أستاذ ماجد، أنت كاتب وباحث مهتمّ بالشأن الفلسطيني والصراع العربي الإسرائيلي، وابن الحركة الوطنية الفلسطينية منذ 45عاماً، ولدتَ عام 1954في حلب ودرست التاريخ في جامعة دمشق ثم علم الاجتماع في أكاديمية العلوم الاجتماعية وإدارة المجتمع في بلغاريا، تعيش في دمشق ومقيم مؤقتاً في نيويورك، لك العديد من الكتب والدراسات والمقالات في مختلف الصحف والمجلات كـ’الحياة‘ و’النهار‘ و’السياسة الدولية‘ و’فلسطينيات‘ وغيرها… فتحية طيبة!
لو بدأتُ معك بسؤال عام، كيف ترى المشهد السوري على مشارف الذكرى الثالثة لانطلاق الثورة؟
قد يمكن قول الكثير في حساب الخسائر والإنجازات. لكن لنبدأ بالإنجازات. فهذه الثورة، المستحيلة والمدهشة واليتيمة والأبهظ كلفةً، كسرت شعار «سورية الأسد إلى الأبد»، فهذا النظام انتهى رغم كل ما يجري… وما يقاتله السوريون اليوم هو النفوذ الإيراني، مع الحرس الثوري وحزب الله وكتائب أبو الفضل العباس، فضلاً عن الروس. وفي مراجعة سريعة، فهذه الثورة كان ثمنها باهظاً، وغير مسبوق، بسبب الطبيعة الفاشية للنظام، وشعوره بالغربة عن شعبه، بعد أن حكمه بالاستبداد والفساد أربعة عقود، وقد شجّعه على ذلك خذلان المجتمع الدولي للسوريين. ومن وجهة نظر نقدية، فهذه الثورة التي انطلقت عفوية، لم تستطع تجاوز ذلك، بسبب ضعف أهلية القوى التي تصدرتها، وتخبّطها، هذا أولاً. وثانياً، لقد انبنت مراهنات الثورة على التدخل الدولي، ما سرّع التحوّل للعمل المسلح، وهذان، أي المراهنة على الخارج والتحول نحو العسكرة، أضعفا البعد الشعبي للثورة، وجعلاها رهن الاعتمادية على الخارج. طبعاً لا نقصد بالعمل المسلح المنشقّين عن الجيش، ولا قيام حالات شعبية بأعمال الدفاع عن النفس، وإنما المداخلات الخارجية التي اشتغلت على تخليق بعض الجماعات المسلحة وتدعيمها. هذا الواقع أضرّ بالثورة، وبصدقيتها، بخاصة مع انفلاش الظاهرة المسلحة، وبروز جماعات تحمل أيديولوجيات معينة وتريد فرضها بالقوة على المجتمع، بالضدّ من مقاصد الثورة، وحتى بالضدّ من أطروحات رفاق أيديولوجيين لها، كالإخوان المسلمين.
هكذا فقد نجم عن العسكرة بروز العصبية الطائفية، وإضفاء بُعد ديني-مذهبي على ثورة ذات طابع سياسي، ما أضرّ بصورتها إزاء مجتمعها، وإزاء العالم، مما أفاد النظام بالمجمل. وما دمنا في البعد العسكري، قد يمكن انتقاد الاستراتيجية المتمثلة باحتلال مناطق، إذ ثبت أن هذا العمل لا ينطوي على حكمة، ولم يكن نتاج دراسة، وهذا سهّل على النظام توجيه ضربات مدمّرة للبيئات الحاضنة للثورة، وبالتالي إخراج أكثرية الشعب من معادلات الصراع، وتحولك ذلك إلى عبء على الثورة؛ كما سهّل على النظام محاصرة المناطق التي تقع تحت سيطرة الثورة، وتوجيه ضربات قاسية لها. وهكذا فإن نجاح النظام في إخراج الناس الصراع لم يكن في صالح الثورة، ناهيك أن هذه لم تنجح في تقديم نموذج أفضل في المناطق التي تخضع لها، إذ إن إدارتها لتلك المناطق تكشّفت عن مشكلات كبيرة، ضمنها الفوضى الأمنية والإدارية وتقييد الحريات.
