كيف يمكن لدينٍ ما أن يكون عدمياً؟ حسبنا الأديان التوحيدية الكبرى، فهي جميعها تقدم على العكس من ذلك فائضاً من المعنى، قيماً عليا وخلاصاً حقيقياً يعطي معنىً للحياة بمفعول رجعي، يقدس الحياة وبالتالي يمنع الانتحار؛ أن نموت من أجل قضية أمر محتمل ربّما، ولكن أن نعاف العالم الذي خلقه الله فهذا شيء آخر. الشك والقلق ليسا من العدمية بشيء. تحطيم الأصنام، أو حتى إلغاء الكفرة أنفسهم، هذا ليس بحد ذاته من العدمية: قد يرجع ذلك إلى تفاؤلية خلاصية نجدها كذلك في هوام «الطاولة البيضاء» الشيوعي وفي استئصال أعداء الطبقة الاجتماعية. أما العدمية فهي عندما يكون فعل التدمير غير حامل إلا لنفسه.
الهجوم الانتحاري
أيوجد إذاً عدميّة المؤمن؟ غالباً ما استخدمت الكلمة لتدليل على «الإرهابيين الإسلاميين» الذين يفجّرون أنفسهم مع هدفهم. فلننطلق من هنا.
الهجوم الانتحاري ظاهرة حديثة، ابتدأها نمور التامول، واستعادها حزب الله، ومن ثم حركة القاعدة والفلسطينيون. ولكننا هنا أمام نمطين من الفعل الإرهابي في علاقته مع القضية المدافع عنها. بالنسبة للهجمات الانتحارية المنفذة ضمن منظور وطني (نمور التامول، الفلسطينيين)، يكون منفذ العملية مندمجاً على العموم، وتكون العائلة على الأخص متفهّمة وتقيم العملية إيجابياً: يُنتظر من العملية كسْب عسكري أو سياسي (إضعاف جيش العدو، صدّ احتلال)، كسبٌ يفهمه ويُقرّه الأقرباء في العائلة. ولكن خطوة الإرهابي «القاعدي» باتجاه الفعل تفاجئ وتزعزع أقربائه. والكسب ليس عقلانياً على المستوى الجيوسياسي (ما الذي جلبته عملية 11أيلول من حصيلة؟) الرغبة بالموت جليّة وتتجاوز ما هو مجرد تضحية. وهذا ليس وقفا على «القاعدة»: درس فرهاد خسروخاور عدمية الشهيد الشيعي انظر مقالة فرهاد خسروخاور: Farhad Khosrokhavar, l’Islamisme et la mort. Le martyre révolutionnaire en Iran, Paris, L’Harmattan, coll. «Comprendre le Moyen-Orient», 1995. الذي كان يبحث عن الموت على الحدود العراقية أثناء عقد الثمانينيات، ليس لكسْب الحرب أو الجنة بقدر ما هو مدفوع برغبته بمغادرة هذا العالم الذي لم يعد يهمّه، لأن النقاء الذي لاقاه أثناء الثورة اضمحلّ تحت وطأة الفساد ولعبة السلطة. كانت الحياة قد توقفت عن أن تكون «مهمّة».
قد يكون من الساذج أن نربط الهجوم الانتحاري باليقين الأوحد حول فردوس يأتي مباشرةً بعد الموت. قبل كل شيء هذا يتطلب الكثير من التطمينات: كيف يمكن خرق أحد الممنوعات وهو الانتحار والمجازفة بعد ذلك بوعد الخلاص؟ إن الشرعية الدينية لقادة «القاعدة» ضعيفة عند المسلمين السنّة، فكيف يمكن لسلطتهم الدينية لوحدها أن تضمن مشروعية الفعل؟ من هذه الناحية فهم لا يُحرجون كثيراً عند إصدارهم فتاوى تضمن للإرهابي خلاصه. يكفي أن نقرأ وصية محمد عطا (حيث يرفض أن تلمس امرأة جسده) لنفهم أن سحر الحوريات ليس ما يدفعه إلى فعله.
في الواقع، يحصل كل شيء وكأن مرشّحنا للهجوم الانتحاري لا يهتم حقيقة بالبعد الفقهي: هو يؤكد يقينه بذهابه إلى الجنة ولكنه يتجنب ذكر التفاصيل.
