لدينا اليوم تجربة مؤسسة كبيرة هي الثورة وصراعاتها والمراجعات الجذرية التي تفرضها لمفاهيم السياسة والثقافة والمجتمع والهوية والوطن والدولة وغيرها. هذه تجربة مترامية الأطراف، بات ملحّاً إنتاج مفاهيم مناسبة لتمثيلها وتأويلها وتنظيم إدراكها، وتوليد المعاني والقيم التحررية التي تكرّم عناءنا المهول وتشكل استئنافاً للثورة وقيمها المحركة الأصلية.

والشيء المهم فيما نرى هو أن يكون التفكير التحرري وجهاً من وجوه عملية تشكل حركات سياسية تحررية، وفي سياق هذا التشكل. الأولوية في كل حال للعمل التحرري على «النظرية» الجاهزة، وإن كان تاريخ الحركات التحررية غالباً ما يُقرأ مقلوباً، ليبدو أن النظرية سبقت الحركة، وأن الحركة وُلدت من الكلمة. ما نعنيه بالفكر هنا ليس نظرية كبرى مكتملة، أو مجموعة ناجزة من المفاهيم، بل التوليد المستمر لمفاهيم وأدوات تفكير جديدة، ومنه كذلك التكسير المستمر لأية نظم فكرية جاهزة.

نتصور الحركة التحررية مجالاً للتفكير وإعادة التفكير والمراجعة والتجديد النظري والعملي. فإذا كنا لا نتطلع إلى إقامة هيكل سياسي جديد يضاف إلى غيره، بل إلى إلى تغيير ثوري في التفكير السياسي والتنظيم السياسي والقيم السياسية، فإن ما يلزم اليوم هو إفساح مجال أكبر للتجريب والتواصل والنقاش، وفتح ممرّات واسعة بين التجربة والفكرة، بين الخبرة والمفهوم.

لدينا اليوم أربعة مجالات أولية للتفكير والنقد، تشكل أُطُراً لمزيد من التراكم الفكري والسياسي، ولتمايز هوية تيار تحرري وديمقراطي جذري.

أولها، نقد ومقاومة بنى الطغيان وهياكله السياسية والفكرية. لقد كشفت الثورة الوجه الإجرامي للنظام الأسدي، ويفترض أن نعمل على «تخليد» هذه الجرائم لجعل تكرارها غير ممكن. هذا يقتضي كشف جذور الطغيان في بُنانا الاجتماعية والثقافية، وفي مفاهيم السياسة والدولة والوطن والهوية…، وفي تصوراتنا لأدوار السياسي والمثقف والناشط العام. لا يزال هناك الكثير مما يتعين العمل عليه في هذا المقام.
من ذلك مثلاً تفكيك فكرة «الوحدة الوطنية» وإظهار وظائفها القمعية؛
ومنه التكتّم المفروض على الوقائع الطائفية ودورها في تغذية البُنى والممارسات الطائفية، وحجب منبع التطييف العام، أي نظام التمييز والقمع؛
ومنه إعفاء الجيش من النقد بذريعة الدفاع عن الوطن، بينما لا يحتاج المرء لمزيد تفكير ليتبيّن أن النظام الأسدي قام على نزع وطنية الجيش، سواء بتطييفه، أم باستخدمه في مهام خارجية لا علاقة لها بأمن البلد (في لبنان والكويت)، أم أخيراً باستخدامه قوة احتلال للبلد أثناء الثورة؛
ومنها مفهوم الوطنية ذاته، وهو لدينا محمّل بشحنات عسكرية أمنية، تضع عموم السوريين في موضع المشكوك بوطنيتهم إلى حين يثبتون العكس.

لا نجد على سبيل المثال شيئاً عن أصول الوطنية الأسدية التي انقلبت أثناء الثورة إلى خيانة موصوفة عبر دعوة إيرانيين ولبنانيين وعراقيين إلى مشاركة النظام في قتل محكوميه وحماية حكمه. ولم يكد يُكتب ولو طرف من سيرة فروع المخابرات التي هي معابد الوطنية الأسدية، ومدارس التدريب العام على الهوان والخيانة: معلوم أن الحرية الشخصية لكل سوري مرّ بتلك المدارس الفاشية، أي عملياً لكل السوريين، رُهنت بأن يكون واشياً وعميلاً، أي بلا كرامة. ولقد رأينا هذا الضرب من الوطنية يتظاهر بتقبيل البوط العسكري أو رفعه فوق الرأس أو إقامة تماثيل له، هذا بينما البوط يسحق ويُهين «المواطنين» المفترضين في كل مكان من البلد. ظاهر أن في بُنانا السياسية والثقافية والاجتماعية القائمة استعدادات فاشية قوية، يتعين كشف الغطاء عنها مرراً وتكراراً.