أيضاً، في نهاية العام الثالث، تبين أن الثورة ليست فقط من أجل إسقاط النظام، وإنما أيضاً ضد الدور السياسي الوظيفي له، في لبنان والعراق، وفلسطين (وهو دور طالما أراح إسرائيل)، وهي ثورة ضد حلفه مع إيران. وتبين أنه هذه افلثورة تحمل عبء بناء إجماعات جديدة، وهوية جديدة لسورية، وهذه معركة صعبة ومعقدة دخلت الثورة غمارها قبل الانتهاء من النظام. كل هذه التعقيدات، والأثمان الباهظة، والعذابات والتضحيات، تبدو جزءاً من ثمن التغيير لشعب حُرم من السياسية لعقود.
الآن، تقف الثورة ازاء مخاطر عديدة، أولها اختفاء الشعب من معادلات الصراع؛ وتشرّده داخل البلد أو في البلدان المجاورة؛ وبعض ذلك سببه «طوائف» المتردّدين والحائرين والمتخوّفين؛ يضاف لذلك غياب البعد الشعبي للثورة؛ وهيمنة الأطراف المسلحة ذات الأجندة الأيديولوجية المتطرفة؛ المدعومة من الخارج عليها؛ وأخيراً، التلاعب الخارجي بالثورة من قبل أطراف عربية ودولية.
تقول في إحدى مقالاتك إن «السنّة، وعلى خلاف الاعتقاد السائد، لم يحكموا بوصفهم طائفة عبر التاريخ، ما يعني أن عصبيّتهم لم تتشكّل عبر الحكم»، وتأتي رويداً على المثال السوري بشيء من التاريخ المعاصر. هل نجح النظام في الدفع باتجاه بَلوَرة عصبية «سنّيّة» في سوريا؟ وهل هناك «مشروعية» ثقافية-سياسية في طرح كهذا في الفترة التالية لحكم الأسد؟
هذا الكلام نتيجة مراجعة للتاريخ، وهو عكس البديهيات الساذجة السائدة في دنيانا، فمن يعتقد أن معاوية حكم باسم «السنّة»، مثلاً؟ والخلافة الأموية والعباسية ثم المماليك والعثمانيين؟ هذه أسر معينة، بمعنى أن «السنّة» كانوا محكومين كغيرهم. وهذا الكلام جاء في إطار نفي فكرة «الأقليات» التي يتعيّش عليها النظام ويروّج لها لتعزيز شرعيته، ولتبرير سياساته الاستبدادية. لاحظ معي هنا أن النظام يمتهن من يعتبرهم «أقليات» بدعوى أنه يحميهم، لأنه عمليات يعزلهم عن مجتمعهم، ويخرجهم من دائرة المواطنة، وكأنه لا قضية لهم تتعلق بالحريات والمشاركة السياسية، في مقايضة معروفة: أعطيكم الأمن وتعطونني السلطة. وهذه السياسة هي بمعنى ما امتداد لسياسة «فرّق تسد»، وهي نتاج لغياب الدولة، دولة المؤسسات والقانون، وغياب مفهوم المواطنة، أي المواطنين الأحرار المتساوين، وهذه هي التركة الحقيقية لنظام الأسد الحاكم في سورية أربعين سنة، أي مصادرة الدولة، وتقويض معناها، والحؤول دون ظهور المواطن، الذي هو شرط التحول إلى مجتمع، أو إلى شعب حقاً.
