هل كسرت الثورة نهج الحجْر السياسي الذي قام عليه النظام الأسدي؟

من جهة يبدو هذا محقّقاً فعلاً. فما يحرك الثورة هو تطلّع سوريين كثيرين لامتلاك السياسة، أي الكلام في الشؤون العامة، والتجمّع مع الأقران، والاحتجاج العلني في الفضاء العام. وهو ما تسنّى فعلاً لجمهرات كبيرة في مناطق متعدّدة من البلد. لكن في الوقت نفسه يبدو النقاش السياسي غائباً في بيئات الثورة وحواضنها الاجتماعية. هذه مفارقة كبيرة تسنّت لي ملاحظتها في الغوطة الشرقية في ربيع وصيف 2013. يريد الناس التخلّص من النظام، ويبذلون جهوداً هائلة من أجل ذلك، لكن ليس هناك نقاش منظّم بالحدّ الأدنى حول المستقبل، وليس هناك تدرّب مشترك على التفكير في التحدّيات التي تواجه الثورة محلياً وعلى المستوى الوطني. يستهلك الدفاع عن الحياة، بوسائل حربية أو بتأمين الموارد والحفاظ عليها، أكثر جهود السكان، فلا يكاد يبقي من الطاقة والعزم ما يتوجه إلى النقاش حول الواقع السياسي وسير الثورة وصورة المستقبل. لكن التشكّك العامّ المتأصّل بالسياسة والسياسيين، ونصف قرن من العزلة المفروضة على أكثرية السوريين الساحقة، فضلاً عن ضيق الأفق المحلي، كل ذلك يقف عائقاً أمام التفكير والنقاش السياسي العام.

ويسهم الإسلاميون الجدد، الإسلام العسكري إن جاز التعبير، في مصادرة النقاش عبر فرض أجهزة وقوانين غريبة (هيئات شرعية، مجالس شورى، شرطة دينية…)، لا سوابق لها في تاريخ البلد وتاريخ مُسلميه، ويفترض أنها تجسّد المفهوم الإسلامي للسياسة والحكم والعلاقات الواجبة بين الناس. في واقع الأمر لا مضمون لها غير التعطّش للسلطة المطلقة.

كان مفهوم السياسة قد تعرّض لتضييق شديد في بضع العقود الماضية بالتوازي مع تضييق حقل النشاط العام في البلد. ارتدّت السياسة إلى الحزبية، وصارت معنيّة أولاً وأساساً بمسألة السلطة، ومنفصلة عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والدينية والجنسية والبيئية. لدينا استعداد عربي قديم لردّ السياسة إلى السياسيين لا إلى المجتمع، والبنية اللغوية للمفهوم تجعل السياسة عمل «سائس الخيل»، وهذا صار السياسي في عصرنا. وعدا أن «المَسُوسين» وفق هذا التصوّر كائنات عجماء لا تنطق، فإن السياسة شيء يقوم به الساسة على المسوسين. الفرق بينهما مثل الفرق بين السائس والحصان، بين إنسان وحيوان. الساسة أقلّ عدداً من المسوسين طبعاً، والسياسي نادر وثمين، فيما المسوسون وفيرون. هذا يؤسس للنخبوية السياسية ولرفع اعتبار وقيمة حياة السياسيين، ورفع رواتبهم أيضاً، فوق اعتبار وقيمة حياة وأجور المسوسيين، عموم الناس.

ليست المفاهيم محكومة بأصولها اللغوية حتماً، لكن لم يجرِ جدّيّاً في أي وقت جهد فكري وعملي منسّق لفصل السياسة عن هذه الأصول (وعن مفهوم الرّاعي والرّعيّة من جانب آخر)، بغرض توسيعها، مفهوماً وممارسةً وهياكلَ، وتقريبها من عموم الناس.

