ما سوف يدرسه هذه البحث هو إمكانية تحول بنية الفعل السياسي السوري، المستقبلي، وطريقة وأدوار الجماعات الأهلية في الشأن السياسي، إلى نموذج وشكل شبيه بنظيره اللبناني. في سبيل ذلك، سيسعى البحث أولاً إلى تحديد الملامح الراهنة لكل من النظامين السياسيين، اللبناني والسوري، وسيحدّد الطريقة التي يمكن أن يتحول بها النموذج السوري نحو نظيره اللبناني، حيث الحالة السورية تشهد ديناميكية متحولة منذ قرابة ثلاثة أعوام. أي إن البحث سيحدّد النموذج اللبناني كجملة مقارنة، وسيحاول دوماً التساؤل عن إمكانية تحول النموذج السوري ليصبح مماثلاً أو متمايزاً عن نظيره اللبناني.
يتصور البحث وجود ثلاث ديناميكيات حديثة تدفع بالنموذج السوري للتحول والتشابه مع نظيره اللبناني، لكن بالمقابل، ثمة ثلاث ركائز بنيوية في جوهر النظام السياسي السوري، تمنعه بقوة من الانزلاق والتطابق مع الصيغة اللبنانية. سيقوم البحث توضيح هذه الديناميكيات الثلاث الدافعة راهناً، ومن ثم سيفكك العوائق الثلاثة المانعة، والتي هي:
– تاريخية العلاقة بين الطوائف والجماعات الأهلية، وذاكرتها السياسية في كل من البلدين؛
– خصائص التوزع النسبي والمناطقي بين الجماعات الأهلية في البلدين؛
– طبيعة الرعاية الإقليمية والدولية لكلا النموذجين.
يعتمد البحث على رؤية في علم الاجتماع السياسي ترى أن تشابه البنى المجتمعية ثقافياً في الدول المتجاورة، وتداخل الظروف السياسية لهذه الدول، قد يدفع نحو تشكّل بنى سياسية متطابقة. حيث ثمة شبه تطابق بين الأنظمة السياسية في عدد من الأقاليم السياسية، كدول أميركا الجنوبية أو دول القارّة الأوربية أو الأنظمة العربية… الخ؛ وأن التحول السياسي الذي يحدث بأحدها ينعكس تماماً على باقي الدول، كما جرى بعد سقوط جدار برلين في دول شرق أوربا، أو عقب مشاريع إعادة الهيكلة في دول أميركا الجنوبية، أو تأثر الدول العربية ببعضها في فترة الربيع العربي. وطبعاً هذه القاعدة عمومية، فثمة دائماً استثناءات. وما سيسعى البحث من التحقق منه هو مدى تطابق المجتمعين السياسيين السوري واللبناني، ومدى اختلافهما، ومدى تأثير الحالة السياسية الراهنة، وتداخل عوالم السياسة بين سوريا ولبنان، على إمكانية تحول بنية الفعل السياسي السوري ليشابه نظيره اللبناني مستقبلاً.
مقارنة وثلاث ملاحظات
من حيث المبدأ، نلاحظ أن ثمة اختلافاً جوهرياً بين طبيعة النظامين السياسيين في كل من الدولتين:
● يعترف النظام السياسي اللبناني، بالرغم من صغر مساحته الجغرافية وقلة عدد سكانه، بكافة مكوّناته الأهلية، وتوزع الدولة سلطاتها بشكل نسبي وقانوني واضح وعلني على تلك المكوّنات، بينما لا يفعل النظام السياسي السوري ذلك أبداً، بل يسعى بطريقة حثيثة لنفي وجود تلك المكوّنات الأهلية، سياسياً وقانونياً.
● يقوم النظام السياسي اللبناني على منح مجال واسع من الحريات السياسية والمدنية، بينما يقمع النظام السياسي كل الحريات السياسية والمدنية في البلاد.
