سجّل ربع القرن الأخير تراجعاً مطّرداً في الأبعاد الفكرية والقيمية للسياسة في سوريا، ممارسةً ومفهوماً وهياكلَ، بالتوازي مع الحجْر السياسي على المجتمع السوري وتضاؤل مساحات التفكير والنقاش العام في البلد. المجتمع السوري سُحِق بقدر لا يضاهيه بين البلدان العربية غيرُ ما أصاب المجتمعين العراقي والليبي. واستقرّت السياسة في البلدان الثلاثة على ركيزتين: القوة من جهة، والعصبية من جهة ثانية، مع إلغاء الصفة العامة للسياسة ومنع عموم السكان من التدخل فيما صارت شؤوناً داخلية خاصّة بالحاكمين.

طوال عقود، جمع النظام الأسدي بين سياسة القوة وسياسة العصبية، التوسّع في استخدام العنف ضد المحكومين وتمزيق صفوفهم بحيث لا يشكّلون مجتمعاً ولا يتضامنون فيما بينهم أو يتبادلون الثقة، مع الاستناد إلى عصبية حكم تعطي النظام عمقاً وجودياً. المقاومات التي وُوجهت بها هذه السياسة في عقود سابقة حُطّمت، أما المقاومات التي تستند إلى المزيج ذاته من القوة والعصبية فتجازف بأن تعيد السيرة ذاتها. هذا يبدو محققاً منذ الآن في مناطق متعددة خارجة على سيطرة النظام.

هذه المقالة هي الأولى في سلسلة من المقالات تحاول أن تتقصّى وضع السياسة ومفهومها في فترة ما قبل الثورة السورية وأثناءها، مع التطلع إلى تصور جديد.

* * * * *

حين استولى حافظ الأسد على السلطة عام 1970، كان هناك 3 تيارات فكرية وسياسية واضحة الملامح: القومية العربية بصيغة بعثية أو ناصرية، وهي تجمع بين «الاشتراكية» وبين التطلّع إلى كتلة عربية وازنة، أي بين تغيير الواقع الاجتماعي باتجاهات أكثر عدالة وبين تغيير الواقع الجيوسياسي للمنطقة باتجاهات أكثر استقلالية؛ والشيوعية، وهي تتطلع نحو اشتراكية أكثر جذريةً، ونحو «مواجهة الإمبريالية» في المنطقة والعالم، وتضع نفسها في مواقع قريبة من الاتحاد السوفييتي وكتلته آنذاك؛ ثم الإسلامية في صيغة إخوانية تحديداً، وهي تتطلع إلى دور أكبر للإسلام في الحياة العامة، قبل أن تستقرّ في ثمانينات القرن العشرين على فكرة «تطبيق الشريعة»، أو تُزايد بعض تياراتها على نفسها وغيرها بفكرة «الحاكمية الإلهية».

نظام حافظ دمّر الثلاثة، الأولى بالتدجين أساساً، وقد أظهرت هي استعداداً طيباً له؛ والثانية بمزيج من التدجين والتحطيم، أي بـ«الجبهة الوطنية التقدمية» وبالسجون؛ والثالثة بالتحطيم أساساً: السجون والمجازر. تحطيم الإسلاميين كان بدأ قبل ذلك، منذ أيام الحكم البعثي الأولى.

في ثمانينات القرن العشرين، بعد اندلاع أول موجة من الفاشية الأسدية، وقد بلغت الذروة في حماه 1982، اجتمع تحطيم القوى الثلاثة مع فراغ سياسي وفكري شامل. أكثر من أنه جرى سحق المجتمع والسياسة في سوريا، لم تكتب سيرة هذا السحق أو حتى أطراف منها، ولم يُمثِّل السوريون محنتهم فكرياً. كتاب واحد حاول تمثيل المأساة: «الدولة البربرية» لميشيل سورا. الكاتب الفرنسي قُتِل بعد خطفه في لبنان، بسبب موادّ كتابه على الأرجح. وفقط بعد أكثر من عقدين بدأت تُكتب نصوص سياسية وأدبية وفكرية تحاول استعادة جوانب مما جرى.