الآن النظام، من خلال ردة فعله الوحشية على الثورة، ومجازرة المتعددة، وقصفه المقصود والمدمّر للبيئات الحاضنة للثورة، وهي في غالبيتها «سنّيّة»، حاول إثارة ردود فعل «سنّيّة»، لكن هذا، كما نشهد، لم يحصل على النحو الذي يريده النظام، رغم الألم، ورغم تنامي مشاعر الإحساس بالظلم والكراهية في بعض القطاعات، إلا أن الأمر لم يحصل، لسبب بسيط، وهو أن «السنّة» لم يعرّفوا أنفسهم كطائفة عبر التاريخ، فهم أكثرية طبيعية، ولا يحيق بهم الخطر، ثم إنهم من الناحية الدينية يمثلون التيار السائد، وتيار الوسط والاعتدال. وعلى أية حال، فنحن عندما نتحدث على هذا النحو نميّز بين الطوائف، كمعطى اجتماعي ديني وثقافي وتاريخي، وبين الطائفية كمعطى سياسي يحاول أخذ الطوائف وإثارة عصبيتها لاستخدامها في صراعات السياسة والسلطة، وهذا ما يفعله النظام في ادعائه «حماية الأقليات».
بالنسبة لمرحلة ما بعد إسقاط النظام، من الصعب التكهّن بالكيفية التي ستسير عليها الأمور، لأن هذا سيعتمد على الطريقة التي سيتمّ الحسم بها. لكنني أستطيع القول، وبناء على قراءة للتجربة التاريخية، وقراءة التحولات في مصر وتونس (حيث الأغلبية العظمى من السنّة)، إن تشكّل عصبيّة سنّيّة أمر مستبعد، أولاً لأن «السنّة» لا يتعاملون بوصفهم طائفة، أو وفق عقلية طائفية؛ وثانياً لأن جمهور «السنّة» متوزع على مختلف التيارات، العلمانية والدينية، وهو يشكل حاضنة لها كلها، سواءً كانت علمانية أو قومية أو ليبرالية أو يسارية وغير ذلك، أو كانت دينية، دعوية أو سلفية أو صوفية، علماً أن التيارات «الجهادية» أو العنفية أو المتطرفة هي الأضعف بمعنى الاحتضان الشعبي. أما ما نشاهده من بروز مفاجئ لبعض هكذا جماعات، فهو برأيي نتيجة تلاعبات وتدخلات خارجية، فهذه الجماعات لم تنشأ نتيجة حراكات داخلية بين الجماعات السياسية الدينية السورية، بقدر ما أقحمت من الخارج؛ أما ثالث ما يعطي صدقية لهذا الكلام فأن جمهور «السنّة» بالذات هو الذي عارض حكم «الإخوان» في مصر وفي تونس، كما شهدنا، وأن هذا الجمهور في سوريا هو الذي نبذ التيارات الجهادية المتطرفة، وعزلها. على أية حال فإن انتهاج الطرْق الطائفي، على نحو ماجرى في العراق، محفوف بالمخاطر، لأنه يفتح على انقسامات طائفية، وهي تفتح بدورها على تقسيم جغرافي، أو إيجاد كانتونات طائفية فيها.
لنعرج قليلاً على الموضوع الفلسطيني… رغم التاريخ الشائك للعلاقة بين ’منظمة التحرير‘ و’السلطة الفلسطينية‘ مع النظام السوري، إلا أن المواقف الصادرة من رام الله وأقطاب الطبقة السياسية الفلسطينية تجاه الثورة السورية بشكل عام، وتجاه أحوال اللاجئين الفلسطينيين في سوريا بشكل خاص، تدعو إلى الحيرة! هل فاجأتك تلك المواقف؟ وما هو تفسيرك لذلك؟
الحقيقة أنني فوجئت بموقف قيادة ’فتح‘، فهذه الحركة ممنوعة منذ ثلاثة عقود من العمل في سوريا، ثم هي طوال تاريخها كانت في علاقة متوتّرة مع النظام السوري، حتى أنها اشتبكت مع دوره في لبنان في أواسط السبعينيات، وعانت من تدخلاته في الشأن الداخلي الفلسطيني، ومن دعمه للظواهر الانشقاقية فيها.