ثاني مجالات التفكر والمراجعة مقاومة تيارات الإسلاميين الفاشية، ونقد فكر الإسلاميين عموماً. هناك نقد للإسلاميين لا ينفتح على كفاح سياسي تحرري، وربما يضع نفسه في مواقع قريبة من النظام الفاشي، لكن هناك امتناع غير مبرّر عن نقد فكرهم السياسي وقيمهم الاجتماعية تحرّكه اعتبارات سياسية عملية، مثل توسيع جبهة القوى المعارضة للنظام. ليس هذا أمراً غير ذي بال، لكن عدا أن تجاربنا السابقة تفيد بصعوبة الركون إلى الإسلاميين، فإن النقد التحرري لفكرهم يبقى واجباً في كل حال. على أنه ينبغي دوماً توجيه نقد جذري للنقد الماهوي الذي ينصبّ على الإيمان الإسلامي ذاته أو يعادي الإسلام ذاته. لا يرجّح لهذا الضرب من النقد أن يجرّ النقاش في اتجاهات طائفية ونخبوية فقط، وأن يحرم الكفاح التحرري من مشاركة محتملة ومرغوبة لمسلمين مؤمنين فقط، ولكن كذلك يمتنع أن يكون هذا النقد تحررياً، تحفّزه قيم الحرية والمساواة والعدالة والإخوة والكرامة الإنسانية. والعلاقة ليست عارضة بين النقد الماهوي والطائفية، ولا بينه وبين النخبوية ومعاداة الديمقراطية والمساواة بين الناس. الماهوية في التفكير، الكلام المرسل على المسلمين (أو اليهود أو المسيحيين…، أو العلويين، أو الكرد أو العرب… بـ أل التعريف دوماً)، وكأن لهم ماهية جامعة ثابتة تستغرقهم في كل حال، هي العنصرية في الاجتماع وهي الطائفية في السياسة.  بالمقابل، يتأسس النقد والمقاومة الواجبان لنزعات الطغيان والتسلط في فكر الإسلاميين وممارساتهم، ورفض كل أشكال التمييز الجنسي والطائفي، يتأسس بصورة كافية على النقد العلائقي الذي يدرج أوضاع مجتمعاتنا، وأوضاع المسلمين والإسلاميين فيها، في التاريخ الدنيوي، ويشرحها بلغة السياسة والاجتماع والاقتصاد والجغرافيا وغيرها. لا يتعارض ذلك مع حقيقة أن في المتن العقدي الإسلامي أسساً للتمييز الجنسي والديني. هذا يصعّب مهمة النقد، لكن يبقى ممكناً، وواجباً، نقد هذه الأسس والاعتراض على التمييز، دون تغذية نزعة العداء للإسلام.

وثالث مجالات النقد يخص المعارضة التقليدية. هناك نفور منتشر منها، لكن لدينا هنا منطقة فراغ فكري أكثر مما بخصوص النظام والإسلاميين، ولا يكاد يكون متاحاً في هذه المنطقة مساهمات ذات قيمة في بلورة مفهوم المعارضة ذاتها وتمييز إشكالياتها. وهذا لأنه رغم كل شيء كانت هذه المعارضة هي الواجهة المرئية، الشرعية بصورة ما، للاعتراض على النظام حتى بداية الثورة، ولأن بعض نقدها كان متواطئاً مع النظام وساكتاً عليه (نقد أدونيس مثلاً، ونقد عزيز العظمة)، وليس نقداً تحررياً إلا فيما ندر، وكذلك لأن كثيرين من الجيل الناشط ثقافياً وسياسياً اليوم ينحدرون أصلاً من أوساط هذه المعارضة، ما ينال من أهليتنا لنقدها.

لكن ظاهر اليوم أن ليس هناك شيء ثوري أو تحرري في المعارضة التقليدية عموماً، بعضها فاسد وبعضها متخاذل وبعضها فاقد للإرادة المستقلة، وكلها ماضوية التفكير والهياكل. تنحدر هذه المعارضة من جيل وتجارب متقادمة، لا توفر أدوات للتفكير في وقائع اليوم وصراعاته، وليست مؤهلة لوضع برامج وخطط عملية ملائمة، ولا هي قادرة على تشكيل منظمات جديدة فاعل وقابلة للحياة، أو حتى إبقاء قديمها حياً. الأمر متصل بكونها لم تعش حياة سياسية أقرب إلى السواء طوال نصف قرن على الأقل، ولم تتعلم شيئاً جديداً أو تنسَ شيئاً قديماً خلال أكثر من ثلاثة عقود. ومثل عقارب في كيس مغلق هي لا تكفّ عن لدغ بعضها والنيل من بعضها، أكثر بما لا يقاس من العمل على أية قضية مشتركة. ولذلك كانت محصلة عملها خلال ثلاث سنوات من الثورة أقرب إلى خصم من حساب الثورة منها إلى إضافة له.