ليس بقدر ما يلزم، وليس على نطاق يضع أمام السوريين سيرة ماضيهم القريب المكبوت. كان من شأن ذلك أن يتيح لهم درجة أكبر من الإحاطة بأوضاعهم السياسية وقدراً من التمرّس بالمشكلات والتحديات التي تواجههم.

لم يحصل.

* * * * *

دخلنا الثورة في ربيع 2011، واندلعت فوراً موجة جديدة من الفاشية، دون أن يكون المجتمع السوري امتلك شيئاً من تجربته الماضية، أو أجرى كشف حساب للمرحلة السابقة، أو جرى حدّ أدنى من النقاش الجدي في شأنها من قبل المثقفين السوريين أو الناشطين السياسيين الذين كانوا في السجون. تجربة المنتديات تعرضت لحصار مبكر، ولم تعش كفاية كي تستذكر التجربة المرة.

وعلى كل حال، وُوجهت مساعي التذكر ودعوة «المصالحة الوطنية» التي طرحها في حينه معتقلون سابقون بالتشكك والعداوة، من قبل النظام أولاً، لكن أيضاً من قبل معارضين آخرين (غير قليل منهم معتقلون سابقون أيضاً!). كانت سياسة النسيان شريكاً للقوة وللعصبية في منع عموم السوريين من تمثيل أنفسهم ورواية حكايتهم، ومقياساً لنجاح سياسة القوة/العصبية في تشكيل تفكير السوريين تجاه بعضهم. سياسة النسيان تخشى الذاكرة، ولا تريد استرجاع سير المجازر والاعتقال والتعذيب والموت خوفاً على «الوحدة الوطنية». لا يطرح السؤال عن قيمة وحدة وطنية تستبطن المجازر والتعذيب؟ أو عن معنى أي كيان وطني لا يقوم على الحرية، حرية كل الأفراد والجماعات؟

اليوم، يلزم القول بوضوح إن التطلع الأولي للثورة السورية هو تحطيم الدولة الأسدية، سلالةً وأجهزةً وأيديولوجيا، بوصف هذه الدولة كيان استعباد قائم جوهرياً على استتباع السكّان، وعلى عداوة متأصلة للحرية والعدالة، ولا تدوم إلا بالعنف والكراهية. لا قيام لسوريا دون ذلك. ولأن معنى الثورة السورية هو الصراع من أجل امتلاك السياسة وتقرير المصير، فإنه حَوْلَ واجب تحطيم دولة الاستعباد الأسدية من جهة، وحول معنى تحرّر الجمهرات وتملّكها للسياسة من جهة أخرى، يمكن ويجب أن تتشكل أية حركات تحررية جديدة في سورية.

لا يبدو هذا خارج أفق «معارضين» مفترضين فقط، بل يبدو أن النظام وجد ركائز لهيمنته في صفوف هؤلاء المعارضين. هذا نجاح كبير قلّما يجري أخذه بالحسبان عند التفكير في مصادر قوة النظام الأسدي. هناك من يشاركون النظام تمثيله لسوريا (نسيان المجازر والسجون وحماه وتدمر، نسيان التوريث بوصفه أكبر نكوص سياسي واجتماعي أصاب سورية منذ استقلالها، رفض التفكير في الطائفية ومناقشتها، اتهام خصوم النظام الجذريين بأنهم «حاقدون»)، هذا مع قبول خرافتَي «الوحدة الوطنية» في الداخل و«الممانعة» في الخارج. الأمر عند قطاع من هؤلاء المعارضين يتجاوز النسيان إلى الاشتغال كلاب حراسة للتابوهات ذاتها التي يفرضه االنظام: تحديداً الطائفية والمجازر، أي عملياً ركنَي سياسة النظام. تتفاوت التخريجات الأيديولوجية التي تُساق لتسويغ ذلك، تُمتح غالباً من عتاد شيوعي وقومي عربي رثّ، لكنها فعّالة بقدر لا يقلّ عن المخابرات في منع قيام نقاش جدّي لهذه الشؤون، مع توجيه الشراسة والعداوة دوما وحصراً ضدّ خصوم النظام الأكثر راديكالية.

