يولي الكرد في سوريا مؤتمر جِنِيْفْ2 اهتماماً كبيراً، لا يقل عن الاهتمام الذي تبديه القوى والجماعات الأخرى في سوريا، إن لم يكن أكثر منها، لدرجة أن النقاش حوله بات يتصدر مشهد الحوار الكردي السوري الداخلي. ويُعزى هذا الاهتمام لدى الكرد في سوريا إلى قناعة، ترسّخت مع مرور الوقت ومع طول أمد الأزمة في سوريا، مفادها أن جِنِيْفْ2، رغم الشكوك التي حامت حول إمكانية انعقاده، لن يكون مؤتمراً عادياً، والحل الذي سيُسفر عنه لن يكون في صيغة تسوية تقليدية. وتستند هذه القناعة إلى طبيعة وخريطة العلاقات المجتمعية في البلاد، وتعدّد نسيجها القومي والديني والمذهبي، وحجم واتساع الشروخ بين مكونات الشعب السوري، والتي تظهرت على سطح الصراع الدائر منذ أكثر من أربعة وثلاثين شهراً. ولا أدلّ على هذا الاهتمام الكردي السوري بـجِنِيْفْ2 من التحذير المتكرر من تكرار «لُوْزَاْنْ ثانية»، في إشارة إلى مُعَاْهَدَةِ لُوْزَاْنْ التي عُقدت في 24 تموز 1923 على أنقاض مُعَاْهَدَةِ سِيْفْرْ (10 آب 1920) عقب الحرب العالمية الأولى بين الإمبراطورية العثمانية ودول الحلفاء، حيث نصّت الأخيرة بكل وضوح على استقلال كردستان وحق الكرد في دولة قومية خاصة بهم قبل أن تنقلب عليها لُوْزَاْنْ.

يجد الكرد في الظروف الراهنة في سوريا «فرصة استثنائية» يقتضي التعامل معها واستغلالها، على أنها قد لا تتكرر قبل مائة عام قادمة. وهو افتراض لا تتداوله الأوساط الشعبية الكردية فحسب، وإنما هو محلّ جدل وحوار ساخن بين الأحزاب الكردية السورية نفسها، والتي تجد نفسها على طرفي نقيض من كيفية التعامل مع جِنِيْفْ2، جرّاء خلافات وخصومات المجلسين الكرديين، اْلْمَجْلِسِ اْلْوَطَنِيِّ اْلْكُرْدِيِّ ومَجْلِسِ اْلشَّعْبِ لِغَرْبِيْ كُرْدِسْتَاْنْ، وجرّاء ارتباط كل جهة منهما بإطار سوري معارض يختلف عن الإطار الذي يرتبط به الآخر. ورغم لقاءات هولير الأخيرة، في شهر كانون الأول 2013 المنصرم، برعاية رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني، وبوساطة كل من البرلمانية الكردية ليلى زانا ورئيس بلدية ديار بكر أوصمان بايدمير، واتفاق المجلسين على رؤية كردية موحدة، والسعي من أجل إدراج القضية الكردية في سوريا ضمن جدول أعمال مؤتمر جِنِيْفْ2، إلا أن هذه المحاولات تصطدم بمعارضة جدية من قبل تركيا، ويبدو أن هذه الأخيرة تمارس ضغوطاً حقيقية على الإدارة الأميركية، لحثّها على رفض أية مناقشة للقضية الكردية في سوريا على طاولة جِنِيْفْ2، وذلك عبر منع وعرقلة أي تمثيل كردي مستقل ضمن وفد المعارضة السورية في المؤتمر الدولي حول سوريا، والذي بدأ يوم 22 كانون الثاني الحالي في سويسرا.

ذلك أن تركيا تدرك جيداً أن الكرد لن يدّخروا جهداً في سبيل المطالبة بدولة اتحادية في سوريا، تضمن لهم إقامة كيان ذي نظام فيدرالي أو حكم ذاتي في المنطقة الكردية، والتي يطلقون عليها اسم غربي كردستان.

