كان صعباً على الباحث قبل ثلاث سنوات أن يعثر على أي ذكر لاسم سوريا في الكتب التي كُتبت عن ’القاعدة‘. خمس إشارات فقط في البروج المشيّدة للورانس رايت، والذي يُعتبر الكتاب الأدقّ عن تاريخ التنظيم، وإشارة واحدة لأمّ أسامة بن لادن «السورية» في كتاب فواز جرجس القاعدة: الصعود والأفول. أما اليوم فقد أصبحت سوريا في نظر الجميع ‒وفي الحقيقة‒ مهد انبعاث ’القاعدة‘ الجديد، مغناطيس جنود الجهاد، حيث الشبكات والخبرات والحوافز اللازمة لإنجاب جيل جديد من الإرهابيين. لكن كيف حدث ذلك؟ وكيف بهذه السرعة؟
بالنسبة لبشار الأسد، كل الحق على الأجانب، خصوصاً تركيا وممالك الخليج، الذين استخدموا أموالهم ونفوذهم كعرّابين للانتفاضة، فسلّحوا الثوّار وجنّدوا مقاتلين من الخارج. الأمر كذلك حقاً، لكن هذه الحكاية ناقصة. ففي سنوات ما قبل الانتفاضة، تشكلت قناعة لدى الأسد ومخابراته بأنه يمكن رعاية الجهاد والتلاعب به لصالح غايات النظام. وكان ذلك هو الحين الذي دخل فيه الجهاديون الأجانب إلى سوريا وساهموا في بناء الهياكل وخطوط الإمداد التي تستخدم اليوم في قتال النظام. إلى ذلك الحدّ يعتبر الأسد شريكاً في خلق العدوّ الذي يقاتله اليوم.
من المهم لاستيعاب سياسات الرجل فهم تاريخ المواجهة الطويل بين الإسلاميين وحكومات البعث المتعاقبة. فخلال السنة الأولى من وصول حزب البعث إلى السلطة اندلعت اشتباكات عنيفة بين ’الإخوان المسلمين‘ والنظام الجديد. بالنسبة للإسلاميين كان حكّامهم خصوماً لكل قضاياهم: العلمانية الصارمة لحزب البعث قتلت احتمال الدولة الإسلامية، واشتراكيته هدّدت مصالح صغار التجار ورجال الأعمال الذين كانوا الناخب الأساسي للإخوان، ودعم الأقليات له (المسيحيين والعلويين خصوصاً) كان يعني أن «الكفّار» و«المرتدّين» سيحكمون غداً الأكثرية السنّيّة.
لكن الأمر استغرق حتى 1976 لتتبلور الانتفاضة الحقيقية، التي أطلقتها ’الطليعة المقاتلة‘ (وهي جماعة طائفية موتورة على هامش ’الإخوان‘) لتحظى بدعم كامل ’الجماعة‘ بالإضافة إلى عراق صدّام حسين وجهات في المعارضة العلمانية. المواجهة بلغت أوجها في معركة الأسابيع الثلاثة في حماه (شباط 1982)، يوم قتلت قوات النظام آلاف الناس وأجبرت كل مؤيّدي ’الإخوان‘ على مغادرة البلاد. كانت تلك نهاية تنظيم ’الإخوان المسلمين‘ في الداخل السوري، وهي النهاية التي تشرح هامشية الصوت والحضور الإخواني خلال النزاع القائم: بخلاف إخوتهم في مصر، لم يكن لإخوان سوريا أية تنظيمات أو هياكل، ومعظم من نجا من قادتهم لم يطأ التراب السوري منذ عقود.