ذلك ليس تفكيراً متهافتاً يجانبه الصواب في الوصول إلى الغاية النبيلة ذاتها، إنه تمثيل سياسي متواطئ لسورية بلداً ودولةً ومجتمعاً، وليس معادله السياسي غير النظام الأسدي حصراً، أو في أحسن الأحوال نظام أسدي بلا أسد. هذا ليس خافياً تماماً على بعض هؤلاء الحرّاس الأيديولوجيين.

من قدري جميل الذي شارك في الحكومة أثناء الثورة وأراد أن يُعتبر معارضاً في الوقت نفسه، إلى «تيار بناء الدولة» إلى «هيئة التنسيق الوطني»، المشترك هو التشكّك في الجدارة المبدئية والنهائية للسكان بالحرية الآن، دون اشتراطات ودون غمغمة. لاءات هيئة التنسيق (لا للطائفية لا للعنف لا للتدخّل الخارجي) وُجّهت ضدّ الشعب الثائر، وليس ضدّ النظام. الواقع أنها انتُحِلت من إجماع بلورَته نقاشات الفترة الباكرة من الثورة، وسقطت منها اللاء الأهم: لا للنظام! هذا الإجماع تفكّك بعد حين تحت وطأة عنف النظام، لكن الجماعة ثابروا على توجيه نصل اللاءات الحادّ نحو الثورة حصراً.

ينبغي القول إن جذع المعارضة السورية، ذا الأصول الشيوعية والقومية العربية، أي الجميع عدا الإسلاميين، شريك في هذا التكوين المتواطئ ضد الذات. جرى في سنوات ما بعد 2000 نقد للنظام وتكوينه وأيديولوجيته، لكن ليس بالجذرية ولا بالاتساق الكافي. لم نستطع، وأنا شريك في الأصول وفي تحمّل المسؤولية عن هذا الوضع الفكري السياسي، لا الانفصال الجذري عن النظام ولا بلورة مفاهيم مختلفة للسياسة والهوية والمجتمع والثقافة (والمثقف، والحزب السياسي، والمواطن، والوطن، والدولة…)، ولا تقديم رواية مختلفة عن محنة بلدنا وتمثيل مغاير له. هذا يعني عملياً أننا لم نحقّق استقلالنا الفكري والسياسي الفعلي كقوى اجتماعية وسياسية سورية حيّة.

هذا ليس للتقليل مما تحقق منذ أيام «ربيع دمشق» حتى بداية الثورة، فلقد دشّنت ممارسة نقدية، وتوسّعت قاعدة التفكير في الشؤون العامة نسبياً، ورُوِيَت جوانب من سيرة البلد في العهد الأسدي والبعثي، لكن لم ينجز شيء نوعي على مستوى التفكير والنقاش ولم يتحقق اختراق مهمّ على مستوى الاحتجاج والفاعلية السياسية. كُتبت أشياء وقيلت أشياء كثيرة في السنوات المنقضية، ساعد على ذلك الثورة في مجال وسائل الاتصال، لكن لا يكاد يوجد شغل فكري جدي أو توليد لمفاهيم ومعانٍ جديدة. المفاهيم تقوّي شخصية الخبرة، بدونها تبقى الخبرة شيئاً ضعيفاً عابراً يتآكله النسيان. جرت كذلك احتجاجات علنية جمعت عشرات في كل مرة، لكن تعذّر كسر الطوق النخبوي الذي ظلت نشاطات المعارضين الأكثر إخلاصاً أسيرةً له.

