«لا نريد أن نشتغل سياسة»، يقول شبان سوريون عاملون بالشؤون العامة (أي بـ…«السياسة»). ولا يريد مثقفون ومفكرون سوريون أن يُشغلوا أنفسهم بالسياسة وصراعاتها أيضاً، متكرّسين فيما يفترض لقضايا الفكر والأدب والفن (وهي قضايا سياسية في كل مكان). وتثير السياسة عند عموم السوريين انفعالات تترواح بين السلطة والتسلّط، وبين التقلب واللامبدئية («السياسة ما لها دين»)، وبين طلب المناصب والأنانية، وبين البعد عن حياة الناس الفعلية، وموقفهم منها يتحرك بين التجنّب والخوف والارتياب.
ويبدو أن في هذا التجنّب العام للسياسة ما يبهج قلب القائمين على «النظام السياسي» في «سورية الأسد». قام النظام تكوينياً على الحجْر السياسي على عامّة الناس وخاصّتهم، سواءً بالترهيب والخوف أم بالإفساد والاستتباع، أم بتغذية موقف التشكّك العام حيال السياسة والسياسيين. وفي اجتناب السياسة المشترك بين المفكرين والشبان وعموم الناس ما يحقق هذه الخطة ويبدو برهاناً على نجاحها.
* * * * *
«الناشط» الذي لا يريد أن يشتغل في السياسة، لكنه ينساق بغفلة إلى «منظمات غير حكومية» (الإنجيؤوز، NGOs)، لا يتبيّن أنه يقوم في الواقع بعمل سياسي. تقوم المنظمات غير الحكومية، المموّلة من جهات غربية بصورة خاصة، على تجزئة الحقل العام إلى قضايا مستقلة عن بعضها (مجتمع مدني، حقوق إنسان، حلّ نزاعات، سلم أهلي…)، وعلى نزع الصفة السياسية عن الأنشطة العامة (السياسية، بداهةً) التي تقوم بها، وإضفاء صفة فنّية أو إجرائية «محايدة» عليها. يستجيب نزع الصفة السياسية هذا لتوجهات جهات سياسية وبيروقراطية، غربية ودولية ومحلية، تثابر على تزكية وصفات مجردة ثابتة لمعالجة مشكلاتنا، لا تمسّ هياكل السلطة الفعلية في المجتمع بذريعة الحياد و«اللاحكومية»، كما تثابر على تأليف قلوب قطاعات من النخبة الشابّة لمصلحة تلك الجهات.
وليس الأمر مختلفا في حالة منظمات غير حكومية تتشكل داخل البلد وكانت أسماء الأخرس، زوجة بشار، الشخصية المحورية فيها. عدا أنه ليس هناك شيء «غير حكومي» في منظمات تشرف عليها «إيمّا»، فقد كانت هذه المنظمات أُطُر استتباع للعديد من الناشطين لمصلحة النظام وتقريبهم منه بوسائل أقل سماجةً وأكثر «حداثةً» من حزب البعث واتحاد شبيبة الثورة، وأقرب إلى أذواق «البرجوازية الجديدة» والمتمسّحين بها.
لا حرية ولا إبداعية في هذه المنظمات في الحالين، الإنجيؤوز الأسدية أو الغربية، وبدرجة تفوق حتى انعدام الحرية والإبداعية في الحزب السياسي التقليدي على علّاته الكثيرة التي سنشير إلى بعضها أدناه. بل إن هناك فارقاً بديهياً لمصلحة الحزب التقليدي: يعرِّف نفسه بالسياسة ويحاول ممارسة السياسة، أما الإنجيؤوز فمتهافتة التكوين حين هي تمارس السياسة وتنكر صفتها السياسية.