الاستبعاد الشرس للإخوان لا يعني أن سوريا كانت استثناء خلال «التحول الديني» الذي مرّت به عدة مجتمعات عربية في 1990ات. فالعديد من السنّيّين، وبدافع من الضيم الاقتصادي والسياسي وتفشّي الفساد والشعور بفقدان الأمل من المجتمع الحالي، عانقوا الإسلام واعتنقوا أنماط حياة أكثر تديناً. بشار الذي سيخلف والده عام 2000 كان يعي ما يحدث، فسعى للتعاون مع «الصحوة»، وأنفق الكثير من الوقت خلال سنوات رئاسته الأولى يُعدّ القادة الدينيين ويفحص المساجد ويتأكد من أن القطاع الإسلامي النامي يلعب حسب قواعد النظام، كما موّل الأسد عدّة مؤسسات دينية، وأنشأ عدّة بنوك إسلامية، وأرخى قيوداً كثيرة كانت مفروضة على المظاهر العلنية للتديّن، كارتداء الحجاب في المؤسّسات العامة وأداء الصلاة في الجيش. في الصحوة الإسلامية في سوريا (2011) تشير الأكاديمية لين الخطيب إلى أن اتجاه بشار التصالحي مع الإسلام كان على تناقض ملحوظ مع العقيدة الأصلية لحزب البعث، والتي تعتبر أيّ ذكر للدين خطيئة سياسية وتنبذ الإسلام كأيديولوجيا رجعية. مقاربة بشار الأقرب إلى المساومة مع الإسلام لم تصل حتى ذلك الحين إلى الجهاديين، الذين كانوا بهدوء يحوزون أنصاراً بين المجتمعات السلفية في الضواحي السورية المحرومة وفي الأرياف: درعا جنوباً، إدلب شمالاً، أطراف حلب… في أواخر 1999 تسبّب كمين جهادي باشتباكات دامت أربعة أيام وبإجراءات صارمة على مستوى البلاد، وانتهى الأمر باعتقال 1200 مشتبه به بين مقاتل ومناصر.
عرض بشار المساعدة في الحرب على الإرهاب بعد هجمات 11 أيلول، ووافقت إدارة بوش على التعاون رغم تحفّظها على نواياه، وراحت تسلّم سوريا مشبوهين «خطيرين» حتى عام 2005 على أقل تقدير. «السلاح السري» للنظام ضد الجهاديين كان التسلّل إلى شبكاتهم وتحويل المشبوهين إلى متعاونين ‒ تم استخدام هذه التقنية بنجاح كبير ضد الإخوان المسلمين في 70ات و80ات القرن الماضي. حسب ويكيليكس الخارجية الأميركية، أحد ضباط المخابرات قال مرة لمسؤولين أميركيين في سوريا «نحن لدينا الكثير من الخبرة والمعرفة بهذه المجموعات»، وتابع: «لا نهاجمهم ولا نقتلهم … نحن نتداخل بهم … وفقط في اللحظة المناسبة نتحرك». قال إن هذه الطريقة أثمرت «إعاقة أهداف الإرهابيين وتفكيك خلايا الإرهاب».
الغزو الأميركي للعراق في آذار 2003 هيّج السلفيين السوريين، الذين اعتبروا غزو «أراضي مسلمة» سبباً شرعياً لحمل السلاح. استراتيجية النظام الدقيقة للتعامل مع أحداث كهذه (تنظيم تظاهرات مسرحية والسماح للناس بتنفيس غضبهم على شاشات التلفاز) لم تعد تُجدي: لم تعد تهدئة السلفيين ممكنة، وهم يريدون الذهاب للعراق وقتل أميركيين. الأمر كان تحدّياً بالنسبة للأسد وضبّاط الأمن؛ بعد أسابيع من التردد، قرّروا تبنّي استراتيجية جريئة: لم نقمع الحنق السلفي ولا نشجّعه؟
السماح للسلفيين بالذهاب إلى العراق كانت فكرة جيدة لسببين: أولاً للتخلص من آلاف العدوانيين من السلفيين بنكهة جهادية، ومن ثم حشدهم في حرب خارجية معظمهم لن يعود منها ليؤرق نظام الأقلية المتعلمن؛ وثانياً لزعزعة احتلال العراق ولإحباط رغبة جورج بوش الإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية (كل الدائرة المقرّبة من الأسد خافت أن تكون سوريا هي البلد التالي). «دمشق أرادت إفشال مبادئ بوش، وتأمّلت أن يكون العراق أول وآخر مرة تُطبّق فيها»، يقول ديفيد ليش كاتب السيرة الذاتية للأسد، «لذا أي شيء يمكن فعله لضمان ذلك، طالما لم يكبّد غضباً عسكرياً أميركياً، كان لعبة مناسبة».
