كانت أسوأ التقديرات عن عدد ضحايا الاعتقال والتعذيب في سجون النظام السوري تتكلم على نحو 3000 ضحية. حتى أواخر شهر آب 2013، كان «مركز توثيق الانتهاكات» الذي تديره الحقوقية والكاتبة رزان زيتونة، وهو الجهة الأكثر موثوقية وبُعداً عن المبالغة، يتكلّم على 2826 شهيداً تحت التعذيب في السجون السورية. آب 2013 موعد مهم، لأنه تبيّن أن 11000 معتقلاً كانوا قد قُتلوا حتى ذلك الحين في دمشق وحدها، حسب معلومات قطعية وُضعت في مطلع الثلث الثالث من شهر كانون الثاني تحت أنظار العالم لقراءة التقرير بالإنكليزية، هنا: http://static.guim.co.uk/ni/1390226674736/syria-report-execution-tort.pdfhttp://static.guim.co.uk/ni/1390226674736/syria-report-execution-tort.pdf. أي إن 12 سورياً كانوا يُقتلون يومياُ في سجون النظام في دمشق! فإذا داوم إنتاج الضحايا على المعدّل نفسه خلال الشهور الستة المنقضية، وليس هناك ما يسوّغ الاعتقاد أن المعدّل انخفض، فقد يكون 1960 معتقلاً إضافياً قد قضوا. ونحصل بذلك على ما يقارب 13 ألفاً قتلوا في أقبية أجهزة الأمن في العاصمة السورية. وحتى بعد أن عرف العالم كله ما عُرف بشأن القتلى، قتلت أجهزة النظام في دمشق ذاتها وسام سارة، ابن المعارض المعروف فايز سارة، عضو الائتلاف الوطني المشارك في مفاوضات جنيف. كان وسام (27 عاماً، وأب لطفلين) ناشطاً في إغاثة المهجّرين المنكوبين، ومعتقلاً عند النظام منذ نحو شهرين حين أبلغت أسرته بوفاته.
ماذا عن المدن السورية الأخرى؟ حلب وحمص وحماه واللاذقية ودير الزور، وغيرها؟ لا نعلم شيئاً. لكن لا نملك أي سبب وجيه لافتراض أن القتل محصور في دمشق وحدها. ولن نجازف بتقدير.
على أن الشيء الجديد في رقم ضحايا التعذيب ليس أنه يفوق كثيراً أسوأ التقديرات، بل ما يشير إليه هذا الرقم وصور الضحايا من وجود صناعة موت منظّمة، على ما أشارت صحيفة «الغادريان» البريطانية يوم 21/1/2014. هناك تفكير منهجي، بارد ومنضبط، في كيفية قتل المعتقلين، مع الحرص الدقيق على حجب أية معلومات حقيقية عن هذه الكيفية. يقال للأهالي إن الضحايا ماتوا لأسباب قلبية أو تنفّسية. وهناك ما يتعذر تقديره من الأشخاص الذين ماتوا ودُفنوا في مواقع مجهولة، دون علم من ذويهم. علماً أن نحو 15 ألفاً من السوريين ما زالوا «مختفين قسرياً» منذ الحرب الأسدية السابقة في مطلع ثمانينات القرن العشرين.
ويبدو أن صور القتلى الـ11000، التي لم يتح للعموم رؤيتها، مُرقّمة كلها وعلى بعضها أسماء الضحايا. وفي بعض المعلومات أن ألفاً أو أكثر من الضحايا هم بالكاد هياكل عظمية، ما يعني تعريضهم لتجويع شديد ومديد، وما يحيل إلى قتل جماعي صبور ومتعمّد. وعلى جميع الصور التي أتيحت للعموم، هناك علامات تعذيب بالغ الشدّة، جروح عميقة وحروق، وتمزّق للعضلات في الصدر أو الظهر، وبعضها مفقوء العينين، وعلى بعضها علامات خنق. وحسب معلومات أخرى، فإن الضحايا يوضعون في أكياس ويؤخذون بالمئات في شاحنات خاصة، تدفنهم في أمكنة مجهولة. من يصادف أن تحصل أسرهم على جثثهم يُفرض عليهم ألا يكشفوا على الجثمان، وأن يوقّعوا على وثيقة تنصّ على أن الضحية مات بأزمة قلبية مثلاً، أو على يد «العصابات الإرهابية المسلحة».