وما يقال عن شغف السوريين بالسياسة في أزمنة أبكر من العهد الأسدي يبدو مزيجاً من حنين لا طائل من تحته إلى زمن مضى وانقضى، ومجاملة للذات مبالغاً فيها، وشكلاً موارباً من الاحتجاج السياسي على حاضر ما كان يطاق الاحتجاج الصريح عليه. بلى، كان هناك حراك سياسي نشط في سوريا قبل البعثية، لكنه لا يعود إلى اتساع القاعدة الاجتماعية للنشاط السياسي، وليس مبعثه أننا شعب بتقاليد كفاحية نشطة، بل نتج عن ضعف الإجماعات الوطنية بفعل حداثة البلد وافتقاره إلى رابط معنوية حيّة تشدّ سكانه إلى بعضهم، وكذلك لضيق المؤسّسات العامة وهشاشتها، فضلاً عن قلق البلد تكويناً تاريخياً (قطع ووصل متعدّد المستويات) وموقعاً جغرافياً («الشرق الأوسط»، وبين تركيا وإسرائيل والعراق ولبنان) وبُنية اجتماعية (تعدّد إثني وديني ومذهبي، وانقسامات جهوية عميقة)… أي بالضبط لافتقارنا إلى تقاليد سياسية وتراث كفاحي نشط. كان هناك صخب سياسي كبير في سوريا، لكن ليس حيوية سياسية عميقة. لا شيء يقارن طبعاً بالزمن الأسدي، لكن ليس ثناءً على أي شيء أن يكون أقل سوءاً من الزمن الأسدي.

وعلى كل حال، لا يتعارض الشغف بالسياسة مع احتقار السياسة والسياسيين. اليوم بالذات يسير هذا الشغف المتجدّد مع ازدراء واسع للسياسة والسياسيين. والمشكلة في هذا الموقف أنه مرشّح للانقلاب بعد حين إلى قرف ولامبالاة، وهو ما يمهّد للانسحاب العام من السياسة، أو من الركون إلى طغيان مميت يقتل السياسة لكونها فضاء للصراع والخصومة، على نحو ما سبق أن حصل في الوحدة مع مصر، ثم على يد حافظ الأسد.

كان قول مأثور للرئيس شكري القوتلي وقت إعلان الوحدة مع مصر عام 1958 قد كثّف شغفنا المزعوم بالسياسة على النحو التالي: «مبروك عليك السوريين [يخاطب جمال عبد الناصر]، يعتقد كل واحد منهم نفسه سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسه قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنه نبي، وواحد من عشرة يعتقد بأنه الله». ويبدو أنه أضاف أن من السوريين من يعبد الله ومن يعبد النار ومن يعبد الشيطان! لهذا القول صيغ متعددة، لكنه واضح الدلالة على نزعة تخاصم عامّ متأصّلة من جهة، وعلى ضعف الإطار الوطني الجامع، كهويّة وكمؤسّسات، من جهة ثانية. والسياسة التي يصدر عنها هذا القول تستبطن روح شقاق ومنازعة، هي التي فرّ منها السوريون متعبين نحو الوحدة مع مصر، فيما يغيب عنه وجهها الآخر كفضاء للتضامن والشراكة والتسويات، وتوسيع مساحات الإجماع الوطني. ولعله من هذا الباب بالذات لمّا يأتِ الإجماع في بلدنا إلا فوقياً ومفروضاً بالقسر. فحين لا تفكر السياسة بالإجماع، ولا تطوّر قيماً ومناهج للشراكة والتضامن بين السكان، وحين لا يمكن تصوّر مجتمع دون مساحات شراكة وتضامن متّسعة، لا يبقى غير أن تفرض هذه المساحات بالقوة من فوق، أي باللاسياسة وضد السياسة. هذا جرّبناه في الوحدة مع مصر، وإذ أضعنا الدرس عدنا إلى تجربة مميتة له مع الحكم الأسدي.

بل إن هذا التصور يقصر حتى عن الإحاطة بالوجه الصراعي للسياسة، وذلك عبر اختزاله إلى مناكفات وكيد ومُراغمات شخصية، على نحو نرى اليوم أمثلة متواترة عنه، لا تحيل إلى صراع بين برامج ورؤى وخيارات سياسية واضحة.

وفي ذلك، إن صح، ما يوجب العمل على تجاوز اختلالات عميقة وقديمة في تكوين البلد، لم تنشأ مع الزمن الأسدي، وإن يكن فاقم كل شيء، ومارس سياسة الانقسام والاستقطاب من وراء قناع «الوحدة الوطنية».

* * * * *

ويبدو أن وضع الثورة ذاته يتوافق عرضياً مع تضييق تصور السياسة لأنها، كعميلة قطع سياسية، تركّز الصراعات الاجتماعية كلها حول مسألة السلطة، وتلحق بها جميع الشؤون الأخرى.

يبدو أيضاً أن النفور من السياسة يجدّد نفسه عبر الثورة ذاتها، وذلك عبر ثنائية جديدة: الثورة/المعارضة. تظهر الثورة لبعضنا قضية عامة متعالية على السياسة وصراعاتها، وعلى المعارضة وتنظيماتها، ويجري التمييز أحياناً بين من يعملون في الثورة ومن أجل الثورة، وبين من يعملون كمعارضين سياسيين وفي أطر سياسية محدّدة. قد تكون الأجسام المعارضة الموجودة جديرة بالنقد، وبما هو أكثر منه، لكن الموقف الشائع في أوساط ناشطين شبّان يصدر عن روح متشكّكة ومرّة، سابقة للتجربة وللنقد، ويجري توسّل الثورة سنداً لهذا المسلك.

