«لا يولد القانون في الطبيعة، ولا عند المنابع الأولى التي يرتادها أول الرعاة، وإنما يولد القانون في خضمّ المعارك الواقعية والحقيقية، إنه يولد من الانتصارات والمجازر، ومن الغزوات التي لها تاريخها وأبطالها المرعبون، يولد من المدن المدمرة والأراضي المحترقة، يولد مع الأبرياء المشهورين الذين يحتضرون عندما يطلع النهار».

هذا المقطع، من محاضرة ألقاها ميشيل فوكو في الكوليج دي فرانس عام 1976، يحيل أيّ قارئ سوري اليوم إلى ما يجري في سوريا، ذلك لأنه ثمة معارك وانتصارات ومجازر ومدن مدمرة وأبطال مرعبون وأبرياء يحتضرون في مطلع كل نهار، وثمة شيء جديد يولد، قانون جديد يخرج من بين الأشلاء والدمار.

ومن «خارج» هذه الحرب، ثمة أشخاص وتيارات وأيدولوجيون، خارج الحرب وداخلها، يحاولون أن يضعوا أسس «قانون» يوقف هذه المجازر والمذابح ويضع الخطوط العريضة للقانون الوليد، وهنا بالضبط يصلح هذا المقطع رداً «طازجاً وراهناً» على محاولاتهم تلك، وهو نفسه ما سنبني عليه لشرح كيف أن هؤلاء الذين بعضهم «داخل الحرب» يطرحون رؤاهم من «خارجها» في الوقت نفسه.

بداية، لا مناص من الإشارة إلى أن «القانون» المقصود في محاضرة فوكو تلك (وهي واحدة من سلسلة محاضرات جُمعت لاحقاً في كتابه يجب الدفاع عن المجتمع)، ليس نصوص القانون التفصيلية، بل إنه «التنظيم والبنية التشريعية للسلطة»، إنه الدولة نفسها إذ تولد من الحرب، من الصراع على السلطة والثروة والحقوق. ليست الدولة وليدة عقد اجتماعي أو دستور، بل إنها هي وعقدها المؤسّس ودستورها، وليدة الصراع الذي لم يتوقف منذ أن ارتاد أول الرعاة منابع المياه الأولى بحثاً عن مزيد الثروة، والسلطة أيضاً.

يحاول النظام السوري وحلفاؤه تثبيت «قانون» الأسد، تثبيت «دولة» الأسد التي استباحت «السوريين» ثم أدمجت «وطنهم» في نفسها عبر عملية معقدة وطويلة حافلة بالدماء والدمار والصراعات، وليس ذا فائدة هنا أن نفنّد مرة أخرى الفشل الحتمي لمشروع الحفاظ على منظومة اقتسام السلطة والثروة على النموذج الأسدي، ذلك أنه حتى في حال انتصار النظام في الحرب، وهو ما يبدو مستحيلاً حتى الآن، فإن الحرب أفرزت قوانينها الجديدة التي لا مناص من التكيّف معها، لعلّ أبرزها حتمية إشراك «أبطال الحرب المرعبين» الجدد في الثروة والسلطة، وحتمية التخفيف من مركزية الدولة.

على أية حال، النظام الأسدي يبدو منفتحاً على تحولات كهذه رغم أنفه، إذ في الوقت الذي لا يعترف فيه النظام وأنصاره الأيديولوجيون بسلطة غير سلطته، فإن الحرب والدماء والمدن المدمرة تفرض قانونها خارج السياقات النظرية لحكم الأسد الشمولي – «اتفاقات الهدنة» في دمشق وريفها نموذجاً، وقبول النظام السوري غير المعلن بالإدارة الذاتية للأكراد أيضاً، وربما لا نبالغ إذا تحدثنا عن قبوله المؤقت غير المعلن بسلطة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على محافظة الرقّة.

فلندع نظام الأسد جانباً ولنتحدث عن مشاريع «الدولة» الجديدة التي يطرحها المعارضون اليوم. ثمة نموذجان فقط:

أولهما يتحدث عن الدولة الوطنية السورية المدنية الديمقراطية التي تساوي بين مواطنيها في الحقوق والواجبات في ظل نظام جمهوري «نموذجي» يمكن «تركيبه نظرياً» بالرجوع إلى أي كتاب مدرسي في القانون الدستوري والنظم السياسية.

وأما النموذج الثاني فإنه يتحدث عن «دولة إسلامية»، غير واضحة المعالم والأسس سوى أنها تقوم على مبادئ الشريعة الإسلامية «فقط» دون أي شرح أو تفصيل، ويمكن أن يُلحق به نموذج «الخلافة الإسلامية» المطروح من قبل داعش وغيرها، والذي بدأت تباشير نهايته الحتمية بالظهور قبل أن تضرب جذوره عميقاً في الأرض السورية، وفي دماء الضحايا وبيوتهم المدمرة.

النموذجان يفترضان ولادة «الدولة» بقانونها الجديد من خارج الحرب، من خارج دماء الضحايا وأبطال المعارك الحقيقيين، وربما يقال إن من الاستعجال مساواة النموذجين في «خارجيتهما»، إذ يذهب كثيرون إلى افتراض أن من أطلقوا الثورة السورية على شكل موجات ضخمة من التظاهر السلمي كانوا يسعون إلى دولة مدنية ديمقراطية، قبل أن يفعل السلاح والمال السياسي فعله، وهذا يجعل نموذج الدولة الإسلامية «خارجياً» ونموذج الدولة الديمقراطية «داخلياً» في هذه الحرب.