وتحولت سوريا، في ليالي السنوات تلك، إلى مركز تجمّع رئيسي للمجاهدين المتطوّعين الآملين بالانضمام إلى المقاومة في العراق. ونشّطت مخابرات الأسد عملاءها السلفيين في سوريا. كان أشهر هؤلاء أبو القعقاع، الشيخ السلفي الحلبي الذي درس في السعودية وكانت خُطَبه تجذب مئات وأحياناً ألوف المتابعين. كان أتباعه قبل غزو العراق أشبه بمحتسِبة دينيين، يفرضون العقوبات على «السلوك المنكَر» ويشحنون الكراهية ضد الحكومات الكافرة في إسرائيل وأميركا، ثم تحوّلت جماعته بعد الغزو إلى القطب الذي أمدّ قاعدة أبو مصعب الزرقاوي في العراق بجنودها السوريين. جهود أبو القعقاع نجحت لدرجة أن السوريين كانوا أضخم نخبة مقاتلين أجانب في بداية المقاومة. بعد أربع سنوات، بعدما تغيرت الحسابات السياسية وقرّر النظام تبطئة حركة العبور قليلاً، توفّي أبو القعقاع برصاصة بالرأس في ظروف غامضة. وقد حضر جنازته أعضاء في مجلس الشعب وإسلاميون كثيرون، وقد «لُفّ بالعلم السوري في مشهد حوى كل تفاصيل المناسبات الرسمية»، حسب تقرير إعلامي لبناني.
كان أبو القعقاع مهماً لكنه لم يكن الوحيد الموكّل بإرسال مقاتلين أجانب إلى العراق. حسب سجلّات عثر عليها الجيش الأميركي في بلدة سنجار الحدودية، الخدمات اللوجستية كانت موكلة إلى شبكة دقيقة تضمّ مئة عنصر على الأقل، منتشرين في أرجاء البلاد ولديهم مخابئ ومستودعات أسلحة في دمشق واللاذقية ودير الزور وغيرها. كان هؤلاء بدورهم يعملون قُرب العشائر المجاورة للحدود العراقية، والتي تَدهور شغلها في التهريب بسبب الحرب، وكان تسهيل أمور المجاهدين شُغلاً بديلاً مرحّباً به.
خلال سنة أصبحت خطوط التدفّق السورية ممتازة الإعداد وبدأت تستقطب جهاديين من بلاد مثل ليبيا والسعودية والجزائر، الذين طاروا إلى سوريا أو مرّوا بها انطلاقاً من بعض المخيمات الفلسطينية في لبنان. عام 2007 قدّرت الحكومة الأميركية أن 90% من العمليات الانتحارية في العراق كان منفذّوها أجانب، وأن 85-90% من المقاتلين الأجانب دخلوا العراق عبر سوريا. الشبكة الجهادية في سوريا أصبحت امتداداً جوهرياً لشبكات العراق، وصارت تعمل بلا دعم مباشر من نظام الأسد، وإن كان شبه مؤكّد أنه بعلمه.
بحلول عام 2005 بدا واضحاً أن «عملية تحرير العراق» تمرّ بأزمة، وأنه لم يعد على السوريين القلق من أن يكونوا على قائمة جورج بوش. التدفق المستمر للاجئين العراقيين أثقل كاهل الاقتصاد السوري، ومنذ عام 2008 تأكّد أن سوريا أرادت الاستقرار ووقف الاضطراب في العراق. إضافة إلى ذلك، بدأت ’القاعدة‘ في العراق (التي تعاون معها أبو القعقاع) تحوّل اهتمامها من مقاتلة الأميركيين إلى بدايات حرب أهلية مع الشيعة، المشهد الذي أثار ذعر النظام السوري والذي يهيمن عليه علويون.