على أية حال، موقف الطبقة السياسية الفلسطينية، في ’المنظمة‘ و’السلطة‘ وسائر الفصائل، هو تحصيل حاصل. ذلك بسبب ترهّل الحركة الوطنية الفلسطينية، وتآكل دورها، واستهلاك مكانتها، فهذه لم تعد تلك التي كانت في الستينات والسبعينات والثمانينات مثلاً. فلقد تحولت هذه الحركة من كونها حركة تحرّر إلى سلطة، تحت الاحتلال، وهي في ذلك باتت أكثر من أي وقت مضى بمثابة نظام من الأنظمة العربية، مع أفول دورها الوطني، وفقدانها لأهليتها الكفاحية. المشكلة ان هذه الطبقة السياسية تنكّرت، أيضاً، لعذابات الفلسطينيين السوريين، ولم تُبدِ التعاطف معهم إلى الدرجة المناسبة، ولا سهّلت لهم، لا داخل سوريا ولا مع البلدان المجاورة التي نزحوا إليها بسبب الأحداث.
بالنتيجة فإن عدم رؤية ما يجري للسوريين في سوريا هو الذي حكم موقف هذه الطبقة مما يجري للفلسطينيين فيها أيضاً. كذلك، يمكن تفسير الأمر بضياع قوى اليسار، التي باتت تفتقد لملامحها المتميزة، ولهويتها الفكرية والسياسية، فهذه القوى لم يعد لها قضية، ولذلك فهي تعيش على عقلية المؤامرة، والدور الإقليمي لسورية، وتنسى أن ثمة هنا نظاماً استبدادياً ووراثياً، وأن ثمة شعباً في سوريا. أخيراً، يمكن تفسير ذلك بما يسمى فوبيا التيارات الاسلامية، وعقدة الصراع بين حركتي فتح وحماس، فهذه المسألة، أيضاً، لعبت دوراً مهماً في الموقف السلبي للطبقة السياسية الفلسطينية من الثورة السورية، ولا سيما مع المبالغات الرائجة بشأن صعود دور الجماعات الإسلامية المسلحة فيها.
مع مضيّ الثورة السورية، هناك مؤشرات على بروز قوى شبابية فلسطينية-سورية انعكست في جهود مدنية، إعلامية وإغاثية، خاصة في الفترة السابقة على الحصار الشامل لمخيم اليرموك، وكنت أنت أحد متابعيها وداعميها. هل تعتقد بأن الثورة السورية عكست أيضاً أزمات جيل الشباب الفلسطيني للانعتاق من أحمال السلطة «الأبوية» التي عزّزها جيل اللجوء الأول سياسياً واجتماعياً؟
فعلاً. شيء مدهش أن هذه الثورة، رغم الإمكانيات البسيطة، والعذابات والتضحيات، استطاعت أن تفجر كل الطاقات، وقد كشفت الطاقات المختزنة لدى هذا الجيل من الشباب في سوريا، وضمنه الشباب الفلسطينيون في مخيمات اللاجئين في سوريا، الذين أثبتوا ذاتهم، وتبيّنوا قدرتهم على تجاوز القيادات المهيمنة، التي انكشف عجزها وتخاذلها وفواتها التاريخي.
