يمكننا اليوم أن ننظر لتاريخ الصراع مع النظام السوري قادرين على القول إن تعريف هذا الصراع لم يكن متفقاً عليه جمعياً، على الأقل ليس في كل الأوقات. يمكننا حتى التمادي في ذلك والقول إن عدة تعريفات ممكنة تتداخل فيما بينها في ذات الوقت أثناء الصراع معه، مع اختلاف فعل الهيمنة لأحدها من حين لآخر. تختلف هذه التعريفات للصراع باختلاف الفاعلين فيه، وباختلاف رغبات المتصارعين في تعريفه، أو رغبتهم فيما يريدون إظهاره للآخرين. النظام مثلاً، على الأقل في جزئه المعرّف بالشبّيحة، لم يمانع إظهار الجزء الطائفي في صراعه داخلياً، بينما قدّم حماية الأقليات ومحاربة الإرهاب كتعريف لحربه أمام الآخرين، الغرب تحديداً. تعريف صراعاتنا يعطيها المعنى لنا وللآخرين، ويفرض طريقة معينة للتعاطي معها كانت لتصبح مختلفة لو جاءت ضمن سياقات أخرى أو تعريفات مناقضة على ما سيجري ذكره.
التعريفات الممكنة إذا هي على النحو التالي:
● الصراع مع النظام السوري صراع نظام استبدادي ضد شعب ثار من أجل الحرية. هذا التعريف يحمل في طيّاته معنىً إيجابياً: الهدف هنا هو الحرية، النضال إذاً تحرّري ويستنكر الاستبداد ضمناً، والشعب أيضا ذو دلالة مركزية هنا، وإرادته أمر يجب الوقوف أمامه. هذا التعريف كان مهيمناً في العام الأول من الثورة، وهو مرتبط أساساً بالمظاهرات السلمية لا بالأعمال المسلحة، حتى حين ترافقت معها زمنياً. شعارات ذلك التعريف: «الشعب يريد إسقاط النظام»، «الشعب السوري واحد»، «الشعب السوري ما بينذلّ»، والعلم المرفوع ما زال واحداً لدى الجميع. هذه دلالة على الرغبة في المنافسة على أحقية التمثيل، لا على دحره، وهي دعوة للجيش لاتخاذ موقف مشابه لما فعله الجيش المصري والتونسي، دعوة ذات دلالة (رغبوية أكثر منها حقيقية) على الرغبة في الاعتماد على مفهوم الدولة ومؤسساتها، قبل أن تنعدم هذه الدعوة سريعاً بسبب تصلّب بناء الجيش في سوريا انظر: مؤسسة الجيش السوري: مسيرة التصفيات وسؤال الهوية – خلود الزغير. حتى الدعوة للانشقاق عن الجيش وتشكيل ما يعرف بـاْلْجَيْشِ اْلْحُرِّ تبدو في ظاهرها دعوة شرعية، تريد إعادة بناء الدولة القديمة المتهالكة وغير الملتزمة بدورها في حماية الشعب.
هذا التعريف لقي حرباً شعواء من النظام، الذي لم يقبل يوماً به ولم يرضَ أن يعطيه الشرعية: لا تفاوض مع حركة اجتماعية تقدم هذه المطالب، ولا تنازلات. حتى حين بدا التردد قليلاً في بعض الأماكن (مظاهرات حماه الكبرى) لم يترافق ذلك مع اعتراف واضح بوجودها. التلفزيون الرسمي في حينه قال إن عدد المتظاهرين لم يتجاوز عشرة آلاف، وبالطبع دون أي إشارة إلى مطالبهم. ولحق ذلك استمرار لسياسة القمع والعنف و«الحل العسكري» والمجازر.
● بالتدريج، وبالترافق أحياناً مع التعريف الأول، بدأ يسود تعريف الصراع بأنه حرب سنّية- شيعية. هذا التعريف إقليمي، أما داخلياً فهو تمثيل له بصراع سنّي-نُصيري. بدايةً، كان هذا الخطاب خجولاً، وإن كان مبكراً مدفوعاً بتاريخ كامل من الحكم الطائفي، من لهجات مسؤولي البلد الكبار وطائفة أجهزة أمنه، تلك التي تتحكم بمفاصل البلد الحقيقية (ولا تكفي الردود بذكر طائفة مسؤولين وزاريين أو حكوميين للردّ)، والتي ارتبطت لهجتها حتى دون مواربة في فترة ما قبل الثورة في مسلسلات السوريين بالمنعة والقوة والمخابرات. أما لاحقاً، ساد ذلك التعريف مدفوعاً بطبيعة الأماكن المعرضة للعنف من قبل النظام، العنف غير المتصور إن صحّ التعبير، كحادثة مقتل حمزة الخطيب وثامر الشرعي مثلاً، ومدفوعاً بالدعم اللامحدود من قبل إيران وحلفائها – حزب الله وأمينه العام حسن نصر الله، حبيب السوريين بالأمس الذين لم يتحولوا لكرهه إلا بعد وقوفه إلى جانب الأسد، والمالكي الذي توتّرت علاقته مع النظام في ما قبل الثورة ثم صار مدافعاً عنه في ما بعدها، فضلاً عن مواقف أخرى ذات دلالة مع مسيحيين وعلويين ثوريين، تكون حجة التعامل معهم بأنه لا يجوز أن تكون علوياً وتقف ضد النظام، على ما أشارت سمر يزبك في مذكراتها.