لكن لم يكن هناك مجال لإغلاق الصنبور هكذا. الشبكات الجهادية كانت قد توسّعت بسرعة مريعة، وحتى أبو القعقاع، الذي أتته أوامر بالدعوة إلى «الاعتدال» بعد انجراف المقاومة العراقية إلى حرب طائفية، كان قد خسر الكثير من نفوذه؛ أما تهريب المقاتلين فقد أصبح مربحاً جداً وراسخاً بعمق لدرجة أنه سيلزم صراع شامل مع العشائر لإيقافه. النظام كان قد خلق ظاهرة لم يعد يستطيع التحكم بها.
بخصوص الجهاديين الذين بدؤوا يعودون إلى سوريا بعد 2005، خرجت مخابرات الأسد بما بدا حلاً عبقرياً. مرة أخرى حاولت الإبقاء على الخطر الجهادي مع تحويل أبطاله إلى أدوات (غير واعية) للسياسة الخارجية السورية. هذه المرة كان الهدف لبنان، وكانت قد أُجبرت سوريا هناك على إنهاء احتلال عسكري عمره 30 سنة بعد اتهامها باغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. بالنتيجة، الكثير من الجهاديين الأجانب الذين كانوا قد دخلوا العراق مروراً بسوريا سيتمّ توجيههم الآن للذهاب إلى المخيمات الفلسطينية قرب صيدا وطرابلس، هناك من حيث انطلقت رحلتهم إلى العراق ذات يوم. لم تكن المخابرات السورية تهيمن بالكامل على الجهاديين المحليين، لا ’فتح الإسلام‘ ولا ’عصبة الأنصار‘، لكن هؤلاء كانوا مخترقين بما يكفي ليخدموا غاياتها في لبنان، حيث سعوا لزعزعة النظام السياسي وشحن الصراع الطائفي وحرف تحقيقيات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري.
تبيّن فيما بعد أن إرسال الجهاديين إلى لبنان لم يحلّ المشكلة. عدد كبير من الجهاديين العائدين قرروا البقاء في سوريا، وهناك باشروا بحملة إرهاب كان منها هجمات رفيعة المستوى ضد مباني حكومية وهيئة الإذاعة والتلفزيون والسفارة الأميركية ومقام شيعي، كلها غطّتها الصحافة العالمية، هذا عدا عن مئات الحوادث الصغيرة والهجمات الفاشلة التي نجحت الحكومة بالتعتيم عليها ولم يكن يمكن لأحد في الخارج أن يدري بها. وكلاء المخابرات الأوربية المقيمون في سوريا في ذلك الوقت يقولون إنهم كانوا يتلقّون تقارير عن حوادث إرهابية «شهرياً»، أما البرقيات المسرّبة من الخارجية الأميركية فتتحدث عن عدة تفجيرات وتبادلات إطلاق نار في 2004 و2005؛ تفجير انتحاري وعدة اشتباكات مسلّحة ومحاولات تفجير في 2006؛ مزيد من المعارك النارية وعدة سيارات مفخّخة في دمشق وقبض على «أحزمة ناسفة وسيارات و1200كغ متفجرات» في 2008؛ ويضاف لذلك تفجير باص الحجّاج الشيعة في آذار 2009.
الموجة الأولى من هذه الهجمات، من 2004 حتى 2006، تبنّتها ’جند الإسلام‘، وهي مجموعة غامضة يعتقد الخبراء أن الزرقاوي هو مؤسّسها؛ أما الموجة الثانية، من 2008 حتى 2009، فنفّذها «عناصر مارقون» من ’فتح الإسلام‘. أياً كانت اللُصاقة، المسؤولون بلا استثناء مقاتلون أجانب كانوا في السابق جزءاً من المقاومة العراقية ووصل بهم المطاف إلى سوريا، حيث استخدموا خبراتهم العسكرية ومهاراتهم في القتال لمهاجمة النظام و، بالتدريج، السكان الشيعة.