وعلى هذا النحو يمكن أن يحلّ مفهوم الثورة في المحلّ الذي كان يشغله مفهوم الوطن كإطار لإجماع شكلي مفروض بالقوة، لا يتجاسر أحد على التشكّك فيه خشية الاتهام بالخيانة.

أما في أوساط الإسلاميين فيبدو مفهوم الإسلام ذاته إطارا لإجماع لا-سياسي أو فوق سياسي، يصلح لذلك بالذات لقمع أي احتجاج أو نشاط عام مغاير، بتهمة الكفر.

لكن الموقف التطهّري من السياسة، على نحو ما وصفناه في المقال السابق (الثورة والسياسة: سياسيون وغير سياسيين) يحول دون تطوير تفكير وخطاب سياسي ملائم للثورة. يمكن القول اليوم إن هناك ثورة في سوريا، لكن ليس هناك سياسة ثورية، أعني سياسة مدركة لمحرّكات الثورة وجذورها الاجتماعية والسياسية، ومؤهّلة تالياً لترجمة هذا الإدراك إلى توجهات عملية واضحة. السمة المشتركة للتشكيلات السياسية التي ظهرت بعد الثورة أنها لا-ثورية، طفيلية في علاقتها بالثورة، ضامرة البعد الفكري والقيمي، تصدر عن تفكير وتوجهات متقادمة، وتفتقر إلى الجذرية وروح الحرية. جانب من تعثّر الثورة السورية يعود إلى هذا الشرط.

جانب آخر يعود إلى الابتعاد العامّ عن السياسة واستبطان محرمات النظام في هذا الشأن، وهو ما يشكل الفصل بين الثورة والسياسة استمراراً له. وربما يعود جانب ثالث إلى تواضع مستوى النقاش السياسي والفكري حتى في الأوساط المنحازة إلى الثورة. في هذا الشأن فاقمت وسائل التواصل الاجتماعي وضعاً كان سيئاً في الأصل.

والمشكلة أنه حين تكون السياسة محرومة من الاستثمار الفكري والأخلاقي فيها، مجالاً محتقَراً وضعيف الشخصية، فإن هذا يسهّل امتطاء مجموعات وشخصيات ركيكة، مثل من نعرف في تشكيلات المعارضة، لظهر هذه السياسة. السياسة السيئة تأتي بسياسيين سيئين، والسياسيون السيئون يمهّدون الطريق لنظام طغيان قاتل للسياسة.

الموقف التطهّري، وهو مضعِف للسياسة عبر نزع القيم عنها، يعزّز في الوقت نفسه مواقع الإسلاميين، ويوفر لهم فرصة لإحلال الدين محل سياسة بلا فكر ولا قيم. مقابل سياسة لا دين لها نحصل على دين لا سياسة فيه، سلطة إكراهية مقدّسة مفروضة بالقوة على الجميع. فإذا كان انحطاط السياسة هو ما أهّل شخصاً مثل بشار الأسد كي يحكم سوريا ويقودها إلى الدمار، فإن الانحطاط نفسه هو ما يؤهّل تشكيلات تجمع بين الدين والعنف والركاكة مثل «داعش» و«جبهة النصرة» و«أحرار الشام» و«جيش الإسلام» لأن تطمح إلى بناء سوريا على صورتها ومثالها البائسين. في الحالات كلها يتوافق هذا التصور الضعيف مع سياسة غير تحرّرية وبلا قيم ذاتية، ومع فسح المجال ليشغل الدين موقع السياسة التحررية الغائب.

بالعكس، من شأن توسّع مفهوم السياسة ليشمل أبعاداً فكرية وقيمية، ويتسع لتجارب الحياة والأحياء اليومية، وللأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والدينية والجنسية والبيئية لحياة السكان وعملهم، أن يكون عملاً تحرّرياً بحدّ ذاته، وأن يحول دون أفّاقين أو دُمى لقوى تحركهم من وراء الستار أن يكونوا وجوه السياسة في سوريا.