* * * * *
هذا النهج وجد تكميله فيما انتشر في العقود الماضية من اجتهاد مثقفين ومفكرين سوريين لإظهار تنزّههم عن السياسة، بينما كان فكرهم يشفّ عن انحيازات ومواقف سياسية مباشرة ويكاد يُختزل إليها تماماً. أعمال جورج طرابيشي وأدونيس وعزيز العظمة، وآخرين، سياسية جداً وبصورة مباشرة، رغم مثابرتهم على إنكار ذلك. عملهم دعوي وتعبوي، وحزبي، إن تكن حزبياتهم «ثقافية» وليست سياسية. وهي بدورها أكثر افتقاراً لروح الحرية والمقاومة من الحزب السياسي التقليدي. بل هي أقرب إلى معاداة المقاومات الاجتماعية والسياسية للطغيان، دون أن تزكّي شيئاً، عند المثقفين الثلاثة المشار إليهم، غير وجهات تاريخية عريضة، خالية من أي محتوى قيمي أو بُعد احتجاجي.
يتعلق الأمر هنا بضعف سياسي وأخلاقي للتفكير والعمل الفكري، أي ضعف إدراك التضمينات السياسية لتفكير المعنيّين ومقارباتهم ومناهجهم، تحت وهم التجرّد أو الموضوعية أو استقلال الفكر. لكن لا شيء متجرد أو «موضوعي» في عمل المذكورين، أو أي عمل ثقافي أو أدبي في سورية المعاصرة، إن كان شيء كهذا ممكناً في أي مكان. كما في كل مثال آخر، يؤول زعم الموضوعية إلى تبرير الواقع القائم أو الانحياز له. ولقد أدّت بالثلاثة إلى مواقف أقرب إلى النظام أو مبرّرة له من جهة، مع غفلة مذهلة عن تاريخ البلد المعاصر وعن وقائع حياة الناس فيه من جهة ثانية. وما قاله المذكورون بعد الثورة يجمع بين قلة الدراية، وبين عجز عن التعاطف والإحساس بالغير، وبين الرغبة في تقديم النصائح وإعطاء الدروس، وبين التشاؤم المناضل.
والكلام على ضعف سياسي للتفكير في مثل شروطنا، السياسية جداً، يعني في الواقع تهافت التفكير ذاته وهُزاله، أي غفلة عما يحرك تفكيرنا فعلاً، بل وإلى انقلاب فكرنا المتنزّه عن السياسة إلى سياسة صغيرة خاضعة أكثر من غيرها لإكراهات واقع لا تدركه. منذ الآن يبدو ذلك صحيحاً بخصوص المثقفين المذكورين: إما عبر صمت يكاد يكون مطبقاً لمن يفترض أن وظيفتهم هي الكلام، أو عبر ثرثرة لا تتوقف، عرض القوم ما يتراوح بين توجّس وعداء مبكّرين للثورة، وحشدوا تحفّظات عليها لم يعرضوا ما يقاربها يوماً حيال نظام العبودية الأسدي.
ولا يُحسن مثقفون آخرون، لا يتكتمون على المرامي السياسية لتفكيرهم، حين ينخرطون في السياسة بشروط وضعها الضيّق الحالي، دون العمل على توسيع مفهومها وإدخال شواغل فكرية وقِيَمية أوسع. أثناء الثورة انخرط مثقفون في تشكيلات سياسية جديدة، لكن لم يسجّلوا فرقاً عن غيرهم على مستوى المثال والموقف، ولا على مستوى تنظيم الهياكل أو الأطر السياسية التي بنوها أو انخرطوا فيها، ولا حتى على مستوى التحليل. بدل أن يعملوا على تغيير السياسة القائمة، تركوا السياسة تُغيّرهم. والمشكلة أنه على أرضية تصوّر السياسة الضيّق، كتطلّع إلى السلطة ومناورات من أجل النفوذ والمكاسب، يمكن للأفّاق أو الطائفي أو الشبّيح أن يكون أشطر بكثير. فإذا كان للمثقفين أن ينخرطوا في الصراع السياسي من أجل التغيير، فلا بد أن يعملوا على تغيير السياسة ذاتها، أي ربطها بأبعاد فكرية وقِيَمية، وفتحها على مجالات حياة الناس في بيئاتهم الحية.
