تنوّعت الآراء، وإن بدا الارتياح طاغياً في آراء وردود أفعال الرأي العام السوري المُعارض بخصوص الفوز المريح الذي حقّقه حزب العدالة والتنمية (AKP) في الانتخابات البلديّة التركيّة الأحد الماضي، والذي يُشكّل دفق ثقة كبير لصالح رجب طيّب إردوغان، ودفعاً وطاقةً لمخطّطاته السياسيّة المستقبليّة، أكان على الصعيد الشخصي أم في إطار الحزب الحاكم في تركيا. لا شكّ، بعض هذا الارتياح أسباب أيديولوجيّة تخصّ تمسّك طيف إسلامي سوري بنجاح النموذج التركي في الوصول إلى الحكم والبقاء فيه، لكن لا يمكن إنكار أن الأصل الأبرز لتنهّدات الارتياح أتى من إسكات صريخ القلق الوجودي لمئات الآلاف من السوريين المتواجدين في تركيا اليوم.
هناك أسباب كثيرة تجعل اللاجئين السوريين في تركيا يرَون مصيرهم مرتبطاً بالمستقبل السياسي لإردوغان: موقف حكومة إردوغان من النظام السوري أولاً؛ والوضع الجيّد، ثانياً، الذي وفّرته الحكومة التركية للاجئين السوريين في أرضها مقارنةً بدول اللجوء الأخرى، مثل لبنان والأردن؛ والسلبية التي يواجه بها الشطر الأكبر والأهمّ من المعارضة التركيّة المسألة السوريّة وتفرعاتها، وهي سلبية متنوعة الفجاجة في التعبير وإن اشتركت في منطلقاتها ومستقراتها. هناك عداء واضح وضيّق الزاوية للثورة السوريّة، وعنصريّة تعبيرية فجّة في مقاربة مسألة اللجوء السوري في تركيا، وبعض الأحزاب والتجمّعات السياسيّة والنقابيّة المعارضة، اليسارية والقوميّة، لا تخفي دعمها الكامل لنظام بشار الأسد في وجه الثورة الشعبية ضدّه، ووفودها لم تتوقف عن زيارة دمشق منذ الأيام الأولى للثورة.
عدا كل هذه المسائل، للتجربة المصرية المريرة ثقل كبير في وجدان اللاجئين السوريين في تركيا.
عاش اللاجئون السوريون في مصر شهوراً سوداء في الفترة التي تلت استيلاء الجيش المصري على الحكم بعد إسقاط الرئيس محمد مرسي، إذ شُنّت حملات التحريض الإعلامي ضدّهم بشكل هلوسي ومخزيْ، وبالتزامن مع التعاطي الأمني الاعتباطي والعشوائي الذي تناولهم بشكل عنصري مقيت، ما دعا منظمات دولية عديدة، بينها منظمة العفو الدولي، لإصدار تقارير أدانت الإدارة المصرية الحالية على تعاطيها مع اللاجئين السوريين. اتُهم السوريون حينها بمحاباة حكومة الإخوان المسلمين، وبارتضائهم دور المخلب بيدها. وما زال سكوت أطياف سياسية وثقافيّة مصريّة كبيرة على العقوبة الجماعية التي وقعت على رؤوس السوريين وصمة عار لن تُمحى.
في لبنان، كانت الحساسيّة تجاه تدفّق اللجوء السوري عبر الحدود أسرع، وأكثر فجاجة وانحطاطاً. تحوّلت مناهضة وجود اللاجئين السوريين على الأراضي اللبنانية إلى ورقة سياسيّة عنصرية وطائفية منذ اللحظة الأولى، ولا سيما على يد التيار الوطني الحرّ بقيادة الجنرال ميشيل عون، حليف حزب الله. استُخدمت في الأروقة السياسية والإعلامية اللبنانية تعبيرات ومصطلحات مريعة في عنصريتها ضد اللاجئين السوريين، وهذا الأمر، وإن لم يكن جديداً في السياق اللبناني، إلا أنه عنى دفعة ألم كبير، بالنظر إلى أن السوريين والفلسطينيين السوريين اللاجئين في لبنان هم ضحايا الوضع الأضعف على مستوى الدول المحيطة بسوريا.
أما في الأردن، حيث يقبع مخيّم الزعتري، المثال الأسوأ على وضع اللاجئين السوريين في دول الجوار، تظهر مفارقة كبيرة: وضع اللاجئين السوريين في الجار الجنوبي سيء، وتعاطي الجهات الرسمية وشطر كبير من الأطياف الشعبية ضعيف الإنسانيّة للغاية، لكنه، على المدى المنظور، الأكثر استقراراً رغم سوئه. لا تحوّلات متوقّعة في الوضع الداخلي الأردني على المدى المنظور.