نلاحظ وجود تباين جوهري بين طبيعة النظامين السياسيين في البلدين، لكن ذلك التباين الظاهر لا ينفي ثلاثة محركات سياسية أخرى، كانت وما تزال بالغة التأثير في تفنيد ذلك التفارق الجوهري:
أولاً: بالرغم من منع نظام الرئيسين بشار وحافظ الأسد المديد (1970-2012) لأي شكل من أشكال الاعتراف السياسي أو القانوني بالجماعات الأهلية السورية، إلا أنه كان يسعى دوماً لخلق نوع من التوازن السياسي والاقتصادي بين تلك الجماعات الأهلية السورية، وذلك عبر أربعة أشكال من التوافقات السياسية غير المكتوبة، والتي استمرت حتى في عهد ابنه بشار الأسد:
1- توافق بين نظام الرئيس حافظ الأسد والطبقة التجارية والصناعية المدينية السّنّيّة، الدمشقية والحلبية منها على وجه التحديد. كان ذلك التوافق قائماً على تعهّد النظام بمنح تلك الطبقة دوراً واسعاً في الحياة الاقتصادية في البلاد، وكبح التحولات الاقتصادية «الاشتراكية» التي بدأت في عهد حكم البعث الأول (1963-1970)، تلك التحولات التي أضرت بعمق بمصالح هذه الطبقة «السّنّيّة» التجارية والصناعية. كما كان ذلك التوافق يضمن حضوراً ودوراً فاعلاً للسنّة في الأجهزة البيروقراطية للدولة، وبالذات عبر الجهاز الحكومي، فرئاسة الوزراء، والأغلبية المطلقة من الوزراء، والإدارات العليا في الحكومة، كانت دوماً من نصيب أبناء الطائفة السنّية. كما أن البند الأهم في ذلك التوافق كان قائماً على حلول «التفسير السنّي» للإسلام، كدين رسمي للبلاد، وبالذات في القضاء والمناهج التربوية. ولا يعتبر كل ذلك كبيراً بالمعايير السورية، فالسنّة يشكون قرابة 70% من سكان سوريا.
2- توافق سياسي غير معلن مع الأكراد السوريين، فقد كان نظام الرئيس الأسد يساند الأكراد العراقيين، بشكل مباشر، في صراعهم المسلح الذي كانوا يخوضونه ضد نظام صدام حسين منذ أواسط السبعينات من القرن المنصرم، حيث كان يجمع الأحزاب الكردية العراقية بنظام الرئيس الأسد عداؤها المشترك لنظام الرئيس صدام حسين. كما أن نظام الأسد نفسه كان قد خلق منذ بداية الثمانينات مظلة رعاية تامة لحزب العمال الكردستاني، والذي كان يخوض صراعاً مسلحاً ضد الدولة التركية. تلك العلاقة الثنائية الحميمة التي جمعت نظام الأسد بالأحزاب الكردية الإقليمية، في كل من العراق وتركيا، كانت قد خلقت نوعاً من الودّ الخفي بين الأكراد السوريين والنظام السوري. فأغلب الأكراد السوريين كانت طموحاتهم وتطلعاتهم السياسية إقليمية «كردستانية»، وكانت ترضيهم للغاية تلك التوافقية مع نظام الأسد في الملفات السياسية الإقليمية.
3- توافق قائم على تأمين دور حقيقي لأبناء الطائفة العلوية في الأجهزة الأمنية والقيادات العليا في الجيش. تحول ذلك الدور الأمني والعسكري، بعد عِقد من بداية عهد الأسد، أي منذ بداية الثمانينيات، إلى دور في الحياة العامة والدورة الاقتصادية في البلاد، حيث تعمّق التعليم في أوساط أبناء العلويين، وانتقلت كتلة سكانية مهمة منهم إلى المدن الرئيسية، بالذات إلى دمشق وحمص. تحول ذلك الدور إلى دور مركزي في الحياة العامة الثقافية والاقتصادية والسياسية، مع بروز الجيل الثاني من أبناء الطبقة الحاكمة من الطائفة العلوية، خصوصاً في عهد بشار، بعدما كانت طائفة معزولة تماماً اجتماعياً وسياسياً في الحقب التي سبقت عهد عائلة الأسد.