ليس جديداً أن صناعة القتل تكملها صناعة كذب مزدهرة. قبل الثورة كنا نعلم أن النظام يعتمد على مركّبين جهازيين استراتيجيين: مركّب أجهزة الخوف (اسمها الأورويلي هو «أجهزة الأمن») ووظيفته منع تسمية الأشياء بأسمائها، ومركّب أجهزة الكذب (اسمها الأورويلي «أجهزة الإعلام»)، ووظيفتها تسمية الأشياء بغير أسمائها. وهما معاً يتكفّلان بفصل السوريين عن شروط حياتهم الفعلية ومنعهم من تسميتها والتحكم فيها.
«أجهزة الأمن» هي مصانع القتل التي أنتجت 11 ألف قتيل.
وهناك شهادات متواترة لمعتقلين سابقين عن أن الحال في المشافي التي يحصل أن ينقل إليها بعض المعتقلين أسوأ حتى من الحال في مصانع القتل الأمنية. ومن المحتمل حسب معلومات متواترة أيضا أن «مشفى تشرين العسكري» الواقع على الطرف الشرقي من دمشق، وكادره الطبي والإدراي والأمني، طرف كامل الشراكة في القتل الصناعي المزدهر في «سوريا ءالأسد» طوال السنوات الثلاثة المنقضية.
ولا ننسى بعدُ أن قتلى التعذيب والتجويع هم جزء بسيط من مجمل الضحايا السوريين الذين كان عددهم يتجاوز 120 ألفاً حين توقّفت الأمم المتحدة عن إحصائهم في كانون الأول الماضي. كان «مركز توثيق الانتهاكات» قدّر عدد ضحايا الثورة دون حسبان الضحايا من طرف النظام بنحو 80 ألفاً حتى نهاية 2013. فإذا كان رقم ضحايا التعذيب يفوق تقديرات المركز بأكثر من ثلاثة أضعاف ونصف، فهل يحتمل أن العدد الكلي للضحايا من طرف الثورة يزيد على ربع مليون؟ وكم يا ترى يبلغ عدد المعاقين؟ 3 أضعاف هذا الرقم أو 4 أضعافه؟
وإذا أخذنا بالحسبان أن نحو 40% من السوريين (9 ملايين) قد هُجّروا من منازلهم، ومنهم أكثر من 10% (مليونين ونصف) إلى خارج البلد، وأن ما يتراوح بين ربع وثلث المساكن في سوريا كلها قد دُمّر كلياً أو جزئياً، نحصل على صورة كارثة تاريخية لا نعرف ما يقاربها تاريخ سوريا الحديث، ولم تعرف السنوات المنقضية من هذا القرن نظيراً لها في أي مكان من العالم.
كان يمكن تجنّب كل هذا العنف المهول، إذ ليس هناك أي قدر متعالٍ أو حتمية تاريخية أو خصوصية ثقافية تقضي بأنه ما كان إلا لما وقع أن يقع. ما جرى هو نتيجة مباشرة لقرارات وأفعال بشرية، يتحمل مسؤوليتها أشخاص بعينهم، يشغلون في سوريا قبل الثورة بعقود، وأثناءها، موقعاً يمكّنهم من سلطة لا يضارعها أحد. في سوريا نطلق على هؤلاء الأشخاص اسم «النظام»، المركّب السياسي الأمني المالي الذي تشغل السلالة الأسدية موقعاً مركزياً فيه. ومنذ أن ورث بشار الأسد حكم الجمهورية عن أبيه في مطلع هذا القرن، صار الدستور العميق للنظام هو أن يورّث بشار منصبه لابنه (اسمه حافظ أيضاً)، وأن يبقى الحكم في السلالة الأسدية. من جهة «النظام»، المسألة مسألة سلطة مطلقة وثروة هائلة ونفوذ استثنائي وحصانة دائمة. وبعد 3 سنوات من الثورة والتعقيدات المحلية والإقليمية المتنوعة التي تعصف بسوريا، لم يعرض المركّب السياسي الأمني المالي استعداداً جدياً للتفاوض، ولم يُظهر أي نية للتنازل عن أي قدر من سلطته المطلقة. وبينما كانت المفاوضات تجري في جنيف، كان يتوسّع في قصف مدينة حلب التاريخية بالبراميل المتفجرة، ويفعل الشيء ذاته في بلدة داريّا القريبة من دمشق. هذا بينما يمضي في محاصرة أحياء حمص القديمة، ويشترط إخلاء بعض سكانها لتسهيل وصول مواد غذائية إليها، ويثابر أيضاً على حصار أحياء من دمشق العاصمة ومخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيين فيها، والغوطة الشرقية، المنطقة التي تعرضت للقصف بالأسحة الكيماوية في 21 آب الماضي، وسقط فيها 1466 قتيلاً، والتي انتقل النظام إلى حصارها فور اضطراره إلى إبرام صفقة يتخلى بموجبها عن أسلحة الدمار الشامل تلك مقابل تجنّبه ضربة عقابية أميركية-فرنسية. ما يستخلص من ذلك منطقياً أن التجويع سلاح دمار شامل بديل، أقل دراميةً وأدنى عواقب، لكنه استمرار لقتل المدنيين بوسائل أخرى.