قد يكون من المبكر الحديث عن تطوّر أو تبدل ما طرأ أو يطرأ على مفهوم «الهوية» لدى المنتفضين السوريين، في نزعة واضحة للتخلص من إرث إيديويوجي عمل على تكريسه النظام، بالإضافة إلى عوامل أخرى لا يسعنا الحديث عنها هنا. سؤالي: هل تعتقد بأن الفلسطينيين في سوريا يواجهون سؤالاً هوياتياً ما؟ ما تفسيرك لهذا الانتقال من «فلسطيني» إلى «فلسطيني-سوري»، على المستوى اللغوي على الأقل؟
أعتقد أن السوريين اكتشفوا، خلال الثورة، هويتهم، القائمة على التعدد والتنوع، والتي طمسها النظام بشكل تعسّفي لإضفاء نوع من الشرعية على نظامه المتأسّس على الاستبداد والفساد. في الواقع لا يمكن لك التحدث عن هوية قومية، أو عربية، مع طمس الهويات الفرعية، أو الهويات الكامنة، أو الخصائص المختزنة، لدى فئات أي مجتمع، لأن الهوية الجمعية هي محصلة لتلاقح كل هذه الهويات، كما يفترض. وهكذا فإن حديث النظام عن هوية قومية مجرد ادّعاء، وأيديولوجيا، لحجب الحكاية الأساسية، القائمة على منع قيام المواطن، كشخصية سياسية وقانونية، ومنع قيام المجتمع أو الشعب، إذ لا يمكن الحديث عن مجتمع بدون مواطنين أحرار ومتساوين، وبالطبع فهذه قصة أخرى غير مسألة الديمقراطية.
أما التأزّم الهوياتي عند الفلسطينيين فهو لا ينبع مما حصل في سوريا فقط، إذ هو ينبع أيضاً من اختزال القضية الفلسطينية بمجرّد قضية قيام كيان سياسي لجزء من شعب على جزء من الأرض؛ وينبع من أفول ’منظمة التحرير‘ وتراجع دور اللاجئين في العملية الوطنية. هذا كله أدى إلى تصدع مفهوم الهوية الوطنية، وتفكك الشعور الجمعي لدى المجتمعات الفلسطينية، مع صعود اولويات وحاجات مختلفة لمجتمعات الفلسطينيين في كل بلد. أما مسألة فلسطيني-سوري فهي تعبير عن مسألتين، أولاهما الشعور بالاعتزاز بالانتماء لسوريا الثورة، أي ما بعد الأسد؛ وثانيهما تعبير عن ردة فعل، أو غضب، إزاء التنكّر الحاصل من قبل الحركة الوطنية الفلسطينية لما يجري في سوريا، وضمنه ما يجري للفلسطينيين السوريين.
بالنظر إلى تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، كان الحامل الثقافي مسايراً للدور السياسي ومتداخلاً معه: شعراء، فنانين، كتاب، مفكرين…، ساهموا في كتابة ومسايرة اللحظات العصيبة في تاريخ اللجوء الفلسطيني. يلاحظ غياب «شبه» تام لصوت المثقف الفلسطيني تجاه ما يتعرّض له الفلسطينيون في سوريا على يد النظام السوري وحلفائه المحليين. لماذا وكيف ترى دور المثقف في ما يحدث؟
أعتقد أن المثقفين جزء من المجتمع، وجزء من المجتمع السياسي، لذا فإن المثقفين يتوزعون على مختلف الأطياف في الموقف من الثورة السورية. عموماً، هذه الثورة جدّ معقدة، كما ذكرت سابقاً، وثمة مشكلات كبيرة فيها، وهذا يعني أن ثمة قطاعات واسعة تقف مع مطلب السوريين بالحرية والكرامة والعدالة، ولكنها أيضاً تتخوف مما يجري، ومن الآتي، ولا سيما مع تصدير بعض الجماعات المتطرفة في المشهد الإعلامي.
لا نعرف إن كان الطور الحالي للثورة السورية يدشّن فترة «المفاوضات السياسية» بمفهومها البراغماتي العام. للفلسطينيين ممثلين بـ’منظمة التحرير‘ وبـ’السلطة‘ تاريخ «إشكالي» في مسألة المفاوضات مع الإسرائيليين. هل هناك مجال للمقارنة بين الواقع السوري والواقع الفلسطيني؟ وهل يمكن لقوى المعارضة السورية الإفادة من تجربة الفلسطينيين بشيء ما؟
من جهتي لا أعتقد أن ثمة أي وجه للمقارنة بين الوضعين.