وما يعزّز أكثر من مخاوف تركيا في هذا الشأن، هو المسار الذي انتهت إليه الأوضاع في سوريا، من حالة ثورة شعبية إلى واقع فوضى عارمة، تهدّد ليس فقط الكيان الوطني السوري وإنما جواره الإقليمي أيضاً، بعد أن بات مصير السوريين رهن الإرادة الدولية، ورهن اتفاق وتفاهم أميركي-روسي، وإلا لم تكن تركيا لتسمح بجعل أراضيها قاعدة لأنشطة المعارضة السورية، سياسياً وعسكرياً، ومعبراً لمرور آلاف المتطرفين الإسلامين من مختلف أصقاع الأرض إلى سوريا، وملجأ لمئات الآلاف من اللاجئين السوريين، وهي التي تعلم جيداً ترابط الصلات العرقية والمذهبية لمواطنيها مع أقرانهم في سوريا. وهي إن فعلت ذلك في بداية الثورة السورية، فلرهانها على السقوط السريع للنظام السوري، اعتقاداً بأن الرئيس السوري بشار الأسد لن يكون أوفر حظاً من محمد حسني مبارك في مصر، أو من زين العابدين بن علي في تونس.

وبالعودة إلى جِنِيْفْ2 ونظرة الكرد إليه، فإن الرأي السائد في هذه المرحلة بين الكرد السوريين هو أن الأزمة السورية أصبحت عصيّة على الحل، جرّاء المنحى الطائفي الخطير الذي انتهى إليه الصراع، بين أغلبية سنية محكومة وأقلية علوية حاكمة، وبعد أن نأت باقي المكونات القومية والدينية بنفسها عن دائرة الصراع، وأسفرت عن تداعياته استقطابات خطيرة، وتدخّلات دولية وإقليمية، سلبية وهدّامة، في الشأن الداخلي السوري، ثم دخول عناصر وجماعات متطرفة على خط الصراع. ونتيجة للدمار الشامل الذي حل بالبلاد، والنزوح الجماعي لمواطنيها، والجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين، وانحلال الروابط الوطنية بين مكونات الشعب، على خلفية انتهاكات طالت المواطنين «على الهوية»، بات من الصعوبة بمكان، إن لم يكن من المستحيل، إرجاع عجلة الزمن الى الوراء، ومحاولة حكم البلاد من خلال سلطة مركزية، سواء انتصر النظام أو العكس. وإذا كان هناك من حل أو مخرج للأزمة، ومن سبيل لحقن ما تبقى من الدماء، وتوفير ما تبقى من البنية التحتية في سوريا من الدمار، فهو اتفاق مكونات الشعب السوري الرئيسية على إعادة تشكيل الدولة السورية على أسس جديدة، وبآليات ونُظُم حكم مغايرة للعقود السابقة، بما يضمن شراكة متساوية وحقيقية بين مكوّنات الدولة، على أساس الاعتراف المتبادل فيما بينها بكون سوريا بلداً متعدّد القوميات والأديان والمذاهب، ويقتضي ضمان مصالح مكوناتها إقامة نظام فيدرالي في البلاد.

وعليه، ينظر الكرد السوريون بعين الشكّ والقلق إلى مؤتمر جِنِيْفْ2، لجهة أن بنود جِنِيْفْ1، التي من المتوقع أن تكون أساس الحوار بين النظام والمعارضة، لا تشكل حلاً حقيقياً وناجعاً لأزمة البلاد، ولا يمكن أن تضع البلاد على سكّة الانتقال نحو نظام ديمقراطي تعددي، كونها، من جهة، لا تفي بالحد الأدنى من مطالب الشعب السوري في الحرية وإنهاء الاستبداد وقلب صفحة الديكتاتورية؛ ومن جهة أخرى فإن المؤتمر لا يضمن مناقشة مطالب باقي مكونات الشعب السوري القومية والدينية، ولا أخذ رأيها في مستقبل البلاد والعملية السياسية التي ستتمخض عن المؤتمر، وفي مقدمتها مطالب الشعب الكردي في سوريا.

لذا، إذا قُدّر لجِنِيْفْ2 أن يتجاهل حقوق ومطالب القومية الثانية في البلاد، تحت ضغوط هذه الجهة أو تلك، فإن الشعب الكردي في سوريا، بكافة فعالياته السياسية والاجتماعية والثقافية، لن يتردّد في اعتباره «لُوْزْاْنْ2»، ولن يبخل أبناء بالصلاة من أجل فشله.