لا نستطيع تثبيت التوسيع الذي أحدثته الثورة للمجال السياسي دون توسيع مفهوم السياسة وتقريبها من حياة الناس. فإذا كان محرّك الثورة هو امتلاك الناس للسياسة، للكلام والرأي والنقاش، وللتجمع والتنظيم وبناء تجمعات سياسية (وغير سياسية)، وللاحتجاج، وللامتلاك الفعّال للفضاء العام، فإن إدراك الطبيعة السياسية لمشكلاتنا العامة والخاصة كلها يشكل أساساً لسياسة ثورية متّسقة. توسيع مساحة ما يعتبر سياسياً، وموضع تدخل عام بالتالي، ومحو الحواجز بين ما هو سياسي وغير سياسي، مؤشّران على الحرية وترقّي قدرة السكان على التحكم بمصيرهم.

وبالعكس، يؤشر تضييق نطاق السياسة بإخراج أوجه حياة الناس اليومية، وقضايا الخدمات والتعليم والصحة والبيئة والسكن والمواصلات والاتصالات منها، فضلاً عن نمط ممارسة السلطة وآليات التغير السياسي، يؤسّس للفصل بين سياسيين معدودين يشغلون أنفسهم بالقضايا الكبرى (الأمن في الداخل وإدارة العلاقات مع الخارج، أي ضمان بقاء النظام في الداخل والخارج)، وعامة كثيرة العدد تعيش منكفئة على تدبير أمور عيشها خارج السياسة وبعيداً عنها. نظام السياسة هذا صمّمه حافظ الأسد، وهو متشكّل بحيث يضفي الشرعية على حكم نخبة عليا، متفرغة لما يفترض أنها «القضايا الكبرى»، وتتكون منه وحفنة من أتباعه الأمنيين والمختصين بالسياسة الخارجية، بينما يباح الاعتراض على موظفين لا-سياسيين يتطابقون مع الحكومة والبيروقراطية. هذا توزيع للعمل والمسؤوليات كسرته الثورة مبدئياً، ويتعيّن المضيّ في كسره فكرياً وعملياً، من أجل تحويل السياسة إلى ملكية عامة، ومحو الحواجز الوهمية بين السياسي واللاسياسي.

* * * * *

إذا كان الشخصي سياسياً في كل مكان، فإنه في بلد مثل سوريا سياسي بصورة مضاعفة. سياسي من حيث أنه لم يعد هناك أوجه للحياة تعاش خارج الدولة أو بمنأى عنها، وسياسي من حيث أن الدولة الأسدية تتدخل بصورة خشنة وتعسّفية في حياة الأشخاص جميعاً، أجسادهم وأفكارهم وحركتهم، عبر أجهزتها المتنوعة، الأمنية والبيروقراطية والأيديولوجية. هل هناك فعلاً سوري بالغ واحد لم يمر بتجربة معكِّرة مع أجهزة الدولة الأسدية؟ كيف لا يكون هذا «التعكير» المزمن سياسياً؟ وكيف لا يكون التعكّر السوري العام، وكان يتظهّر بالتذمّر و«النقّ» الدائم قبل الثورة، وبالرغبة العامة بالهجرة من البلد، مرضاً سياسياً لا شفاء منه دون التخلّص من المركب السياسي المنتج له، «النظام»؟

وتعني الصفة السياسية للشخصي أيضاً أن المرء لا يستطيع الانسحاب من السياسة أو الخروج من دوائرها حتى لو أراد، ومهما فعل. نحن سياسيون منذ أن نولد إلى أن نموت. قد لا نمارس دوراً سياسياً مخصوصاً، لكن السياسة لا تكفّ عن ممارستنا وتحديد مصائرنا. وليس بين خياراتنا أن نكون سياسيين أو لا نكون، بل أن تكون موضوعاً سلبياً للسياسة أو نكون فاعلين فيها ومؤثرين على عملياتها. فإما أن نتملك السياسة ونؤنسنها ونتحكم بها، أو تمتلكنا السياسة وتتحكم بأقدارنا ونفقد حريتنا. من شأن وعينا بالطبيعة السياسية لشروط حياتنا وعملنا وتفكيرنا أن يكون مفيداً في تطوير قدرتنا على مواجهة التحكم السياسي متعدد الأشكال الذي نخضع له.

تجربتنا السورية حتى الثورة، وتجربة العالم في القرن العشرين، تفيد أن هياكل السياسة يمكن أن تكون منبعاً للاغتراب العام أكثر من أي شيء آخر، أن الناس يمكن أن يتحولوا إلى عبيد ويُقتلون بعشرات الألوف ومئات الألوف إن هم لم يتملكوا السياسة، ويتحكموا بهياكلها ومعانيها، ويصنعوا مصائرهم بأنفسهم.

نحن في قلب هذه المعركة اليوم.