواجب أسمى. فإذا كان النظر إلى السكان العينيين كحثالات وظلاميين وأصولين يؤسّس لإبادتهم بالبراميل المتفجرة وصورايخ سكود والسلاح الكيماوي، فإن النظر إليهم ككفرة وعملاء للغرب وعلمانيين معادين يؤسّس للإبادة أيضاً، وإن اختلفت تكنولوجيا القتل (سلاح النظام أشد فتكاً، وأكثر تجريداً في القتل؛ فيما القتل عند الجهاديين أقل تجريداً وأكثر مشهديةً، وإن يكن سلاحهم أقل فتكاً).
في حالة الإسلاميين، يؤسّس منطق التكفير لسلطة فاشية تمزج بين الحكم المطلق التقليدي وبين تقنيات الحكم العصرية، مما يوجب منذ الآن العمل على إقامة جبهة عريضة في وجه الفاشيين الجدد. ولا ريب أن هناك شركاء مسلمين متدينين، بل وإسلاميين، في الكفاح ضد التشكيلات الفاشية مثل «داعش».
يلزم القول في الوقت نفسه أنه ليس في فكرة الجمهورية ما يسفّه إيمان المسلمين وتدينهم، أو ما يقتضي فصلهم عن دينهم، أو ما يفردهم عن غيرهم بمكانة أدنى، وإن كان مرفوضاً بالمثل تخصيصهم بمكانة أرفع. جمهرة المسلمين المتدينين ليست أخفض قيمةً أو اعتباراً أو مكانةً من جمهرة غير المتدينين أو غير المؤمنين، وعقيدتهم ليست أدنى شرعيةً من أية عقيدة أخرى.
إن الأفكار التي خفضت من قيمة المسلمين المتدينين طوال عقود، وسهّلت فاشية النظام وتواطأت معها، شريكة في الجريمة من جهة، وليست مؤهلة فكرياً وأخلاقياً للاعتراض على فاشية المجموعات الجهادية الإسلامية من جهة أخرى.
وخلافاً لما يظن نخبويو الإسلامية ونخبويو الحداثية معاً، فإن الكثير مما نسميه الطائفية متصل بعمق بالتمييز الاجتماعي والامتيازات الفئوية، وليس بالتمايزات الاجتماعية الثقافية الموروثة. الطائفية اليوم مسألة طبقة أكثر مما هي مسألة هوية، أداة سلطة وسيطرة قائمة اليوم، وليست بقايا اجتماعية قديمة. ولذلك لا سبيل ممكن للتحرّر من الطائفية فيما نرى إلا في سياق مضادّ للامتيازات من جهة، ومنفتح على امتلاك الجمهرات المتنوعة للسياسة، والمساوة السيادية من جهة ثانية.
* * * * *
قد نضيف أيضاً أن المبدأ الجمهوري يؤسّس لنقد نزعة ليبرالية اقتصادية، نجدها مسموعة الصوت اليوم في أوساط منحازة للثورة السورية، وقد عبّرت عن نفسها في «خطة التحول الديمقراطي في سورية» التي نشرت صيف 2013. باستهتار وخفة تتكلم الخطة على «الحرية الاقتصادية» و«الانتقال إلى السوق الحر»، وعملياً تضع الموارد الوطنية بتصرف أصحاب الأموال وشركائهم الإقليميين والدوليين، ولا تكاد حاجات المجتمع السوري بعد عامين ونصف من الحرب الفاشية عليه تحضر إلا كاحتياجات إنسانية، وليس كتطلع إلى امتلاك الموارد العامة، وتوجيهها نحو حاجات السكان، الشرائح الأكثر حرماناً بخاصة. تبدو الوثيقة منشغلة البال بتحديد هوية النظام الاقتصادي واللاعبين الاقتصايين الأساسيين (الشركات وأصحاب المال)، وليس بحاجات عموم الناس وتطلعاتهم.
هذا البرنامج الاقتصادي يعزل الجمهور عن الموراد العامّة والسيطرة على عمليات الإنتاج المادي، بقدر ما تعزله المملكة الأسدية عن الدولة والسياسة، وبقدر ما تعزله النخبوية الحداثية عن الثقافة والمعرفة، وبقدر ما تعزله النخبوية الإسلامية عن الله والصلاح. لقد خرج الناس ثائرين ضد الامتيازات والتمييز الاجتماعي ومن أجل العدالة والتحكم بمصيرهم، وليس من أجل «اقتصاد السوق» (ولا من أجل «الإسلام»).
تصور جديد للسياسة
والخلاصة أن الفكرة الجمهورية، بما هي مبدأ امتلاك السياسة والتغير السياسي من قبل الجمهور العامّ، تتيح مقاومة ثلاثة أشكال للنزعة النخبوية الفاشية: تلك التي تمنح سلالة محددة أفضلية في الحكم؛ وتلك التي تؤسس الأفضلية على «العقل» أو مطابقة معيار عالمي مفترض؛ وتلك التي تقيم الأفضلية على «الإسلام». والجمهورية بهذه الصفة تشكل أساساً صالحاً لاستعادة زمام المبادرة الفكرية والسياسية للمجموعات والقوى التحرّرية المشتّتة اليوم في سورية. وإذا يتحكم بمصير البلد اليوم نظام فاشي، ومجموعات إسلامية تنهج نهجه السياسي، ويتوزّع معارضون تقليديون على واحد من تيارين أبويين، «ممانع» أو «ليبرالي»، فإن في مبدأ الجمهورية طاقة تحرّرية ومساواتية هي الأقرب إلى المحرّكات الأولى والمؤسّسة للثورة السورية، وهي ما يمكن أن تسهم في تشكل روح ثورية جديدة، على مستوى التفكير والثقافة، وعلى مستوى التنظيم والعمل السياسي كذلك.
نحتاج إلى مفهوم جديد للسياسة بعد تجاربنا خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، ونرى أن مبدأ الجمهورية يمكن أن يكون أساساً لهذا المفهوم الجديد، يخرجها من الطريق المسدود الذي أوصلتها إليها فاشية النظام، ونظراؤه الإسلاميين، والتشكيلات الركيكة للمعارضة التقليدية.