لا يسهل على كاتب هذه السطور قول كلام قاسٍ عن أوساط نشأ فيها وخرج منها، لكن القطيعة مع الأسدية، نظاماً وثقافةً وسيكولوجيا، لا تكتمل دون القطيعة مع المعارضة التي تشكلت في ظله وخضع أكثر كوادرها لهيمنته. هناك شيء مات وانتهى من زمان في المعارضة التقليدية، ولأنه لم يجر إكرام الميت بالدفن، نعيش اليوم مع نواتج تفسخ جسده.

ومن خبرة شخصية لا بأس بها يبدو لي أننا لا نفتقر إلى الذكاء والنباهة كأفراد، مثلنا مثل جميع الأفراد في العالم، لكن ذكاءنا الجمعي متواضع، إن لم يكن متدنياً. منظماتنا قلما تكون ذكية، أو أُطُراً لإنتاج ذكاء جمعي يفوق ذكاء أفرادها. هي أُطُر لهدر الوقت والجهد والذكاء دونما ثمرة عامة، يصح القول فيها إنها أطر غبية. للأمر علاقة بالتكوين التسلطي لهذه المنظمات حول مركز ضيّق أو حتى مشخّص، لكن له علاقة أيضاً بتربيتنا التي تقوم على شكل سلبي من الفردية والمنافسة (تكسير الغير بدل مجاراته ومحاولة التفوق عليه)، لا يلبّي الحاجة إلى تعاون إيجابي مثمر.

ونرتب على هذه المناقشة السريعة شيئان عمليان. أولهما، إن محاولة بناء منظمات جديدة من المواد القديمة ذاتها لن تؤدي إلى غير تدوير القديم الفاشل نفسه. هناك غير تجربة في هذا الشأن، وهي تشتغل منذ البداية بذهنية أننا نحن البديل، أن الجميع سيئون ونحن الجيدون الوحيدون. هذا ليس قطيعة مع المعارضة التقليدية، بل هو مواصلة لأسوأ ما فيها. ومن هذا الاعتبار نرى، ثانياً، أن الشيء الأصح اليوم هو إعطاء وقت أطول للنقاش وإدخال مفاهيم جديدة، وبناء شبكات اتصال ونقاش مفتوحة مع مساهمة شبابية ونسائية أكبر. نحتاج إلى تجديد الأساس الفكري والقيمي للعمل العام، وبناء ذاكرة وسجلّ عمل جديدين، لا تثقلهما قيود الماضي وضغائنه. وكذلك إلى تدرب على العمل المشترك في أطر مفتوحة ومتحولة.

وفي المقام الرابع نقد المثقفين وأفكارهم ومقارباتهم، وإظهار مضامينها السياسية غير التحررية، أو الموالية للاستبداد والساكتة عن التمييز بين السكان، دينياً أو إثنياً أو اجتماعياً أو جهوياً. هذا ميدان مهم لعمل الفكر والثقافة التحررية، وللتخلص من مفاهيم وأفكار مموّهة، هي إن لم تكن متواطئة مع النظام الفاشي فإنها لا تكاد تجد ما تقوله دفاعاً عن عموم السوريين المستعبدين. يستغرب المرء ندرة الجهود المخصصة في هذا الاتجاه، والضمور الشديد للبعد القيمي في أعمال لمثقفين السوريين عموماً.

في ربع القرن الأخير على الأقل كانت السمة الجوهرية للمثقفين، وأعني المشتغلين في مجال ثقافة الكلمة أساساً، هي انعدام المسؤولية الاجتماعية، وتحول الثقافة إلى مجال للنزعة الفردية في أشكالها الأكثر أنانيةً ولترقية الذات و«الكاريريزم». المحصلة في مجال الفكر تجمع بين الفقر والنخبوية والنزوع اليميني التسلطي.

الحاجة أكثر من ملحّة اليوم لفكر جديد، مسؤول اجتماعياً، ويقطع مع اتجاهات ومذاهب تجترّ الكلام نفسه منذ عقود، فلا تشرح واقعاً متغيراً ولا توجه عملاً نافعاً ولا تقرِّب بين أفراد متفرقين. الفكر الجديد يصنع الأمل، القديم لا يصنع أملاً. يصنع اليأس المطبق والقبح الأتمّ، على نحو نراه اليوم يتجسد في إقطاعيات الإسلاميين. الأمل يوحِّد أيضاً، فيما القنوط والتشاؤم يفرّقان.

ثقافة جديدة وسياسة جديدة هما ما نحتاجه اليوم في سورية المحطمة: ثقافة الأمل وسياسة الأمل.