على النقيض من ذلك، ثمة من يقول إن الشعارات الإسلامية لم تفارق المظاهرات منذ انطلاقة الثورة، وإن أبطال المعارك وقادة الكتائب الثائرة على الأسد هم من يطرحون الدولة الإسلامية بديلاً عن نظام الأسد، وهذا يجعل نموذج الدولة الديمقراطية «خارجياً» تماماً، في مقابل الدولة الإسلامية التي هي الهدف المعلن لأغلب الثوار المسلحين.

أول ما يقال في كل هذا إن الحرب تُنتج «القانون» الجديد من موازين القوى بين الأطراف المتصارعة، من إرادة هذه الأطراف ومصالحها، هذا ما لم يُهزم أحد الأطراف هزيمةً ساحقةً تخرجه من كل قدرة على التأثير، وهو ما يبدو مستحيلاً تماماً في سوريا حتى لو انتهى الأمر بتقسيم البلاد، إذ ستبقى الكيانات الناشئة حبيسة صراع الإرادات والمصالح فيما بينها، وفيما بين حلفائها أيضاً.

ومن ثم، فإن أية رؤية خارج الفهم لموازين القوى والصراعات والتحالفات هي رؤية خارجيةٌ حتى لو حملها أولئك المقاتلون على الخطوط الأولى، أو أولئك القادة الذين يرسمون مسار المعارك. ذلك أن ما ينتج عن الحرب سيتأثر بإرادة المتصارعين، وبإمكانياتهم ومصالحهم وتحالفاتهم أيضاً، هذه الإمكانيات والمصالح والتحالفات التي كثيراً ما تأتي بالضد مع الإرادة، إرادة أصحابها أنفسهم.

إذا كانت الثورة قد نجحت في إسقاط نظام الأسد من حيث هو نظام مركزي يهيمن على السلطة والثروة في البلاد، فإنه يبقى طرفاً في الصراع، وطرفاً في إيقاف الصراع أيضاً، ذلك بصرف النظر عن الأشكال التي سيتخذها هذا «النظام» بما يمثله من شرائح ومراكز قوى وتحالفات.

ومن ناحية أخرى، فإن تصور شكل الدولة القادمة، شكل القانون الذي سيولد من هذه الحرب، هو من مهمات القوى السياسية والمثقفين والكتاب دون شكّ، وهو حق مشروع لهم أيضاً، إلا أن إلحاق هذا الافتراض بإخراج كل من يناقضه خارج الثورة ومن ثم حشره في خانة النظام من جهة، أو في خانة الثورة المضادّة من جهة أخرى، هو خطيئة كبرى، لا أعني خطيئة سياسية أو أخلاقية، بل أعني خطيئة منهجية.

هي خطيئة منهجية ستقود مرتكبيها إلى مآلات بائسة؛ إذ سيخيب مشروع الجمهورية المدنية الديمقراطية بنموذجها «الأكاديمي» المفترض لسوريا، كما سيخيب مشروع الدولة السورية الإسلامية التي تعيش الأقليات والطوائف في «ذمّتها» والتي تفترض المجتمع السوري مجتمعاً «مسلماً» فحسب. ستخيب هذه الافتراضات لأنها لا تكافئها إرادات وتحالفات ومصالح أطراف الحرب، ستخيب لأن السوريين لا يقاتلون اليوم بحثاً عن دولة مدنية ديمقراطية أو عن دولة إسلامية، ولا بحثاً عن دولة ممانعة أو دولة علمانية، يخوضون حربهم كما هي كل الحروب في التاريخ، بحثاً عن تغيير وضع قائم لم يعد يمكن له أن يستمر بالنسبة للثوار، وبحثاً عن تأبيد وضع قائم يحقق –أو يُعتقد أنه يحقق– مصالح أولئك المقاتلين في صفوف النظام.

يخوض الثوار السوريون معاركهم اليوم بحثاً عن حياة أفضل، أما كيف تكون حياتهم أفضل؟ أو هل يمكن أن تصير حياتهم أفضل؟ هذا ليس رهيناً بتصورات ولدت خارج معطيات وحقائق ميدان المعركة، ولا بنظريات عن ولادة دول أخرى من رحم حروب خاضها ويخوضها البشر منذ فجر التاريخ. على أن هذا لا يقلل من مشروعية قراءة الأنظمة السياسية الأخرى والصراعات التي أنتجت هذه الأنظمة، ولا يحرم أحداً من حقه في طرح رؤيته للمستقبل، لكنه يعيد التذكير بأنما «المدن المدمرة والأراضي المحترقة» وكذلك «الأبرياء المشهورون الذين يحتضرون عندما يطلع النهار» أكثر تأثيراً في «سوريا» التي تولد اليوم من التنظيرات الأيديولوجية والفلسفية والدينية، وأن التحولات التاريخية الكبرى على الأرض السورية تفرض علينا جميعاً أن نرى سوريا كما هي عليه، لا كما نتمنى لها أن تكون.