ورغم وجود راغبين آخرين في تعريف الصراع بهذه الطريقة، إلا أن النظام وحلفاءه يَبدون أصحاب دور محوري ورئيسي في ذلك، لدرجة تكاد تبدو أدوار غيرهم تكميلية. من يعرّفون الصراع اليوم بالحرب السنّية-النُصيرية هم القوة الرئيسية المحاربة للنظام اليوم، وقادتها هم أنفسهم من أفرج عنهم النظام من سجونه بعفو رئاسي (أيار 2011) في حين كان يعتقل الآلاف من شباب المظاهرات السلمية – أقصد حسان عبود وزهران علوش في سوريا والفاتح الجولاني في العراق.
«يجب إبراز الهوية الأساسية لهذه المواجهة مع العلوية النصيرية، بتركيز محور المواجهة باتجاه المفتاح الصحيح لهذا الصراع الجهادي بين الحق والباطل، وهو: أهل السنّة في مواجهة العلوية النصيرية»، هذا الكلام نشره أبو مصعب السوري (أحد أهم رموز تنظيم القاعدة) بعد وفاة حافظ الأسد، ولا يبدو أنه يختلف كثيراً عن كلام آخرين اليوم، يفترض أنهم غير قاعديين.
هذا التعريف، بعكس سابقه، يحمل معنى سلبياً في ذاته، كره الآخر وإلغاؤه، مع تبرير للاستبداد الداخلي دوماً بحجة محاربة الآخر، وهو مليء بالكراهية، التي تبدأ محددة لتنتهي لكره الكل، والتي تبدأ بالرغبة بالتمايز عن الآخر لتنتهي بتقديس الذات. وهذا التعريف حمل الروح للنظام السوري، فهو أولاً أعاد له مبرّرات وجوده أمام العالم، تلك الكلمة السحرية «محاربة الإرهاب»، والاستعداد للتعاون مع الحلفاء الإقليميين من الباب الأمني؛ أما داخلياً فقد نجح في تحييد قطاعات واسعة يمثل لها التطرف الإسلامي بعبعاً، القطاعات غير السنّية أولاً وقطاعات واسعة من السنّة ثانياً. فإن كان النظام حرمنا الحرية السياسية وقدّم «الحريات الاجتماعية»، لا يبدو أن السلفية الجهادية مستعدة لتقديم أي منهما. هذا التعريف للصراع يخصم من رصيد التعريف التحرري تلقائياً، ولا يمكن هيمنة كلا التعريفين معاً، لذا من المتوقع أن يتعرض أحدهما للتعنيف فور هيمنة الآخر. هذا هو الملاحظ مؤخراً، والمتوقع ازدياده لاحقاً، فقد تم اعتقال زياد الحمصي وخطف عبد الوهاب الملّا، ومن بعده بقليل رزان زيتونة وسميرة الخليل، كممثلين للتعريف الأول.
● التعريف الثالث يبدو سائداً أكثر لدى قطاعات الرماديين، وإن كان يعتمد في بعض جوانبه على منطلقات نجدها في التعريف السابق، وهو ينطلق من كون الصراع علماني\مدني × إسلامي\رجعي، و هو يدعو بذلك غير الإسلاميين، حتى لو كانوا ثوريين بدايةً أو سابقاً، للتخلي عن فعلهم: أصحابكم، أو من يفرتض أنهم أصحابكم، لا يشبهونكم، ونحن أقرب إليكم منهم، ولن تستطيعوا العيش معهم إن انتصروا، بينما يمكنكم ذلك معنا. يلاحظ أن هذا الخطاب ينتشر في فئات مرتاحة نوعاً ما، وليس كآخرين لم تتوفر لهم القدرة على مسايرة النظام سابقاً، في فئات لم تتعرض لذلك العنف الهمجي الواضح وغير المبرّر، كذلك الموت بالبراميل المتفجرة.
● آخرون يطرحون الصراع كثورة ريفية على المدن، المدن التي تريّف محيطها بأحزمة البؤس والفقر المدقع لتعيش هي رفاهيتها، محيطها الذي تم إفقاره نتيجة سياسات اقتصادية حمقاء اتبعها النظام في فترة حكم الأسد الابن، وجزء منها العلاقة مع تركيا وصناعاتها التي غزت السوق السورية دون قدرة تنافسية من نظيرتها السورية، مما أفقرت أهلها. يدعم هؤلاء رأيهم بطبيعة الانتشار الجغرافي للمظاهرات بدايةً، ومن ثم طبيعة حَمَلة السلاح فيما بعد، ويضيفون طبعاً أنها ثورة الفقراء على الأغنياء.
* * * * * *
هل هناك نظرات أخرى للصراع السوري؟ ماذا عن تعريفات لصراعات جزئية داخلية أحياناً، اْلْنُصْرَةُ ودَاْعِشْ، أو اْلنُّصْرَةُ والأكراد مثلاً؟ لا نتحدث هنا ونحن نريد اختزال طبيعة الصراع السوري، أو الصراعات السورية بشكل أدقّ، بتعريفات جاهزة وثابتة ومعتادة، بقدر الإشارة إلى حالة التداخل الحاصل بين جميعها في ذات الوقت، ووجوب فهمها على هذا النحو. تعريف صراع اليوم باب نحو تعريف سوريا غداً، فهويتها السابقة لم تعد قابلة للعيش، والاستعصاء الذي نعيشه اليوم جزء من هذا كله. هل يمكننا إعادة تعريف الصراع اليوم إذاً؟