أحد أكثر التوضيحات الدرامية لانقلاب السحر على المشعوذ الأسدي كان استعصاء سجن صيدنايا. فبعد غزو العراق عرض مسؤولو المخابرات السورية على النزلاء الإسلاميين في هذا السجن سيء السمعة فرصة تدريب عسكري للقتال ضد قوات التحالف في العراق. حسب برقية مسرّبة من الخارجية الأميركية، من بين الذين قبلوا العرض وتمكنوا بعد ذلك من العودة إلى سوريا، «البعض بقي طليقاً … آخرون تم إرسالهم إلى لبنان، أما القسم الثالث فتم وقفه وتمديد اعتقاله في صيدنايا». الذين عادوا إلى السجن أحسوا أنهم «خُدعوا»: «كانوا متوقّعين معاملة أفضل، ربما حتى الحرية، وكانوا متضايقين من الوضع في السجن». في تموز 2008 قاموا باستعصاء وأسر عدد من موظّفي السجن وصغار عسكريّيه، واستمرّ السجناء بالسيطرة على جزء من سجنهم رغم انتشار القوات الخاصة. في كانون الثاني 2009، انتهت المواجهة الطويلة عبر معركة شديدة كلّفت حياة مئات السجناء وعشرات الجنود. كانت الحادثة بالنسبة للجيش «علامة سوداء»، والإعلام السوري لن يذكرها أبداً.
نقل مقاتلين سابقين إلى لبنان أيضاً جلب المشاكل للأسد. أطراف كثيرة كانت تعتقد أن قائد ’فتح الإسلام‘ كان كنزاً بيد الأسد، وأن فكرة دمشق الأساسية كانت تحويل الجماعة إلى فصيلها الجهادي الخاص في لبنان، وبالتالي منافسة جهود رئيس الوزراء سعد الحريري وحلفائه السعوديين.
حسب الأكاديمي الفرنسي برنار روجييه، وهو خبير بمخيمات لاجئي لبنان، السوريون نجحوا نجاحاً فاق توقعاتهم. فبالإضافة للمقاتلين الأجانب، جذبت المجموعة لبنانيين توّاقين إلى الجهاد. ’فتح الإسلام‘ التي مركزها المخيم الفلسطيني نهر البارد توسّعت إلى أكثر من خمسمائة رجل، مع أموال تتدفق ليس فقط من سوريا بل ومن الخليج بل وحتى من مؤيدي الحريري (الذي أصلاً كان الهدف الحدّ من نفوذه). بعبارات روجييه، «كلّفه الأمر حياته، كان له أثر مغناطيسي على كل الإسلاميين في البلد». مع بداية 2007 كانت الجماعة قد صرّحت بنيّتها بناء إمارة إسلامية في شمال لبنان، واندلعت المواجهة بينها وبين الجيش اللبناني ليبلغ الأمر معركة استمرت ثلاثة أشهر انتهت بهزيمة الجماعة. الأعضاء الذين نجوا لجؤوا إلى المجتمعات السلفية شديدة التماسك في شمال لبنان، أو عادوا مباشرةً إلى سوريا، حيث نفّذوا هجمات ضد الشيعة والنظام. خلال النزاع الحالي كان تنظيم ’فتح الإسلام‘ بين أولى القوى المقاتلة التي رفعت أجندة جهادية، كما أن خطوط إمداده وشبكات تجنيده في لبنان ما زال يستفيد منها شركاء له جهاديون.
الأكثر خطراً والأبعد أثراً بين كل سياسات الأسد كانت هذه: فتحه سوريا لشبكات الجهاد العالمي. قبل أن يحول بلاده إلى محطّة لأي مقاتلين أجانب، كان المجاهدون السوريون ظاهرة محلية إلى حد كبير، وإن كان من أجانب فمن بلدان مجاورة. بلى كان دائماً لتنظيم ’القاعدة‘ أعضاء سوريون بارزون (أبو مصعب السوري مثلاً، وأبو الدحداح، المعتقل لمدة طويلة في إسبانيا) لكن هؤلاء غادروا بلادهم منذ بداية الثمانينات وما من دليل على أنهم قادوا أية نشاطات جهادية سورية أو أنهم سعوا لتنظيمها أو حتى أظهروا أي اهتمام بذلك. لذلك لم يكن خبراء الإرهاب مخطئين تماماً حين اعتقدوا (لبعض الوقت على الأقل) أن سوريا كانت خارج مدارات القاعدة.
