بالنسبة لأحمد البديري الحلّاق الدمشقي السوري المؤرّخ الدمشقي من القرن التاسع عشر، طبعة 2014، أصبحت البراميل المنهالة على ريف حلب وريف دمشق وريف درعا والصور القيامية المتسربة من المعتقلات السورية وأصوات المدافع وقذائف الهاون والطيران الحربي، أصبحت خلفية موسيقية صاخبة، معكّرة لمزاجه بعد أن استنفذ حزنه وغضبه منذ حين. يحاول على الرغم من ذلك أن يبقي عينه الراصدة يقظة في التقاط كل تفصيل يساعده على صوغ معنى ما في مواجهة سياسة تفريغ المعاني التي يمتهنها النظام السوري منذ عقود. آه، صحيح، بمناسبة الحديث عن إفراغ المعنى، يقرئكم البديري الحلّاق أحرّ التحيات، ويبلغكم أن خطاب النظام الحالي عبر وسائل إعلامه يعجّ بـ«إعادة الإعمار» و«أعمال الإغاثة»، تقوم بها مؤسسات هي امتداد لشركات الحيتان القديمة نفسها، وبـ«مراقبة المجتمع المدني للانتخابات»، «المجتمع المدني» يدلّ مبدئياً على «اللجان الشعبية»، ولا نعرف الدلالات التي يمكن أن تضاف بعد ذلك.

المهمّ أن البديري الحلاق ما زال يلهث، يحاول التقاط صور وشذرات لتركيب ترسيمة أو دلالة ما.

البارحة، بعد خروج الناشطة مرسيل شحوارو من الهيئة الشرعية، حيث احتُجزت قبل ذلك بساعات لعدم ارتدائها الحجاب، كتبت على حائطها في موقع الفيسبوك انطباعاتها عمّا حدث ورد في جزء منها: «أن جزء من المجموعة التي احتجزتها لا تريد إكمال التحرير أساساً»، في ردّ على سؤالها «وماذا ستفعلون إذاً ببقية سكان حلب؟».

الداخل إلى المناطق الثائرة في دمشق، التي دُمّرت وشُرّد أهلها ودخلت في طور الهدن مع جيش النظام، يُدهش أولاً من تقسيم الجغرافيا، تقسيم المكان وحدوده. وهل يمكن مقاربة السياسي والسلطة والسيادة دون مفهوم الأرض والحدود؟ تبدأ الحدود الخارجية بحاجز لجيش النظام، يليه حاجز مشترك يتقاسمه عناصر من قوات المعارضة المسلحة وعناصر للجيش النظامي، وتنتهي رحلة الحواجز قبل الولوج إلى المنطقة الخالية من جيش النظام بحاجز لقوات المعارضة المسلّحة. يشبه ترتيب الحواجز قبل الدخول إلى المنطقة الأهلية الصافية طبقات الجلد المتراكمة قبل الوصول إلى الأدمة الحساسة، ويبقى الحاجز المشترك هو التماسّ الأكثر التباساً. كان التفاوض إذاً تفاوضاً نكوصياً في هذه المناطق، ثبّت المتفاوضون من خلاله فهمهم وتمثّلهم للعالم الخارجي الموضوعي: المناطق الثائرة المسلّحة لم تعد ثائرة، ولن تتقدّم أو تبادر، ولكنها مبدئياً لن ترجع للخضوع المباشر لسلطة الأسد، وستدافع عن مناطقها كأضعف الإيمان. المجتمع الأهلي منكفئ على نفسه، تفصله عن «المجتمع» العامّ طبقات من الحواجز. اللغة هي السطح الشفيف الذي يعكس فهم الناس للواقع، ولاصطلاحهم فيما بينهم عليه. فبقدر ما تحيل تعابير «ثغور» و«مرابطة» إلى مقام حربي إسلامي متقادم، تحيل إلى حالة الاستنقاع والركود والانتظار، وربما الملل عقب الصبر. ما بقي من مظاهر المعارضة والمناهضة في تلك المناطق هو وجود السلاح (غير الفاعل بشكل كبير ضد النظام، ويوجه أحياناً ضد الناشطين المدنيين). يتم استجلاب أموال لدعم المشاريع المحلية من طبابة ميدانية وتعليم وإغاثة، مصير استدامة هذه الأموال غير واضح على الإطلاق في ظل الهدن مع النظام وما ستؤدي إليه، ومشروعها الثوري البديل في المضامين المطروحة غير واضح المعالم كذلك. حين يُسأل الأهالي عن تنبؤاتهم بما سيحدث وعن أفق المعركة مع النظام، يرددون «المهم اليوم عنا أكل، وبكرا ما منعرف شي، منتظرين معجزة!». النظام بالمقابل لا يقتحم هذه المناطق، ولا يهمه ربطها بدمشق (المنطقة الخضراء) إلا عبر طبقات الحواجز الكثيفة.

قبيل سقوط يبرود تناقلت بعض وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي مهاترات بين «جبهة النصرة» و«جيش الإسلام»، حيث تتهم «الجبهة» «الجيش» بالتخاذل وبعدم تلبيته لنداءات المجاهدين المستغيثة.

يردّد أهالي مخيم اليرموك في أحاديثهم أنه لم يعد يهمّهم أي شيء في العالم سوى مخيم اليرموك، حتى البراميل المتهافتة على داريّا والمنطقة الجنوبية، المهم هو تأمين طعام اليوم التالي لعائلات المخيم.

لن يُطيل عليكم البديري الحلّاق في عرض شذراته، كل ما يودّ قوله أن الأفعال السياسية تُصنع الآن هنا، وليس بفعل الظروف الموضوعية التاريخية فحسب، ولكن «الفاعلين» الاجتماعيين أنفسهم يُضيفون معطىً موضوعياً آنيّاً، لحظياً، على الواقع بمعرفتهم العفوية، وبما يتقاسمونه من استبطانات ضمنية، يتم التفاوض عليها، ضمنياً مرة أخرى. والترسيمة السياسية واضحة المعالم هي نكوص حادّ في المجتمعات الثائرة نحو انكفاء أهلي فرضه النظام وآلياته وحصاره وتجويعه وتدميره، ولكن بالمقابل الأفكار والعناصر المتخيلة التي كان من الممكن أن تجمعنا هشّة أو غير موجودة، والفكرة التطلّعية نحو العدالة والحرية والكرامة لم تكن قوية كفاية لتقف بوجه القمع البربري.

قد تكون احتفالات الثورة التي قام بها السوريون في الشتات هي الأقرب إلى تعزيز الفكرة الجامعة المشتهاة، فلنسمّها الفكرة الوطنية أو فكرة العدالة والحرية والكرامة التي قامت من أجلها الثورة. التنغيص الوحيد هو أن سياق تلك الاحتفاليات انزاح عن الآن وعن الهنا؛ آن وهنا يعلنان أن الشعب السوري ليس واحداً، بعيداً عن تقسيم مناطق النظام/ مناطق الثورة، ولكن حتى بين المناطق الثائرة، ومن هنا نحن بانتظار الأفكار المتخيلة الموحّدة.