أما بالنسبة لدخول السوريين في مفاوضات، فأعتقد أن هذا أمر يدخل في صلب العملية الصراعية ذاتها، والعنوان هنا معروف وهو التخلص من النظام، وتشكيل هيئة حكم انتقالية، وثمة هنا قرار من ’مجلس الأمن‘، ودول كبرى تدعم ذلك. السوريون مطالبون بالتجاوب مع هذه العملية طالما أنهم لا يستطيعون إسقاط النظام بجهدهم الخاص، وطالما أنهم بحاجة لدعم المجتمع الدولي، وإن من دون أوهام، ومن دون أن يوقفوا ثورتهم. من المهم برأيي مسايرة هذه العملية، للاستفادة منها كمنبر إعلامي، وكمحطة لجلب التأييد الدولي، وأيضا لتمكين الثورة من خلق طبقة سياسية سورية، أو قيادة سورية للثورة. عموماً، لا ينبغي للثورة السورية أن تعارض أي جهد دولي لإنهاء النظام، ولو كان جهداً سياسياً أو دبلوماسياً. دعوا النظام يرفض! شاركوا في «المفاوضات» واطرحوا شروطكم على الطاولة.
عمل النظام على مدى عقود، وأسوة بما فعله بالسوريين، على سياسة «التصحير» السياسي، في ظل انعدام شبه كامل لأيه نشاطات سياسية خارج التوجه العام لعلاقة النظام مع الفصائل الفلسطينية الموالية، سواءً داخل المخيمات أو خارجها. السؤال هنا: هل يمكن لهذا التغيير الشامل الذي توحي به الثورة أن تعيد إحياء فكرة الحق العام بالمشاركة السياسية للفلسطينيين في سوريا؟
هذا هو المأمول. ذلك أن استعادة السوريين لحرياتهم، ولحقهم في المشاركة السياسية، لا بد أن ينعكس أيضاً على مجتمع الفلسطينيين في سوريا. أقصد ان ما هو جيد للسوريين، كل السوريين، هو جيد للفلسطينيين. لذا فإن قيام دولة المواطنين الأحرار والمتساوين، والتأسيس لنظام ديمقراطي في سوريا، لا بد أن يعكس نفسه على الحراكات السياسية للفلسطينيين في مخيمات اللاجئين فيها، كما لا بد أن ينعكس إيجابياً على إدراكاتهم لهويتهم الوطنية، وشكل علاقتهم بحركتهم الوطنية، وعلى دورهم، ومكانتهم، في إطار هذه الحركة، وفي إطار الصراع ضد المشروع الصهيوني، لاستعادة حقوقهم الوطنية المشروعة، وضمنها مواصلة النضال من أجل حقهم في العودة.
عودةً إلى بعض التفاصيل فلسطينياً… كما رأينا فقد أفرزت الثورة السورية تشكيلات مجتمعية عديدة وهائلة سياسياً وعسكرياً ومدنياً (من ’لجان التنسيق المحلية‘، إلى كتائب ’الجيش الحر‘ وصولاً إلى ’المجلس الوطني‘ و’الائتلاف‘) – رغم اختلافها عن بعضها بشكل كبير. لماذا لا يوجد حتى الآن أية هيئة أو كيان سياسي فلسطيني يتماشى مع أهداف الثورة السورية بالمعنى العام، لا بل يطمح ليكون جزءاً منها؟ هل ترى حاجة لذلك؟
هذا ببساطة لأن السوريين كانوا ممنوعين من السياسة، والمشاركة السياسية، وبديهي أن هذا يشمل الفلسطينيين، أيضاً، منا حال دون تبلور أشكال سياسية عندهم، إذا استثنينا الفصائل، التي هي بمثابة سلطة أخرى، ناهيك عن ارتباط معظمها بالنظام، وبادعاءاته. ثمة حاجة لأشكال سياسية جديدة، وأكثر تعبيراً عن حاجات الفلسطينيين، وتمثيلهم، لكن الوضع الفلسطيني أكثر تعقيداً، ناهيك أن المجتمع الفلسطيني في المخيمات يعيش في هذه الظروف في حال كارثية، تصعّب أي عمل باتجاه البديل. مع ذلك ثمة ممهّدات واعدة في هذا الاتجاه، تتمثل بمبادرات يطلقها الشباب، وببعض التجمعات التي باتت تنشأ، وتنمو، في المخيمات، وفي أماكن اللجوء والشتات، والتي نرى تجلياتها عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ومن خلال بعض التظاهرات الجمعية، في العالم وفي الأراضي المحتلة، وفي مخيمات اللاجئين في سوريا وغيرها، لشرح معاناة الفلسطينيين والسوريين، والتضامن معهم، ومع مطلب الحرية عندهم، وهي مبادرات تتضمن أيضا معنى البحث عن البديل في السياسة الفلسطينية.