بُرّر تعاطي الإدارة المصريّة التالية للانقلاب العسكري حينها بتعاون سوريين مع الإخوان المسلمين المصريين، واتُهموا بالمشاركة في التظاهرات الشعبية الإخوانيّة وفي أحداث العنف التي اندلعت في محطات عديدة، سابقة للانقلاب وتالية عليه. أياً تكن حقيقة أو عدم حقيقة وجود سوريين في تظاهرات الإخوان أو مشاركتهم في أحداث العنف، لا يُمكن، من وجهة نظر أخلاقية وقانونية وإنسانيّة، تبرير العقاب الجماعي الذي صُبّ على رؤوس عموم السوريين هناك. وكان الائتلاف الوطني السوري قد أصدر حينها، في الأيام السابقة لتظاهرات 30 حزيران الحاشدة، بياناً يدعو فيه السوريين للحياد والابتعاد عن الاستقطاب الداخلي المصري وتجلّياته. الفكرة ذاتها صدرت عن الحكومة المؤقتة الأسبوع الماضي في تركيا، قُبيل الانتخابات المحلّية. هذه البيانات، وإن انطلقت من حُسن نيّة، ولقت موافقة كبيرة في الرأي العام المعارض، إلا أنها سبحت في نفس بحر المنطق الذي يُدين «السوريين» ككتلة أو «يبرّئهم»، ولم تتمّ مساجلة عقليّة العقوبة الجماعيّة التي يستخدمها مستهدفو السوريين في بلاد اللجوء. ماذا لو أن هناك سوريين شاركوا في العمل في الدعاية الانتخابية التركيّة؟ أو اعتُقل سوريّ في خضمّ تظاهرات أو أحداث شغب أو حتى حوادث إرهاب؟ هل يعني هذا أن ذنبه قد وقع على جلّ السوريين في هذا البلد؟
هناك واقعان يدعوان للتفكير فيما هو أعمق وأكثر نفعاً وديمومةً من الدعوة المحمومة للحياد في بلاد اللجوء، أو إغراق السوريين في جوّ الرقابة الذاتي الخانق، المقرون برعب لا يُشبه إلا شبح أجهزة أمن النظام المُسلّط على الرؤوس. الواقع الأول يقول إن الموقف من اللاجئين، أقلّه على المستوى السياسي، يتبع لاصطفافات إقليمية ودوليّة على جانبي الموقف من الثورة. يساريو تركيا أو قوميو مصر أو عونيّو لبنان معادون للثورة السوريّة قبل مزاعم مشاركة السوريين للإخوان في تحرّكاتهم، أو قبل أن تتشكّل تجمّعات لجوء مهمّة في الجنوب التركي أو في اسطنبول، وهذا الموقف من الثورة يمتد ليتجسّد في النظرة إلى اللاجئين. هنا لا بدّ من الإشارة لنجاحٍ النظام الخبيث في تحويل مسألة اللاجئين وتبعاتها إلى مشكلة للثورة، كأن لا دور له ولا ذنب، لا بل إنّ وسائل إعلامه تتناقل بفرح أيّ خبر سلبي عن اللاجئين السوريين في المخيّمات وخارجها. هؤلاء اللاجئون «جمهور الثورة» في نظرهم. إنها استقالة من منطق الدولة، لكنها فقط استقالة جديدة تتكوّم فوق ألف استقالة قبلها، وهي استقالة شديدة النفع.
أما الواقع الثاني الذي يحتاج التفكير فيقول إن عدد اللاجئين السوريين في ازدياد، ولن يتوقّف هذا الازدياد قريباً، ولا بوادر تفاؤل بقرب إنجاز الظروف اللازمة لعودة اللاجئين إلى ديارهم. تالياً، لا يمكن المُكوث في حبس الهاجس المرعوب من خرق أيّ سوري لحياد لا يعطي إلا شعوراً زائفاً بالأمان. في بلاد يوجد فيها مئات الألوف من السوريين، لا يمكن الرهان على ألا ينغمس السوريون، بشكل أو بآخر، في الاستقطاب المحلّي، أكان بالرأي أو بالفعل. ما يجب فعله هو محاربة أيّ منطق يؤدي، مباشرةً أو بلا مباشرة، إلى تسويغ العقاب الجماعي للسوريين.
ربما لا مفرّ للكيانات السياسيّة المعارضة من خطاب الدعوة للحياد تجاه القضايا الداخلية لبلدان اللجوء. لكن قصور هذا العمل، بل وعُقمه، بدا واضحاً منذ الحالة المصريّة الأولى. هناك حاجة لعمل سياسي ودبلوماسي وحقوقي يدفع باتجاه تحصين أوضاع اللاجئين السوريين وحقوقهم وحرّياتهم، والحصول على ضمانات أمميّة بحمايتهم من التقلبات المحلّية والإقليميّة، مع الاحتياط بأنّ أيّ ضمانات لن تمنع ارتدادات التقلّبات المحلّية على اللاجئين السوريين وأحوالهم. لكنّ نتائج هذا العمل، إن حصل وأنتج، لا شكّ ستكون أكثر نفعاً من بيانات «الحياد».