4- توافق مع أبناء الطوائف المسيحية والدرزية والإسماعيلية، يحفظ لها حصّة مناسبة في الإدارات الحكومية من طرف، واستقلالاً نسبياً في مجال القضاء الشرعي الخاص بكل طائفة سورية بعينها. كما أن نظام الأسد حفظ شكلاً من العلمانية الدستورية والقانونية، كانت بمثابة ضمانة لأبناء هذه الطوائف.
نلاحظ أنه، بالرغم من عدم اعتراف النظام السياسي السوري علناً بوجود مجموعات أهلية سورية، في المجالين السياسي والقانوني، إلا أنه كان قد خلق نوعاً من التوازن غير المعلن بين تلك المجموعات الأهلية. وأن هذا التوازن غير المعلن بدأ يتفكك مع بداية الثورة السورية، وبسرعة بالغة وعلى المستويات الأربعة.
ثانياً: المحرّك الآخر غير المرئي في الحالة السورية، هو تصاعد الاهتراء والتنابذ المجتمعي بين القوى الأهلية السورية، وإن لم تصبح يوماً شبيهة بالحالة اللبنانية، لكن منذ أحداث حركة الإخوان المسلمين في ثمانينات القرن المنصرم وحتى أحداث الثورة الأخيرة، فإن انفصاماً متزايداً بين المجموعات الأهلية السورية يحدث، وبالذات بين السنّة والعلويين.
ثالثاً: انكشاف المجتمع السياسي السوري للدول الإقليمية المحيطة. فطالما كانت سوريا محافِظة على نفسها كدولة مركزية، لا تستطيع الدول المحيطة بها (تركيا، العراق، السعودية، إسرائيل، مصر) أن تتدخل بشؤونها السياسية، عبر رعايتها لأحد أطراف مجتمعها السياسي/الأهلي. هذه الحالة من «عدم الانكشاف» الداخلي، هي ما كان يميز الحالة السورية عن نظيرتها اللبنانية، لكن هذا «التحصّن» السوري بدأ بالاهتزاز مع بدأ الثورة السورية.
نلاحظ أنه، بالرغم من التخالف الجوهري بين النظامين السياسيين اللبناني والسوري، إلا أن ثمة ثلاثة دوافع (التوازن والتوافق الخفي، والاهتراء والتنابذ المتبادل بين المجموعات الأهلية السورية، وانكشاف الداخل السياسي السوري) تتحرك بطريقة تقرّب النموذج السوري ليتشابه مع نظيره اللبناني، لكن ذلك لا يحجب أن البنية الأساسية في كل من الكيانين السوري واللبناني غير متطابقة مع الأخرى في ثلاث ركائز أساسية، وهي الركائز التي قد تمنع الحالة السورية من التطابق مع نظيرتها اللبنانية بالرغم من وجود المحركات الثلاث السابقة الذكر.
الركائز الثلاث لاختلاف النظامين السياسيين
أولاً: تاريخية العلاقة بين الطوائف والجماعات الأهلية، وذاكرتها السياسية
يقوم النظام السياسي اللبناني، جوهرياً، على ما كانت الإمبراطورية العثمانية قد توافقت عليه مع الدول العظمى في أواسط القرن التاسع عشر، أي عقب أحداث عام 1860 والذي شهد الصراع الأهلي الأول في جبل لبنان وقتئذ، بين المورانة والدروز. حيث حصل توافق بين الإمبراطورية العثمانية والقوى الدولية الكبرى الثلاث وقتها، روسيا فرنسا وبريطانيا، منحت الإمبراطورية العثمانية وقتها حق رعاية الطوائف في متصرفية جبل لبنان، روسيا ترعى مصالح الطوائف المسيحية الأرثوذكسية، وفرنسا ترعى مصالح الموارنة الكاثوليك بينما بريطانيا مصالح الدروز. وتأسس ذلك كعقد سياسي اجتماعي بين تلك الجماعات اللبنانية. بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وتأسيس دولة لبنان الحديثة، أضيفت العديد من الأقاليم والأقضية العثمانية، كبيروت وعكّار وطرابلس وصيدا… وأضيف الطائفتان المسلمتان السنّية والشيعية للطائفتين اللتين شكلتا أغلبية في متصرفية جبل لبنان، إضافة لبعض الطوائف الصغيرة. وتطور العقد السياسي اللبناني إلى شكل من التوافق والتحاصص القانوني والسياسي بين هذه الطوائف والمكونات الأهلية اللبنانية. ولعل جميع الأزمات السياسية التي حدثت في لبنان (1860-1945-1958-1975-1998-2008-2012) حدثت نتيجة التصارع بين تلك المجموعات الأهلية اللبنانية، ومحاولة كل منها التحسين من وضعها ضمن ذلك العقد السياسي المبرم بينهم.