لكن إذا كانت مصالح النظام وغرائزه تلقي ضوءاً على دوافع هذه الوحشية المنفلتة، فإن مناخات فكرية وثقافية منتشرة في سوريا، وفي الغرب أيضاً، سهّلت صناعة القتل المنظمة، وجعلتها شيئاً مقبولاً أو قليل الأهمية على الأقل. يتعلق الأمر هنا بالنزعة الثقافوية المهيمنة منذ نحو جيل، التي تختزل المجتمعات العيانية إلى مفهوم «الثقافة» المجرّد، ويُختزل هذا بدوره إلى «ذهنيات» ثابتة، يفترض أنها تتجسد تفضيلياً في الدين في مجتمعاتنا، الإسلام تحديداً، والسنّي منه بخاصة. وهكذا يكون النظام السوري إما نتاجاً طبيعياً لتكوين عابر للأزمنة للمجتمع السوري كمجتمع إسلامي، فلا وجه لتحمّله المسؤولية على ما يجري، بل لعله ضحية لتكوين محكوميه الذهني؛ أو، أسوأ من ذلك، يكون النظام طليعة «تنوير» و«علمنة» و«تحديث» في مجتمع «مظلم» و«متعصّب» و«تقليدي»، ما يوجب الدفاع عن النظام في وجه المعترضين عليه. فيما عدا أن هذه الأوصاف ليست صحيحة، وأنها في الواقع مصنوعة سياسياً في السياق ذاته الذي ولّد صناعة الموت، فإننا نفهمها على أحسن وجه حين نفكّر بها كتعبيرات عن النزعة العنصرية التي بات معلوماً أن مستقرها منذ نحو جيل هو «الثقافة» و«الهوية»، بدل الإثنية أو اللون. والعنصرية أيديولوجية طبقة وليست أيديولوجية هوية، كما يقول بنديكت أندرسون، وهي أوثق صلة بالامتيازات الاجتماعية منها بالتمايزات الثقافية. كانت إثنولوجية زائفة قد سوّغت قبل نحو ثلاثة أجيال صناعة القتل النازية التي أودت بملايين اليهود والغجر والمرضى. واليوم يسوّغ علم عقليات زائف، منتالوجيا جمعية collective mentalogy إن جاز التعبير، إبادة السكان الأشدّ حرماناً وفقراً في سوريا، بعد وصفهم بـ«المتعصّبين» و«الظلاميين» و«الإرهابيين».