من الواجب هنا القول إني لست خارج هذا الشرط الذي أنتقده. عملتُ على كشف المرامي السياسية المباشرة لتفكير ومذاهب مثقفين سوريين، وكيف يجري توسّل «الفكر» كاستراتيجية لإخفاء انحيازات سياسية غير مشرّفة. لكني ثابرتُ على القول إني لست سياسياً، وإني أشتغل بأدوات الثقافة حصراً. في هذا تواطؤ مع تضييق حقل السياسة يبدو لي اليوم متعارضاً مع التوسيع الواجب الذي توفّرت شروطه بفعل الثورة، وصار ملحّاً العمل على ترسيخه مفهومياً.
* * * * *
لكن ماذا عن الأحزاب السياسية؟ هذه المنظمات التي لطالما اعتبرت الأطر الوحيدة للعمل السياسي؟
بما هي تجمّعات واضحة الحدود لمشتغلين بالسياسة، تفترض هذه الأطر انفصالاً بين السياسي واللاسياسي، من جهة، وندرة السياسة والسياسيين من جهة ثانية. فإذا فكّرنا في السياسة بأنها، بالعكس، شأن كل الناس، الشأن الذي لا «رسالة» له تعلو فوق حياة عادية للناس العاديين، ولا تنفصل القضايا الكبرى المزعومة فيه عن الحياة اليومية، ولا الشخصي عن السياسي، ولا السياسيون عن العموم، استوجب الأمر أشكال تنظيم مفتوحة ومتحولة ومؤقتة. وإذا فكرنا في النشاط السياسي بأنه أشكال من التعبئة الاجتماعية المتحولة حول شؤون متعددة، ولا تقتضي بالضرورة هياكل تنظيمية دائمة، تستنزف قواها في مقاومة الموت، ربما نفتح ثغرة للتطور التنظيمي للسياسة، المجال الذي بقي عصيّاً على التطور في سورية والبلدان العربية حولها.
لا ريب أن أشكال تنظيم النشاط السياسي تتحدد بنمط ممارسة السلطة العمومية وشكل تنظيمها هي ذاتها. في مواجهة نظام متطرف للحَجْر السياسي على السكان، على نحو ما عرفناه في «سورية الأسد» طوال أكثر من 40 عاماً، تتخذ المنظات السياسية صوراً تنظيمية تقوم على الهرمية أو على الخيطية، وعلى السرية والانغلاق دون خارجها في كل حال. تتكور على نفسها لتقليل مساحة الأذى الذي يحتمل أن تتعرض له من العدو على نحو ما يتكور على نفسه شخص يعتدي عليه من لا قبل له بمواجهتهم. لكن ما قد ينفع للدفاع عن النفس أو لضمان البقاء لا نفع منه في ما يتعدى ذلك. تجاربنا في هذا المجال تفيد أن صيغ التنظيم هذه تضمن بالكاد بقاء شحيحاً مقابل تدهور الفاعلية العامة إلى حد الانعدام. وأكثر من ذلك بثمن فقدان روح الحرية.
لكن ما العمل في شروط مثل شروطنا؟ إما بقاء هزيل بلا أثر، أو محاولة للتأثير وخيمة العواقب.
أو الثورة.
فلا مخرج فعلياً من الشرط المستحيل غير الثورة عليه. الثورة إما أن تكون حلاً لأزمة الحزب السياسي أو هي حل للحزب ذاته. والحزب الذي قتله النظام الأسدي، ولا يشارك في الثورة ضده هو بالفعل «عميل» ضد نفسه، لأن سقوط هذا النظام شرط حياة للحزب، وليس شرط حرية فقط.
