مناقشة الثورات التي قامت على أنظمة الاستبداد باستخدام فقه «الخروج على الحاكم» كان ديدن علماء السلطة وقسم كبير من المنضوين تحت مظلّة التيار الصوفي.

لتفسير فشل هذا الخطاب في الإقناع، يمكن أن نعمد إلى استخدام أداتين: الأولى مشتقّة من علم اجتماع الدين وتوضّح تحت أي صنف يندرج هؤلاء، والثانية مأخوذة من علم التسويق السياسي –وهو علم مشتقّ من التسويق التجاري ويعنى بتسويق البرامج والرؤى والأفكار والشخصيات السياسية– وتوضّح نوع هذا الخطاب (المنتج السياسي) الذي حاولوا من خلاله تسويغ الوضع القائم ونقطة الضعف التي يعاني منها كمنتج سياسي.

من المعلوم أن ثلاثة نماذج تترافق مع كل دين:

النموذج الأول هو الروّاد وهم مؤسسو هذا الدين.

والثاني هو الأمناء، وهم الذين يعنى علم الاجتماع بدراستهم لأنهم نتاج وسط اجتماعي، على عكس الروّاد الذين يُعتبرون منتجين لهذا الوسط.

والنموذج الثالث هو المستهلكون، وهم الناس الذين يبحثون في المقدّس عن نتاجات تُشبِع حاجات كالأمن والسكينة والفضول، والاتصال بالمُطلق.

علماء السلطة والصوفيون –على العموم– ينتمون إلى النموذج الثاني، وهو نموذج معنيّ بإشباع حاجات المستهلكين أولاً، وبتسويغ الوضع القائم ثانياً.

بالطبع ليس التحليل هنا للتصوّف كمنهج له دور أكبر بكثير من الدور الذي يضطلع به المحسوبون عليه في ظروفنا، بل إن الصوفيين في بعض الديانات التاريخية الكبرى كانوا من الروّاد وليس الأمناء.

تسويغ الوضع القائم بالنسبة لهؤلاء الأمناء لا مهرب منه، لأنهم يعيشون على الديانة، ليس بالمعنى المبتذل الذي يشير إلى الانتفاع المادي، ولكن بمعنى أن وجودهم مرتبط بإعادة إنتاج الديني بالشكل المتوافق مع حاجات الناس الننفسية، وبما يتوافق مع المؤسسات القائمة.

ما ذكرناه آنفاً عن الأمناء وأدوارهم يمكن أن يكون مقبولاً بدلالة مدى قدرته على إشباع حاجات نفسية عميقة أشرنا إليها، ومن هذه الحقيقة يمكن اجتراح فهم ضآلة دورهم وضعف موقفهم، وانعدام تأثيرهم في ظروف الربيع العربي، لأنهم لم يستطيعوا سبر أي حاجات كامنة للمستهلكين، وبالتالي لم يتمكّنوا من إشباعها عندما تحولت من القوة إلى الفعل، ومن الكامن إلى الظاهر.

هذه الحاجة التي يمكن أن يكون الدينيّ في الأساس أحد نتاجاتها هي القصور الوجداني الذي يتمثّل في الشعور بالتعاسة وانعدام الأمن الوجوديين وليسا المتموضعين.

وعلى محكّ معايير التسويق السياسي يمكن وضع الخطاب الذي قدموه. إذ يصنّف المنتج السياسي وفقاً لمعايير التسويق السياسي إلى ثلاثة أصناف:

منتج سياسي مرن، وهو كاريزما السياسي ومظهره الخارجي، ويعنى به علم نفس الشكل )الجشتالت Gestalt)، وهو مرن لأن التحكم فيه ممكن.

ومنتج سياسي شبه مرن، وهو البرنامج أو الرؤية التي يقدمها السياسي، وهو أكثر ممانعة للتحكم فيه وتغييره من الأول.

ومنتج سياسي صلب، تمثله الأيديولوجيا التي يحملها السياسي ويحاول تسويقها، وهي عصيّة على التحكم بها.