هذا تغير عام 2003، حين فتح الأسد المجال للجهاديين في بلاده ليشبّكوا مع الزرقاوي ويصبحوا جزءاً من نهر المقاتلين الأجانب العابر من لبنان إلى العراق، مع نقاط منتشرة على طول الطريق ومخابئ سلاح وتسهيلات عديدة في كل سوريا. ثم بمساعدة نشطة لمخابرات الأسد، انفتحت سوريا على تيّارات وتأثيرات جهاديين مدرّبين ومتّصلين جيداً من ليبيا والسعودية والجزائر وتونس واليمن والمغرب، وقد جلبوا معهم أموالهم وخبراتهم وأرقام رفاقهم، حتى كفّت سوريا بعد سنوات قليلة عن كونها بقعة فارغة في خريطة الجهاد في العالم: في أواخر 2000ات أصبحت الشام أرضاً مألوفة للمجاهدين الأجانب، بينما أصبح جهاديون سوريون أرقاماً صعبة في تنظيم ’القاعدة‘ في العراق، حيث حصلوا على تجربة حربية وصلات عالمية وخبرة كافية لتحويل سوريا إلى أرض المعركة التالية.
حين اندلع النزاع الحالي في سوريا، لم يكن مدهشاً أن الهياكل الجهادية ظهرت أول الأمر في المناطق الشرقية، حيث نقاط الدخول للعراق، وفي مناطق مثل حمص وإدلب، الأقرب إلى لبنان. كما لم يكن مدهشاً أن السلفيين (وليس الإخوان المسلمين) كانوا أقدر على تأمين المقاتلين الأكثر خبرةً وتفانياً، ذوي المواهب والموارد والانضباط اللازمين لضرب النظام؛ كان أسهل على هؤلاء أيضاً الرواج بين الشبكات العالمية للأثرياء والمتعاطفين، خصوصاً في الخليج، وبالتالي تأمين السلاح والمال. المثال الأوضح لدينا هو داعش، تلك اللاعب الطائفي المتوحّش في الحرب القائمة، والتي تعود أصولها إلى ’قاعدة‘ الزرقاوي في العراق، والتي ترتبط بنفس الشبكات وخطوط الإمداد التي أمّنت لها نقل المقاتلين من سوريا إلى العراق ‒ سوى أن فيض المهاجرين يتدفّق اليوم بالاتجاهين بطبيعة الحال.
نظراً لتاريخ وتكوين جماعات مثل داعش، يصرّ العديد من رموز المعارضة السورية اليوم على أن الجماعات الجهادية هم دمى الأسد، وأن المخابرات السورية ما زالت تستعملهم لضرب صورة الثورة وشقّ صفوف المعارضة وردع الغرب عن أي تدخل. الحق أن هناك بعض الريبة في شخصيات كبيرة ومخضرمة في جماعات مثل داعش، سيكون لهم سجلّات عند المخابرات السورية، ومن المرجّح أن بعضهم يتعاون مع النظام. وليس هناك أي شك بأن النظام، الذي يقاتل الكثير من المنشقّين العلمانيين عن قواته، له مصلحة في تصوير معارضيه كمتعصّبين مجانين، وما من شكّ أنه خطط لتقوية الجهاديين بين منافسيهم عبر بعض ما قام به، كإطلاقه سراح المزيد من إسلاميي سجن صيدنايا، أو إعفائه مناطق داعش من ضربات طيرانه… لكن ليس لدينا دليل إلى الآن أن الجهاديين عموماً يتحكم بهم النظام، اللهم إلا إعلانات مكرّرة يخرج بها رموز المعارضة أن هذه الأدلة ستظهر قريباً. لا أحد يشكّك بالارتباطات الخارجية والشبكات العالمية للجماعات الجهادية في سوريا، بما في ذلك مقاتليها الأجانب القادمين من الشرق الأوسط أو حتى أوربا، لكن السبب الذي سهّل حشدهم ‒وحشدهم بسرعة‒ هو أن نظام الأسد هو من ساهم في إعدادهم ذات يوم.