بينما تأسست الدولة السورية الحديثة على أساس توحيد المدن الداخلية العثمانية الداخلية الأربع، دمشق وحلب وحمص وحماه، وضُمّ إليها ريف الجزيرة السورية الواسع شرقاً، والجبال والبلدات الساحلية غرباً، وريف حوران (السهل والجبل) جنوباً. فالمدن الداخلية السنّية كانت العمود الأساس في تكوين الكيان السوري، وكانت الجماعة العربية السنّية المدنية تشكل الأغلبية المطلقة في تلك المدن، وكان ثمة تآلف ثقافي واجتماعي بين مكونات المدن الأربع الرئيسية، الذين شكلوا الأغلبية مع ريفهم المتشابه أهلياً معهم، وقد شكلوا الجماعة السورية الرئيسية المركزية، وكانوا يشكلون حوالي ثلثي السكان، والأغلبية المطلقة من الرأسمال البشري التعليمي والتجاري والبيروقراطي. بينما كان الريف الطرفي، العلوي والدرزي والكوردي، شبه مهمل في الحياة العامة السورية، الثقافية والسياسية والاقتصادية، ولم يتصاعد دوره في الحياة العامة في البلاد إلا فيما بعد. ما نقصده هنا، أن الجماعة الأهلية السورية المركزية كانت بالغة الثقل النسبي والمعنوي، ولم تكن بحاجة للاعتراف والتعاقد مع الجماعات الأهلية السورية الأخرى. كما أن الجماعات الأهلية السورية لم تشهد أي تصارع عنيف فيما بينها، فأحداث 1860 التي اندلعت في جبل لبنان انتقلت وقتها إلى دمشق، لكنها لم تمتد خارج أحياء محدودة من المدينة. فالمجتمع السوري عرف «سلاماً اجتماعياً» تاريخياً متواصلاً. وهذا ما كان عاملا مؤثرا آخر، لغياب أي تعاقد سياسي أو قانوني بين الجماعات السورية، فالسوريون لم يشهدوا أي حاجة ودافع ملحّ لذلك التعاقد السياسي القانوني.
نلاحظ أن ثمة اختلافاً تاريخياً وتأسيسياً في طبيعة تكوّن الدولتين السورية اللبنانية، هذا الاختلاف الذي دفع بقوة نحو تكوّن لبنان بشكل عقد سياسي وقانوني توافقي، تتحاصص السلطة بين مكوناته الأهلية، بينما بقيت سورية دولة «شبه علمانية» يشكل فيها كل من التفسير الديني الإسلامي السني والهوية القومية العربية الفضاءين الثقافيين-السياسيين اللذين يحتويان باقي التعبيرات الأهلية السورية.