لكن يلزم في الوقت نفسه نقد فلسفة الحزب السياسي التقليدي والتحرر منها. تقوم هذه الفلسفة على الفصل بين سياسيين وغير سياسيين، وعلى أن الحزب كيان طويل العمر ويحمل رسالة عابرة للأجيال، وعلى أنه لذلك يعرف مصلحة الناس المعنيين أكثر مما يعرفونها هم أنفسهم. تقويض هذه الفلسفة التي لا تؤسس إلا للدكتاتورية هو أحد وجوه الثورة الواجبة في مجال السياسة.
كان ظهور التنسيقيات في وقت مبكر من الثورة مؤشراً في آن على أزمة الحزب السياسي وثقل حركته وعجزه عن المبادرة، وعلى الحاجة العامة إلى أشكال مرنة ومفتوحة من التنظيم. ومعلوم أن أكثر معتقلي الثورة في عامها الأول كانوا ناشطين في إطار تنسيقيات أو في أنشطة توثيقية أو إعلامية أو إغاثية حولها، وقلة من بينهم فقط أعضاء في أحزاب سياسية معارضة. لكن تجربة التنسيقيات، هذا الضرب المستقل والتحرري فعلاً من المنظمات غير الحكومية، توقفت عن التطور في الأطوال الحربية المتقدمة من الثورة، ولعلها انهارت تماماً منذ مطلع عام 2013.
* * * * *
على أنه لا موجب لحصر خياراتنا بين أحزاب لا حرية فيها، وبين منظمات لا حكومية غير مستقلة، أو بين أطراف رباعي مكون من هذا الثنائي ومن النظام والإسلاميين، ولا بين ضربين من سياسة المثقفين يُفقِدانهم استقلالهم دون عائد إيجابي على السياسة.
لن نحاول اقتراح شيء إيجابي هنا. هذا أمر منوط بنقاش مفتوح يشترك فيه أكبرعدد من المهتمين، وبالتعلم من تجاربنا وتجارب غيرنا. لكن نفترض أن مفهومنا للسياسة يسهم في تحديد أشكال التنظيم الضرورية.
السياسة شأن الناس المشترك بينما هم يعملون على التحكم بشروط حياتهم وتعظيم قدراتهم. والناس، أفراداً ومجموعات، يعرفون حاجاتهم ومصالحهم، ولا يحتاجون إلى من يبصرِّهم بها أو يوجههم إليها. فإذا لم يحُل حائلون بينهم وبين مصالحهم، باسم الوطن أو الدين، أو حتى الثورة، توصّلوا إلى صيغ أنسب للعيش والعمل معاً.
وكشأن مشترك، تعني السياسة الاجتماع البشري ذاته، ولا تتقابل مع العنف، كما لا تتطابق مع «الحلول السياسية» لمشكلات عامة يمتنع حلها دون تغيير الشروط التي ولدتها، بل تعني انخراط عموم الناس في شؤونهم المشتركة وتدخلهم فيها وتعاونهم لتحويلها بما يوافق مصالحهم.
هذا المعنى للسياسة لا يسمح بانتصاب حواجز بين سياسيين ولاسياسيين، وبالتالي يطعن في شرعية أي أشكال تنظيم تعزل المنظمة عن الجمهور، والسياسيين عن اللاسياسيين. السياسيون هم جميع الناس بوصفهم أعضاء في الهيئة الاجتماعية. يمكن لأي كان ألا يهتم بالسياسة إن شاء، لكن السياسة ستهتم به في كل حال. الإنسان «حيوان سياسي»، ولا يستطيع أحد أن يعيش خارج المجتمع والدولة والشؤون المشتركة. لكن يمكن العمل دوماً على تحويل المجتمع والدولة والشؤون المشتركة بصورة توفّر حرية أعظم وعدالة أكبر للجميع.
هذا، فيما نرى، هو التطلع المحرك للثورة السورية.