شعور الانتماء
كيف نفهم إذاً هذا البزوغ العدمي عند جيل من المسلمين أو معتنقي الإسلام؟ لأن الامر يتعلق فعلاً بظاهرة جيل: كبار السن لا ينتحرون؛ أي من كوادر جيل بن لادن لم ينتحر وأي منهم لم يمت وسلاحه في يده (أٌعدم بن لادن عند سريره وكان متمسكاً بالحياة، كما يظهر حذره وكما تظهر ارتباطاته الزوجية). ليس الموضوع إذاً وعوداً بالجنة، ولكنه كذلك رؤية للموت أو لقيمة «اللاحياة» عند جيل شابّ. كان الجواب الذي قدّمه معظم الخبراء هو البحث عن «شجرة عائلة» الإرهاب في الإسلام: هذه العودة الاستقصائية إلى الوراء تنطلق من بن لادن لتعود إلى سيد قطب، ومن ثم حسن البنّا، ومنه نقفز إلى القرن الثالث عشر لنستدعي ابن تيمية، ونحطّ أخيراً في النصوص القرآنية لنقبض على الآيات الانتحارية.
المشكلة أنه من القرآن إلى حسن البنّا، إن جاء ذكر الجهاد أحياناً، فذلك ليس ضمن منظور عدمي، أي ليس ضمن منظور لا تستحق فيه الحياة أن تُعاش. التضحية تأتي ضمن سياق المعركة ولا يخطط لها كموتٍ مشتهى.
ولكن مع سيد قطب (الذي أعدم عام 1963) حصل تغير في اللهجة. كان سيد قطب من الإخوان المسلمين، ولكنه لم يكن يوماً المنظر الأيديولوجي للإخوان، بل لنقل أن كتاباته جذبت شباباً من خارج حركة الإخوان. ما نجده لدى قطب ليس الجهاد، بقدر ما هو تشاؤم عميق حول المجتمع المسلم؛ الفكرة في العمق هي أن الوقت تأخر كثيراً فقد غلبت كفة كلٍ من العلمانية والكفر الجديد (وهو ما يدعوه بالجاهلية)؛ تقهقرنا إلى عصر الرسول بل أسوأ من ذلك، لأن الرسول لن يعود، وليس هناك أمل أمامنا، لقد دُفن الأمل بفعل قلة تقوى البشر وبداية المسلمين منهم.
باختصار، لا يتعلق الأمر بالدفاع عن الجماعة المسلمة في وجه تجاوزات وتعدي الغرب (كما كان الحال بالنسبة لحسن البنّا)،أو بالدفاع عن الشعب الفلسطيني، لأن كل الجماعات على السواء ليست بأفضل قيمة من أعدائها. ينبغي تقفي «إشارات الصراط المستقيم» التي قد تتيح لجماعة «الأنقياء الصالحين» الصغيرة العودة إلى درب الله في عالم نسيها. وهم ليسوا واثقين أنهم سيصلون ذلك الدرب. بعبارة مختصرة، وكما تقول أغنية لها شعبيتها بين الراديكاليين: «غرباء وارتضيناها شعاراً للحياه».
على هذا الشعور من اللاانتماء تنمو عدمية الراديكاليين، وليس على الإطلاق في وحدتهم مع الجماعة التي يضحّون بأنفسهم من أجلها، كما هو حال الفلسطينيين.
يبدو هذا اللاانتماء جليّاً عندما ندرس منفذيّ العمليات الانتحارية اجتماعياً. هذا ما أسميته «اللاإقليمية/ اللاترابية»: فهم لا يقاتلون مطلقاً من أجل جماعة ملموسة من المسلمين، لا يندمجون مطلقاً مع هكذا جماعة لتحليل مكتمل وأمثلة ملموسة، انظر: Olivier Roy, Al-Qaeda in the West as a Youth Movement: The Power of a Narrative, CEPS Policy brief, août 2008. (http://www.ceps.eu/book/al-qaeda-west-youth-movement-power-narrative).. هم يمارسون الترحال الجهادي، وغالباً إلى محيط العالم الإسلامي (الشيشان، أفغانستان، الساحل، بوسنة). ويأتون غالب الوقت من المحيط الغربي (أوربا، الولايات المتحدة). مسارهم يضم غالباً ثلاثة بلدان (بلد الأصل الذي تنحدر منه عائلتهم، بلد منشئهم، وبلد فعلهم وعملياتهم). من بينهم عدد كبير من معتنقي الإسلام (والنسبة آخذة بالتزايد: يبدو أنها تبلغ ثلث الشبان الذين يغادرون إلى سوريا، وكانت في تسعينيات القرن الماضي تدور حول نسبة 20%).