ثانياً: خصائص التوزع النسبي والمناطقي بين الجماعات الأهلية الرئيسية
يتشكل المجتمع الديمغرافي اللبناني من ثلاث طوائف مركزية (الموارنة والسنة والشيعة) تشكل حوالي 80% من مجموع السكان، وهي طوائف متقاربة النسبة العددية عموماً. كما أن التوزيع الجغرافي للبنانيين يتشكل من جبل أوسط بأغلبية مارونية ودرزية، وجنوب ذي أغلبية شيعية مطلقة، ومدن ساحلية ذات كثافة سنية عالية، مع حضور نسبي لكافة الطوائف في كافة المناطق اللبنانية الأخرى. فلبنان عموماً بلد صغير (10425كم2) وذو بنية ديموغرافية وجغرافية متداخلة. يشكل الموارنة الرأسمال المعرفي والبيروقراطي الأكبر في البلاد، لقدم المؤسسات التعليمية في مناطقهم، ولتأثرهم البالغ بالتبشير المسيحي الأوربي منذ القرن السادس عشر؛ ويليهم السنّة، الذين كانوا ذوي مكانة مدنية تجارية وإقطاعية ومالية واسعة الثراء، منذ العهود العثمانية وحتى الآن؛ بينما يستحوذ الشيعة على السطوة العسكرية والحضور الديمغرافي القوي منذ عهد الحرب الأهلية اللبنانية، وبالذات تحت الرعاية الإيرانية والسورية لقواهم العسكرية تلك.
عموماً نلاحظ شبه تساوٍ بين القوى الأهلية اللبنانية الثلاث، فغير التداخل والتساوي العددي النسبي فيما بينها، كل واحد من الطوائف الأهلية المشكّلة للبنان يستحوذ على جانب من جوانب القوة المعنوية الضرورية للدولة اللبنانية.
الديمغرافية الأهلية السورية تتألف من طائفة «قومية» مركزية، تشكل حوالي 70% من مجموع السكان، هي طائفة «العرب السنّة»، وهي تتوزع في كافة البيئات الجغرافية السورية، وعلى جنباتها ثمة ثلاث «أقليات» أهلية سورية، الأكراد في شمال البلاد، والعلويون في الجبال الساحلية والمسيحيون في أغلب المدن، وتقارب نسبة كل واحد من هذه «الأقليات» الأهلية حوالي 10%، وثمة طوائف صغيرة كالدروز الإسماعيليين والمرشديين… الخ، تتراوح نسبتهم بين 1-2% لكل منهم. يشكل العرب السنّة الأغلبية المطلقة في كافة المناطق السورية، عدا الجبال الساحلية التي يشكل فيها العلويون أغلبية نسبية، وكذلك في الكثير من المناطق الشمالية، حيث يشكل الأكراد تلك الغالبية. كما أن العرب السنّة يشكلون الرأسمال المالي والمعرفي والبيروقراطي الطاغي في عموم البلاد، وتشكل هويتاهم الدينية السنّية والقومية العربية الهويتين الأكثر سطوة في الفضاء الرمزي لعموم سوريا، منذ تأسيس الدولة وحتى الوقت الراهن، حيث لم تستطع جميع تبدلات السلطة في الدولة السوري أن تمسّ هاتين الهويتين الجوهريتين في البلاد.
نلاحظ أنه ثمة تفارق وتضادّ جوهري بين الطبيعة الجغرافية والديمغرافية في كل من الحالتين السورية واللبنانية: ففي الحالة اللبنانية ثمة شبه تساوٍ معنوي وفعلي بين ثلاث طوائف رئيسية تحتاج لتعاقد فيما بينها، بينما في الحالة السورية ثمة كتلة سكانية أهلية مركزية، تشكل جوهر البيئة السكانية للبلاد ولا تحتاج لتعاقد مبرم مع باقي المجموعات الاهلية.
ثالثاً: الرعاية الإقليمية والدولية
رغم أن النموذج اللبناني نتج عن التوازن المبدئي بين طوائف متصارعة، تحوّل وعيها الأهلي الثقافي إلى وعي سياسي بنيوي، وتعمق ذلك قانونياً وعُرفياً منذ عهد الاستقلال، إلا أن تلك الصيغة اللبنانية ما كان لها أن تستمر وتتعمق لولا انقسام المجتمع السياسي اللبناني بين خطوط الانقسام الإقليمية، سياسياً وأيديولوجياً. فالكيان اللبناني كان دوماً هشاً تجاه الكيانات والخيارات السياسية الضخمة والمحيطة به، منذ بداية الاستقلال وحتى الأعوام الأكثر حداثة:
– في الأربعينات، انقسام بين الصيغة اللبنانية الوطنية (الموارنة) وصيغة الاندماج السياسي والثقافي مع سوريا (السنّة).
