منذ فترة ليست بالبعيدة، ومع بداية الحراك الشعبي السلمي للثورة السورية، ظهر مصطلحا «جوّا» و«برّا»، إشارةً إلى أهل الداخل السوري وأهل الخارج، وكانا معياراً شبه وافٍ لتصنيف الناشطين مكاناً وانتماءً، بغضّ النظر عن طبيعة العمل الثوري أو أي صفة أخرى متعلّقة بالثورة.
معظم أهل الـ«جوّا» كانوا من المنخرطين في نشاطات التظاهر على اتّساعها وفي العمل الميداني بمختلف جوّانبه، أو من الموقنين قلبياً بضرورة إتمام هذا الطريق، وكان الحنق ملازماً لهم على أهل الـ«برّا» الذين يُعتبرون خارج نطاق «أكل العصي» وداخل دائرة «عدّها» فقط، وهذا مهما كان الجهد الثوري المبذول من قبل البرّانيين، إن وضع في الميزان مع التعرّض اليومي للموت وحالات الاختفاء القسري والملاحقة والاعتقال والتعذيب والاغتيال، وكافة أصناف العذاب الذي يتعرّض له أي عمل يُظهر تأييداً للثورة أو معارضةً لنظام القتل.
الحالة الثورية منذ نشأتها وتطوّرها المتلاحق ‒وأعني هنا الحالة الثورية الحاملة للنشاط المدني‒ عُزّزت ونُظّمت في أوجها من قبل عدة هيئات، كاتحاد تنسيقيات الثورة السورية ولجان التنسيق المحلية وأيام الحرية وغيرها، إلى أن استحالت هذه الأيام مجموعات شبابية متفرقة، وإن كانت متخصّصة بشكل أكبر، غالباً ما تنطوي تحت أجنحة منظمات كبيرة سورية، عربية أو أجنبية.
في واقع هذا التحوّل الحتميّ بإيجابياته وسلبياته وما له وما عليه، عادت هذه المجموعات إلى تنظيم نفسها والاستقلال، لكن بشكل أقلّ فعاليةً مما كانت عليه على الصعيد الحراكي الثوري «الشعبي»، وأقلّ ترابطاً فيما بينها، وأكثر تمأسساً وفرديّة وحضوراً مادّياً واضحاً.
انحسار النشاط المدني وتفكّكه بهذا الشكل، وإيمان قّلة من شباب الثورة بجدواه في حضور صوت المعركة الطاغي، أدّى إلى خلق فجوة كبيرة وهائلة بين المجتمع المدني والناشطين المدنيين المتوجهين لهذا المجتمع، وذلك لأسباب عديدة أهمّها أولوية التمويل لمشاريع في الدول المجاورة على حساب مشاريع الداخل، وقلّة الأشخاص المستعدين لترك عملهم في منظمات دول الجوار والانتقال إلى بلاد الخوف والموت، أو انعدام ثقافة بناء مجتمع مدني متكامل كبديل لنظام ساقط في المناطق المحرّرة في ظل غياب الدولتين الأسدية والمعارضة المفترضة الهلامية الجديدة!
في احتفالات الذكرى السنوية الثالثة للثورة السورية قامت العديد من الفعاليات المهمة لإحيائها في المناطق المحرّرة كحلب وإدلب، وتنوّعت النشاطات من تظاهر وبخّ على الجدران وعرض أفلام وثائقية ومسرحيات وتعليق صور وأسماء الشهداء، وغيرها الكثير…
ولكن كان هناك غياب ملموس للمشاركة الشعبية فيها، أي مشاركة الأهالي. كانت مظاهرة كفرنبل، على سبيل المثال، ذات جوّ نخبوي صافٍ، تعجّ بالأطفال والإعلاميين ومنظّمي الاحتفالية فقط: حركة الشارع عادية، الأعين تترقّب السماء خشية غدر الطيران المتوقّع في هكذا زمان وهكذا مكان، أصحاب المحلات والمارّة يشاهدون الحدث ويمرّون مرور المحايد تماماً… هم أنفسهم من حافظ حتى وقت قريب على إبقاء المظاهرات جماهيرية.
هذا الغياب المتّكل على ملل الناس وانشغالهم بالحصول على لقمة العيش والكفاف، وهاجس كبير يعيشون حِذره عن احتمالية عودة النظام، أو حالة متفشيّة من اليأس والتعب التي جرّتها ثلاثة أعوام سابقة مليئة بالموت والفقد والقصف مقابل لا شيء، هلع مقابل لا شيء…. كل هذه العوامل شاركت في تغييب المزاج الشعبي لخلق بيئة جادّة تصلح كحاضنة لمجتمع مدني. حتى الفعاليات التي كانت ذات تخطيط مسبق من قبل هيئات وتجمّعات لم تلقَ تفاعلاً حقيقياً، ناهيك عن المشاركة. عدم التفاعل هذا مرآة للإيمان باللاجدوى.
يتحمّل النشطاء ومن لا زالوا مؤمنين بفعالية الحراك المدني جزءاً كبيراً من خسارة هذه الحاضنة الشعبية للثورة، سواءً من فقدان التواصل البشري مع المجتمع إلى ندرة التخطيط الإستراتيجي المدروس لمشاريع مدنية ثابتة ومنتجة طويلة الأمد.
لن يجدي الاعتماد على بعض القنوات والصلات الإعلامية لتضخيم أصغر المظاهرات ونشر اللافتات التي ما زالت تُرفع، أو للترويج للاحتفاليات التي تسوّق إعلامياً في ظل غياب احتفال شعبي حقيقي لها. ومن العبث إطلاق اسم فعاليات ثورية على أشياء هي فعاليات خاصة فقط بالنشطاء والإعلاميين والنخب الثورية، إن صحّ التعبير.
الالتفات للشعب ولمصالحه أولى خطوات الإيمان بمبادئ الثورة الأولى، وتغييب قراراته ومشاركته وإغفال رجع الصدى عن أي فعالية يُنذر بفشل أغلب ما يُصنع مؤخراً. هناك العديد من المشاريع العظيمة التي تنبت وسط الدم والدمار، لكن هذا التخلخل الذي يطغى على المزاج العام يحتاج أيضاً إلى هيئات تنظّمه، بعيداً عن الحكومات والمجالس والتكتّلات السياسية، ويحتاج إلى هيئات شعبية مناطقية تتحمل عبء مناطقها الأقرب فالأقرب.
النشطاء الـ«جوّا» ليسوا «جوّا» تماماً، وهذا الانفصال يجعلهم في «الخارج»، خارج البيئة التي من المفترض أن تعيد خلق الثورة من ذاتها كل مرة حتى لو بَلَت؛ خارج الدائرة الشعبية التي علينا ان نتذكر أننا لسنا في خدمتها بل عليها أن تخدم ذاتها في ذاتها. دور النشطاء هو خدمتها في الوصول إلى الإنتاج، وليس تقديم المنتج، حتى لو كان فكرياً.
اقتصار المشاريع على فكرة «تقديم يد العون» هو وهم مدني. وتفكّك المشاريع بلا هيئات متخصّصة تدمج الخبرات وتطرح الأفكار وتكرّس الخبرات لن يؤدي إلى خلق جسد مدني صحّي طويل الأمد. والإيمان بجدوى هذه المشاريع يعادل الإيمان بجدوى المعارك.
دائماً هنالك صوت يعلو «مع» صوت المعركة، وهو صوت الغد.
وطالما كانت الفكرة المجرّدة صنماً، فالإيمان بالشعب المكلوم نفخ روح في هذا الصنم، لأن الأفكار في خدمة الشعوب والأرض والسماء.