الترسيمة نفسها: رجل أو امرأة «طبيعيـ/ة»، من غير تقوى بالضرورة، ويمكن أن يكون مندمجاً مهنياً أو ذا جنح صغيرة، ثم يغير سلوكه بشكل مفاجئ، يصبح متدينا وينعزل ويخطو خطوته باتجاه الفعل في وقت قصير جداً (لا يوجد خلايا نائمة في القاعدة). القرار ليس نتيجة نضج ديني بطيء ضمن جماعة إيمان (ضمن الجامع مثلاً) بل خطوة مفاجئة نحو الفعل ضمن إطار مجموعة من «الرفاق» منطوية على نفسها وتتوجه نحو الفعل بشكل جماعي. هم لا يتصرفون أبداً تعاضدياً مع جماعة محلية: مثل سيد قطب، يخالون أنفسهم الأنقياء الوحيدين في مجتمع تخلّى عن الفضيلة والمبادئ. دائماً ما يُفاجئ محيط المُقْدم على عملية انتحارية: يُذهل الصحفيون من تشكيك الجيران حين يسارعون بعد العملية الانتحارية لسؤالهم (تتشابه المقالات التي تصف ماضي الإرهابيين بشكل غريب).
سمة أخرى هي أن يعرض الانتحاري نفسه بطريقة مرضية: يُصنع فيلم فيديو ويُعلن فيه عن العملية الانتحارية ويتصور المقدم على العملية مع الأسلحة، وتُنشر إعلانات الحرب على الإنترنت، ويحاولون أحياناً تصوير عملياتهم.
مسألة جيل
ما الخصوصية الإسلامية إذاً؟ القضية طبعاً. ولكن لماذا يتم اعتناق الإسلام للانضمام إلى القاعدة؟ أطروحتي هي أن معتنق الإسلام يفعل ذلك ليخطو خطوته تحو الفعل وينضم إلى القاعدة لأنها أفضل «ماركة» موجودة في السوق للفعل العدمي، الماركة التي تضمن الأثر الأكبر. استقصاء الجذور العائلية للعدمية عامودياً (ما الموجود في القرآن، والذي يؤهّب للعدمية؟) يخفي الفرضية الأفقية: لا تفعل القاعدة إلا التعبير عن عدمية جيلية لا تتحرج من الحدود الدينية.
لأن هذه الظاهرة تنتشر خارج القاعدة، ولكننا لا نريد أن نرى أي صلة. إنها «كولمباين» أي خطو طلاب شباب نحو فعل مفاجئ ليقتلوا أكبر عدد ممكن من الأشخاص في منشأتهم المدرسية ثم يقتلون أنفسهم أو يُقتلون ضمن جمهرة الناس. إنها عشرات الحالات التي نتجت عنها عشرات بل مئات الضحايا في الولايات المتحدة، في فنلندا وفي ألمانيا (ليس في فرنسا ولا في إيطاليا ولا في أسبانيا) في فترة تماثل فترة نشاطات القاعدة.
إلا أنه من الغريب أن نتعامى عن التزامن بين هجمات القاعدة والعمليات الانتحارية لطلاب الثانوية في المدارس؛ لأننا ضحايا غائية زائفة: هجوم القاعدة إسلامي ويحيل إلى السؤال «ماذا يقول الإسلام؟»، في حين أن الهجمات من نمط كولامباين ليست إلا تعبير أفراد معزولين لديهم مشاكلهم النفسية، وماذا لو كانت البنية هي نفسها؟ الفرق أن القاعدة تغذّي بعداً دينياً وسياسياً للفعل، في دفاعٍ عن «أمة» (جماعة) مفترضة لا توجد إلا في مخيال أفرادها الأعضاء، في حين أن شاب كولامباين هو خارج كل مرجعية جمعية (ولكنه مع ذلك ييدع ويستبطن هو أيضاً أنداداً من أقرانه وله جمهوره)، عرض الذات نفسه، الكره اللا متمايز نفسه (لا يوجد أبرياء، كما كان يقول الأناركي إميل هنري في عام 1894 حين رمى قنبلة على قهوة ترمينوس في باريس)، الانقلاب الفجائي نفسه على المحيط القريب، البحث عن البطولة نفسه، ولكن بطولة سلبية، البحث عن نفسه…..، خطاب الأقرباء نفسه (كان صبياً طبيعياً، حتى ذلك اليوم الذي انغلق فيه على نفسه) وغالباً مفعول المجموعة نفسه (يحضّر العملية اثنان أو ثلاثة). وللغرابة، لا يوجد فتيات في كولامباين: وماذا لو كانت القاعدة أكثر نسوية؟
المسألة المفتاحية هي إذاً أشكال العدمية التي يعبّر عنها الشباب الغربي، وإن كان هذا لا يفسّر كل «القاعدة» بالطبع، ولكننا لن نفهمه إن لم ندخله في سياق عالم معاصر، عوضاً عن إغلاقه في استثناء مسلم لا يفسّر شيئاً، لأنه، هنا بالذات، لا شيء استثنائي.