لا يكفي القول إن الظروف لم تكن مساعدة. لم تكن مساعدة فعلاً، لكن يبدو لي أننا افتقرنا إلى الشجاعة الفكرية وإلى الخيال والإبداعية الكافيين لابتكار أفكار ومقاربات وطرق عمل جديدة. وبينما لا داعي للتأسف على ما فات، فإن قفزة في التفكير والعمل وحدها من شأنها نقلُنا إلى مواقع مؤثّرة في الطور الحالي من صراعنا. لسنا مخطئين عموماً في تشخيص مشكلاتنا وأصولها وتفسير أوضاعنا، لكن ما هو أكثر إلحاحاً اليوم هو التجديد على مستوى التنظيم والحساسية ومناهج العمل. على مستوى إنتاج العقائد الجديدة وأنماط الحياة أيضاً.

دخلنا الثورة بقليل من الأفكار الجديدة، بأقل من السياسة الجديدة، بأقل من العقائد الجديدة.

هذا القليل مناسب للإسلاميين. تكوينياً الإسلاميون الحديثون والمعارضون مرتبطون بإخفاقنا في التجدّد، التجدّد السياسي والثقافي والاجتماعي. هذا «قانون» أساسي في تصوري: يكون الإسلاميون بوضع أحسن حين تتعثر مجتمعاتنا في صنع معانٍ وقيم وأشكال انتظام جديدة. لديهم مزيجهم الخاص من سياسة القوة والعصبية. وتبدو شروط الكفاف السياسي الأسدية مناسبة لهم، لأنهم يعيشون على كفاف فكري وقيمي هم الآخرون، لكن أصولهم الفكرية لا تتضرّر من هذا الكفاف لاختلاف منابعها، ولكونها أعمق جذوراً، وأقدر على التكيّف مع الأوضاع الصعبة.

* * * * *

رغم كل ذلك أظهر المجتمع السوري طوال شهور قدرة على المقاومة والإبداعية، سلمياً في البداية، ثم بمزيج من السلمية والسلاح، طوال 15 شهر كوجه مهيمن للثورة، ثم حتى اليوم كأشكال متنحّية، تواجه عدوين: النظام، المجموعات الإسلامية الفاشية، هذا فوق خذلان المعارضة التقليدية وتهافتها.

لكن مزيج العنف وسياسة الهوية الذي وُوجهت به الثورة كان مناسباً لما يشبهه، وتسبّب في تضييق المساحة الضيقة أصلاً لالتقاء روح التمرّد الشعبية مع أفكار وتجارب جديدة لمبادرين ومنظّمين جدد. اختطاف رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي آخر المؤشرات على تشابه بنيوي بين النظام وخصومه الإسلاميين في المزج بين القوة والعصبية، وفي الوضع المستحيل للتجارب والمبادرات المستقلة.

على مستوى آخر، يبدو أنه أثناء الثورة أعيد إنتاج الانقسام بين جمهرات كبيرة، لكن منعزلة عن بعضها، وبين المشتغلين بالشأن العام من ناشطين ومثقفين. بين الطرفين يحلّ قادة تشكيلات عسكرية ودينية صغيرة، أسديون صغار. كان النظام الأسدي اجتهد في صنع هذا الانقسام وبنى أهرامات من الأجهزة الأمنية والأيديولوجية لحراسته.

على هذين المستويين البنيويين، سياسة القوة والعصبية من جهة، والانقسام بين الجمهرات والفاعلين العامين من جهة، الثورة لا تزال أمامنا. نحن لا نتطلع إلى إبدال شكل من سياسة القوة والعصبية بشكل آخر، أو عنيفين طائفيين بعنيفين طائفيين مثلهم.

نحتاج إلى تفكير جديد في السياسة ينطلق من هذا الواقع، ويطوّر ردوداً فعّالة عليه.