هذا الوجه الفكري من صناعة القتل يتشارك فيه أيديولوجيو «العالم الأول الداخلي» في بلدنا، الذين يأخذون موقفاً استعمارياً من عموم السكان، مع أيديولوجيين في العالم الأول الغربي يمنحون أنفسهم «رسالة تحضيرية»، ومع ورثة «نقل الوعي» اللينيني إلى طبقات غافلة لا تعي مصالحها الحقيقية، وذلك على يد حزب هو «الوعي العلمي» مجسّداً. هل من فرق بنيوي بين نقل الوعي العلمي إلى كادحين غافلين، وبين نقل الحضارة إلى شعوب بدائية؟ هل المستعمَرون «البدائيون» شيء مختلف عن الطبقات العاملة والدنيا، الغارقة في العفوية والمطلبية الضيقة؟ وبأيّ شيء المستعمرون البريطانيون الذين استخدموا السلاح الكيماوي ضد العراقيين في مطلع العقد الثالث من القرن الماضي أو ضد الأفغان في الفترة نفسها هم أسوأ من المستعمرين الأسديين الذين استخدموا نموذجاً أشدّ تطوراً وفتكاً من السلاح نفسه ضد محكوميهم التعساء في صيف 2013؟ أو من نظام صدام حسين الذي استخدم السلاح نفسه ضد مواطنيه الكرد قبل أزيد من ربع قرن؟
لعل في ذلك ما يفسّر التقاء يمينيين غربيين لم ينتقدوا تجربة الاستعمار يوماً، ولا يزالون يؤمنون بالرسالة التحضيرية، بشيوعيين من جماعة «نقل الوعي العلمي» لا يزالون يحنّون إلى «سجن الشعوب» الذي كانه الاتحاد السوفييتي بقدر لا يقلّ عن روسيا القيصرية التي أطلق عليها كارل ماركس هذا الوصف.
ليس في مفاهيم من نوع «الاستبداد» أو «الطغيان»، أو حتى «الشمولية»، نعثر على نموذج تفسيري للنظام الأسدي، بل ربما في مفهوم الاستعمار، وأشكاله الأشدّ وحشية بخاصة، الأشكال المعتمدة على الإبادة كتلك التي عُرفت في العالم الجديد قبل مئات من السنين، وعرفتها روسيا بين الحربين العالميتين.
في سوريا، بعد ثلاث سنوات من الكفاح المرير، يستبطن بعض «المتمرّدين» على نظام الاستعمار الداخلي منطقه، ويمارسون حكماً استعمارياً ضحاياه هم ضحايا النظام الأسدي ذاتهم وخصومه الأكثر جذرية. أتكلّم على تشكيلات دينية فاشية، تحمل نسختها الخاصة من «الرسالة التحضيرية» أو من «نقل الوعي»، ويشتبه أن لبعضها صلات خفية مع النظام الأسدي، وتعمل على فرضها بالقوة على جمهور تعتبره «كافراً». الكفر هو الشكل الأقصى لخفض قيمة الحياة البشرية وإباحتها، والمسوّغ الأقوى فاعليةً للعنصرية والإبادة. ما أريد قوله هو أن هناك بعداً ثقافيا بارزاً في صناعة الموت الأسدية ومشتقاتها، ولا بد من فعل ثقافي فعّال لإبطال هذه الصناعة وتجريمها. هذا يقع على عاتق المثقفين قبل غيرهم، المثقفين السوريين قبل الجميع، لكن أيضا المثقفين في فرنسا وفي كل مكان. إن كانت هناك ثقافة وهناك فكر يسوّغان القتل أو يخفضان الحواجز الفكرية والرمزية والأخلاقية التي تحمي حياة الفقراء والضعفاء من الناس، فإن كل قوي يحتاج إلى قتل خصومه أو المعترضين عليه سيجد في تلك الثقافة وهذا الفكر ترسانة من أسلحة الإبادة الرمزية. ولن يكون أحد بمأمن دون إبطال هذا الفكر ومصانعه ومنتجيه.
المثقفون الفرنسيون مدعوون إلى المشاركة في الكفاح ضد الأشكال الجديدة من العنصرية والاستعمار وصناعة القتل. هناك مشكلة كبيرة حين يقول مثقفو فرنسا أشياء قليلة فقط ضد نظام القتل الأسدي، ومشكلة أكبر حين تبقى هذه الأشياء القليلة، المهمّة والمشرفة فعلاً، في نطاق دوائر السياسة وحقوق الإنسان، ولا تبلغ دوائر الثقافة والفلسفة والتأمل الأخلاقي.
«الدولة البربرية» التي تكلم عليها ميشال سورا قبل نحو ثلاثة عقود تتفوّق على نفسها اليوم، عبر صناعة القتل وصناعة المسوّغات العنصرية للقتل. ليس بدون استعادة إلهام سورا يمكن للفكر التحرّري أن يواجه البربرية الفائقة ومبرّريها، في سوريا وفي العالم.