الخطاب الذي يقدّمه الأمناء بحكم طبيعته لا ينفصل عن الأيديولوجيا، وإذ استخدمنا التصنيف المأخوذ من التسويق السياسي نستطيع القول إنه منتج سياسي شبه مرن مغلّف بغلاف قوامه منتج صلب، منتج سياسي بلبوس ديني.

ولا ضير في ذلك لو كان قادراً على تلبية حاجة من حاجات المستهلك المقصود، ولكن المشكلة أن المحتوى السياسي للمنتج المغلّف بغلاف مستجلب من وراء سُجُف القرون يجعل مروره في قناة الاتصال بين المنتج والمستهلك أمراً بالغ الصعوبة، فعدا عن صلابة الغلاف، ثمة نفور منه وصدود عنه كبيران، لأنه يعجز عن الاستجابة للحاجة الراهنة.

وثمة نقطة ضعف قاتلة في هذا المنتج الذي يقدمه الأمناء، إضافة إلى ما ذكر، هو ضعف مصداقيته. وضعف المصداقية كامن في الانتقائية التي تم إنتاجه بها. وهذه الانتقائية تتمثل في إغفالهم لموقف وسلوك علماء كبار ومن أصحاب المذاهب الأساسية أبرزهم أبو حنيفة النعمان الذي لم يتبنّ هذا الموقف وأيّد كل الثورات التي خرجت على حكم بني أميّة وبني العبّاس، ليس على اعتبار أنهم كفار ولكن على اعتبار أنهم استولوا على السلطة بانقلاب وحوّلوا الخلافة إلى ملك عضوض.

مصطلح الحاجة الكامنة الذي استخدمناه آنفاً، والمأخوذ من علم التسويق، ذو قدرة تفسيرية على تفسير فشلهم وفقدان دورهم.

لم يواكب هؤلاء نتائج الظلم والغيّ والتجبّر الذي مارسته الأنظمة المستبدّة على الإنسان، الذي صار يفقد مصدر رزقه في لحظة بسبب إرادة مسؤول فاسد، أو يصبح كهلاً بدون أمل في أن يؤسّس أسرة، وفي أحيان كثيرة جداً ينقضّ عليه الموت في سنّ الشباب بسبب الضغط المعاشيّ وفقدان الأمل.

إسراف أنظمة الاستبداد في عسفها وغيّها وفسادها بدون أي اكتراث بالإنسان جعل من طرق إشباع الحاجات التي يقدمها الأمناء المشار إليهم غير وافية بالغرض، لأن التعاسة تجاوزت حالتها المتموضعة وتحولت إلى تعاسة وجودية، قلق وجودي، وهو ما جعل استغلالهم للحقل التداولي المشترك بينهم وبين المستهلكين غير مُجدٍ في ظلّ تخلّق الحاجة الكامنة إلى الأمن الوجودي –وما يستلزمه من حرية سياسية واجتماعية– في رحم أنظمة الاستبداد، وتحوّلها من القوة إلى الفعل.

فشل مضاعف عانى منه أمثال البوطي وحسون وغيرهما:

فشل في التصميم، عندما قدّموا محتوىً سياسياً يتمثّل في الاصطفاف إلى جانب المستبدّ لأنه ضامن الأمن والاستقرار وكان محتوىً غير قادر على تلبية القصور الوجداني الذي أصبح معاناة وجودية؛ كما فشل في التغليف، باستخدام غلاف عتيق قوامه فقه الخروج على الحاكم بدون تبصّر لا بالحاجات ولا بتغيّر أذواق المستهلكين ولا بإدراك المستهلكين المتنامي للانتقائية التي يمارسونها في تصميم منتجاتهم عندما يصدرون حكماً فقهياً ويغفلون حكماً آخر مناقضاً له، الأمر الذي يفقد منتجهم مصداقيته ومن ثم قدرته على الٌإقناع، وهي إحدى نقاط الضعف القاتلة للمنتج السياسي.