– في الخمسينات، انقسام بين محور حلف بغداد (تيار الرئيس كميل شمعون) والحلف الناصري (تيار كمال جنبلاط وعموم المسلمين اللبنانيين).
– في الستينات، حافظ الرئيس فؤاد شهاب على نوع من الصيغة الوطنية اللبنانية الجامعة لكافة مكونات المجتمع الأهلي اللبناني.
– في السبعينات، انقسام بين تيار مناهض للوجود الفلسطيني المسلح (المورانة) وتيار آخر مدافع عن ذلك الوجود (المسلمين السنة واليسار اللبناني).
– في الثمانينات، انقسام بين الولاء لسوريا أو شكل من العلاقة مع إسرائيل أو نظام صدام حسين في العراق.
– في التسعينات وما بعدها، انقسام حادّ في المجتمع السياسي اللبناني بين المحورين السياسيين الرئيسيين في المنطقة: المحور السوري الإيراني، والمحور المصري السعودي.
– انقسام حالي حادّ في الموقف من الثورة والنظام في سوريا.
يلاحظ أن المجتمع السياسي اللبناني، كان ينقسم دوماً إلى تيارات تحظى برعاية إحدى الدول المحيطة بلبنان سياسياً، وكان الكيان اللبناني دوماً أضعف هذه الكيانات، وهو ما كان يعزّز من ضرورة حضور العقد القانوني السياسي المحكم بين قواه الأهلية.
هذه الركيزة لم تتوافر في النظام السياسي السوري، سوى لفترة قصيرة في بداية الخمسينات من القرن المنصرم، وكانت سوريا تعاني من تصدّع سياسي لا أهلي، بين المحوريين السياسيين الرئيسيين وقتئذ: فحزب الشعب السوري (كان ثقله مدينة حلب، ويتزعمه ناظم القدسي) يوالي المحور السياسي الهاشمي، في كل من العراق والأردن؛ بينما كانت حزب الكتلة الوطنية (وثقله الأساسي مدينة دمشق، ويتزعمه شكري القوتلي) يوالي التيار الناصري في مصر.
كان العصر البعثي، خصوصاً عهدي الأسد الأب والابن، قد حوّل سورية، نوعاً ما، إلى لاعب ذي وزن وخيار في جملة الحساسيات السياسية في المنطقة، وانتشلها من موقع الكيان المتصارع عليه. لكن ذلك لم يتمّ دون تجفيف الداخل السوري، وتحويل سورية إلى كائن سياسي إقليمي محض ومتحجّر. فحتى تستطيع سورية تفادي الاشتغال الإقليمي بقواها الداخلية، ألغت حياتها السياسية الداخلية. وحين تحاشت ابتزاز القوى المحيطة الأكبر منها، عسكرت المجتمع والحياة المدنية العامة في داخلها. ربما لم يجرِ ذلك بوعي تاريخي مبرمج، لكنه بالتأكيد كان الثمن الذي دفعه الكيان والمجتمع السوري لحماية نفسه، وكأنه شرط مغلق للكيان السوري، لا فكاك منه. فإما أن تغرق سورية في التجاذبات الإقليمية، وتندرج في واحد منها، فتقبل فقدان ذاتيتها ومشروعها الخاص؛ أو تتحجر وتلتوي على نفسها كخيار صلب لحفظ نفسها.
بين الركائز الثلاث الصلبة، وبين الديناميكيات الضاغطة الحديثة، يتقارب النموذج السياسي السوري ليتطابق مع نظيره اللبناني. فإلى أي مدى سوف تقاوم البنية السياسية الرئيسية السورية هذه التحولات التي تشهدها سوريا؟ وإلى أي مدى سوف تتصدّع وتتفكّك؟ هذا هو سؤال العقد الاجتماعي السوري الحديث، والذي ربما قد يحدّد ملامح سوريا لنصف قرن قادم.