مأساة المخيمات وتدميرها، فضلاً عن التداعيات الخطيرة التي خلفتها أزمة اللجوء الفلسطيني-السوري الحالي، أو ما بات يعرف بـ«النكبة الثانية»، أفرزت مجدداً أزمة «التمثيل السياسي» للفلسطينيين. هل نحن على موعد مع مرحلة جديدة يكون للفلسطينيين السوريين مراجع ذاتية للتمثيل، بعيداً عن الدور التاريخي لـ’منظمة التحرير‘؟ هل هذا ممكن؟ وكيف سينعكس تطور كهذا، فيما لو حدث، على العلاقة مع السلطة الفلسطينية في رام الله؟
كما قلت، من المبكر الحديث عن كيفية تحقق ذلك، لأن ذلك مرهون أصلاً بمآلات الوضع في سوريا، مع التأكيد على أن مجمل الوضع الفلسطيني يحتاج إلى إطارات سياسية جديدة، وبديلة، وأكثر تعبيراً عن مصالح الفلسطينيين، وأكثر تمثيلاً لهم، على أن تكون ديمقراطية ومؤسسية ونضالية.
بالمناسبة، هل مازال هناك «مجلس وطني فلسطيني»؟
هذا موجود، بالشكل، لكن ليس له أية فاعلية، ناهيك عن أن ’المجلس الوطني‘ بات متقادماً، إن بمعناه السياسي، أو بمعنى أعمار أعضائه. وفي العموم فإن ’منظمة التحرير‘ اختفت، أو تكاد، وهي لم يعد لها أية فاعلية بعد إقامة كيان السلطة في الضفّة الغربية وغزّة. المعنى أن الفلسطينيين بحاجة إلى مجلس وطني جديد، يستطيع إعادة تفعيل منظمة التحرير، ويستطيع أن يكون أكثر تمثيلاً للفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم.
قد تكون تجليات المسألة الطائفية في المجتمع الفلسطيني-السوري هشّة لأسباب عديدة، ولكن هناك ندرة في التحليلات التي تتناول توجهات الفلسطينيين في سوريا، في ظل خيارات الأسلمة وبروز جماعات الجهادية السلفلية والقاعدية في الشمال والشرق. ماهي توجهات الفلسطينيين بشكل عام؟ هل هناك مساحة للانخراط خارج واقع التجويع والحصار؟
لا يوجد مسألة طائفية عند الفلسطينيين، ولا فكر سياسي طائفي، وليس ثمة في التاريخ ما يشكّل عبئاً في هذا الموضوع. وبالنسبة للفلسطينيين في سوريا، فهو أكثر التصاقاً بالهوية الوطنية، كما عبّرت عنها ’حركة فتح‘، بغض النظر عن تقييمنا لواقع تنظيمها في سوريا، أو رأينا بالخيارات التي تنتهجها. وعلى حد علمي فإن مجتمع الفلسطينيين في المخيمات لم يُعانِ من نشوء جماعات إسلامية متطرفة، وإذا كان ثمة حالات فهي مجرد حالات فردية، وليس لها حجم وازن، علماً أن ’حركة حماس‘ هي حركة وطنية وإسلامية.
مثلما تفاجأ السوريون بوجود قرى وبلدات في وطنهم لم يكونوا يعرفونها من قبل، مثل «تفتناز» و«داعل» و«كفرنبل»، هل تشعر بأنهم تفاجؤوا أيضا بأن هناك مجتمعاً فلسطينياً في سوريا لم يكن على تلك الدرجة من الوضوح في الوعي السوري عموماً؟
أبداً. أعتقد ان الطيف الأكبر من السوريين كان يعرف عن المجتمع الفلسطيني في المخيمات أكثر مما يعرف عن تفتناز وداعل وكفرنبل، بسبب تواجد المخيمات في المدن الرئيسية، وبحكم حيوية المجتمع الفلسطيني، وانخراطه أفراده في الحياة العامة، كحرفيين أو كطلاب أو كأساتذة جامعات أو كمهندسين وأطباء أو ككتاب وفنّانين، ناهيك عن علاقات العمل والتزاوج والصداقات.
ماجد كيالي، كاتب ومثقف نشيط على الفيسبوك، ينشر أسماء وصور الشهداء ويعلق على الأحداث، يبدي امتعاضاً من هنا وآخر من هناك، ينقل تفاصيل حصار المخيم، ويكرم أصدقائه الفسابكة باللايكات. سؤالي لك: هل فرضت وسائط التواصل الاجتماعي نمطاً ما على المثقف؟ أم هي جزء من بيئة تواصلية أوسع أعطت للكاتب مساحة أكبر لنشر الأفكار أيا كانت؟
هي كل ذلك. فهي مساحة أخرى للتعبير عن الهمّ السياسي أو الفكري، وهي مساحة أكبر للبوح بالمشاعر الإنسانية، التي لا يمكن البوح بها في المقالات أو الدراسات، وهي أيضاً مجال للتفاعل والتواصل مع الآخرين، وهذا مهم جداً. في السابق كنا نكتب، ونعرف ردّات الفعل عما نكتب من خلال الأصدقاء أو المعنيين، لكن عبر الفيسبوك باتت معرفة ردات الفعل أو درجة التأثير أكبر، وأوسع. هناك ناحية أخرى، ولها خصوصية في ظرفي في هذا البعد، ومع حالة العزلة في الغربة، كان يشكل التواصل عبر الفيسبوك نوعاً من التعويض، وهو سدّ ثغرة كبيرة، ولا أعرف من دونها كيف كان يمكن لي قضاء كل هذا الوقت في العزلة، ولا سيما مع كل هذه الأحداث التاريخية، أو كيف كان يمكن لي أنأاعبر عن مشاعري إزاء كل ما يجري.
منذ أيام احتفل أصدقاؤك بعيد ميلادك الستين. ماذا يبلغ المرء عند الستين؟
القصة ليست على هذا النحو، إذ الوضع لا يسمح لا بالاحتفال ولا بالاحتفاء. إنه أيضاً الفيسبوك الذي يكشف بعض خصائصنا، هكذا كتب أحد الأصدقاء عن هذا اليوم، وتبعه صديق آخر، ما فتح موضوع هذه المناسبة. طبعاً كانت مشاعر الأصدقاء، مهمة جداً لي، وعزيزة عليّ، في هذا الظرف، وهذا العمر، فهذه نقلة ليست من سنة إلى سنة، وإنما من عقد إلى عقد. بالنسبة لي كانت هذه مناسبة لتذكّر بعض المحطات في حياتي، بحلوها ومرّها، بآلامها وآمالها… وهكذا.
من هذه المحطات أنك لم تعد «فلسطينياً» وإنما «فلسطيني-سوري». أشكرك جزيل الشكر أستاذ ماجد، ولك مني كل التحية.
شكراً جزيلا لك، ولموقع «الجمهورية» الذي أتابع باهتمام ما ينشره منذ البدايات. آمل للسوريين تحقيق أمانيهم، وللموقع مزيداً من النجاح.