تعيش الصحافة في أزمة وجوديّة منذ سنوات عديدة، كضحيّة، بشكل أساسي، لمنطق المال والسوق الذي حوّل وسائل الإعلام إلى ماركات تجاريّة بحتة، تُدار ويتقرّر مصيرها وفق مصالح المموّلين والشركات المالكة الاقتصاديّة؛ وضحية أيضاً، وإن بدرجة أقل، للتحوّلات الجذرية التي يعيشها منطق الإعلام وانتقال الخبر والمعلومة والرأي منذ تبلور الإنترنت كوسيط رئيسي. ضربت هذه الأزمة الصحافة المكتوبة بشكل أساسي، ولا سيما الورقية منها، فبشكل شبه أسبوعي تتناقل وسائل الإعلام أخبار إغلاق جرائد ومجلات عريقة وشهيرة، أو، على الأقل، توقّفها عن توزيع منتوجها مطبوعاً والاكتفاء بالنشر على صفحات الانترنت. هذا، على الأرجح، ما ستواجهه جريدة ليبراسيون الفرنسيّة قريباً، فالجريدة العريقة (أسسها الفيلسوف الوجودي الفرنسي الشهير جان بول سارتر عام ١٩٧٣) عاجزة عن تحقيق استقرار مادّي يوقف نزيفها الاقتصادي المستمرّ منذ سنوات.

لا يتوقّف الأمر عند تهديد وجود وسائل الإعلام المكتوب، فحتى تلك الصحف والمجلّات التي ما زالت تحتفظ باستقرارها بالحدّ الأدنى أُجبرت على إعادة هيكلة ميزانياتها بقسوة شديدة، وجهود التوفير المادي أصابت بشكل خاص شبكات المراسلين حول العالم، وأيضاً الميزانية المخصّصة لتغطية الحروب والنزاعات. أصبح الاعتماد على «طبخ» الموادّ المُشتراة من وكالات الأنباء عن بُعد طريقةً مألوفة لتغطية أنباء المناطق التي لا ميزانيات لإرسال مراسلين خاصّين إليها. شراء المواد «بالقطعة» من صحافيين «فريلانس»، وبأسعار تتدنّى يوماً بعد يوم، هي طريقة أخرى لتوفير المال، حيث لا تُضطر الجريدة لدفع مرتّبات ولا رواتب تقاعدية، وأيضاً تتحرّر من دفع مبالغ طائلة لشركات التأمين لإرسال مراسلي حرب. ويبدو أن الخطر الذي يتعرّض له الصحافيون الفريلائنس مقابل مبالغ أقل بكثير مما يتقاضاه مراسل حرب متعاقد لا يكفي، إذ يعانون أيضاً من تأخّر وسائل الإعلام في دفع المستحقّات، هذا إن دفعت. دييغو ريبريسا، وهو صفحي فريلانس إسباني، نشر في موقع متخصّص بالمطالبة بمستحقّات الصحفيين أن جريدة لا غاثيتا الإسبانية مَدينة له، منذ أكثر من عام ونصف، بـ٦٠ يورو (لا خطأ في طباعة الرقم: ستين يورو) قيمة تحقيق صحفي أجراه في داخل سوريا!

في الحالة السوريّة، تعتمد وسائل إعلامٍ كثيرة على ناشطين إعلاميين محليين، «مواطنين صحفيّين» لا يتمتّعون بالخبرات الصحفيّة الكافية ليتصدّوا لمسؤولية كهذه، بالإضافة إلى عدم تجهيزهم لا بإرشادات السلامة ولا بأدواتها (خوَذ، سترات واقية من الرصاص…)، كما أنهم في النهاية «ناشطون» وليسوا صحافيين بالمعنى المهني الدقيق المتعارف عليه، ما يجعل مادّتهم عُرضة للتشكيك السهل والدائم من قبل أوساط صحفية وسياسيّة. الألم الأكبر، إنسانياً، يأتي من أن حياتهم رخيصة لدرجة أن وسائل الإعلام ومؤسّسات عديدة معنيّة بحرّيات الإعلام لا تكترث بتظهير مأساتهم، وترفض توثيق مقتلهم على أنه موت صحفي أثناء أداء عمله في «منطقة نزاعات»، رغم أنهم يُقتلون بالعشرات كلّ عام، استهدافاً أو أثناء القصف، على يد النظام أو الجماعات المتطرّفة مثل «داعش».

في السادس عشر من أيلول الماضي، خطفت «داعش» الصحفيّين الإسبان خابيير اسبينوزا وريكاردو غارثيا-بيلانوبا قرب تلّ أبيض، شمال محافظة الرّقّة، حين كانا في طريقهما للخروج باتجاه تركيا برفقة إحدى كتائب ’الجيش الحر‘. لم يُعلن عن الاختطاف في الأشهر الثلاثة الأولى رغبةً من عائلتي الصحفيين بمحاولة المفاوضة مع الخاطفين دون ضجيج إعلامي قد يُساهم برفع مُطالبات «داعش» مقابل الإفراج عنهما، لكن عقم محاولات إيجاد حلّ بعيداً عن الأضواء دعا عائلتي المخطوفين وأصدقاءهما لإعلان الخبر في العاشر من كانون الأول، مطلقين حملةً إعلامية للدعوة للإفراج عنهما تحت اسم «صحافة حرّة، سوريا حُرّة» (FreePressFreeSyria#). وقد جاء عنوان الحملة متناسباً مع التاريخ المهني لاسبينوزا وغارثيا-بيلانوبا، فكلاهما يُدافع عن دور الصحافة كجزء من النضال مع القضايا الإنسانيّة والتحرّرية، بعيداً عن منطق الحياد البارد. غارثيا-فيلانوبا مصوّر فوتوغرافي ذو سمعة طيّبة في الأوساط الصحفيّة العالميّة، نُشرت أعماله في منابر بأهمية الواشنطن بوست والنيويوركر واللوموند، ونال أكثر من عشر جوائز وترشيحات وتنويهات في محافل عالمية رائدة في مجال التصوير الفوتوغرافي الصحفي، وقد عمل بشكل أساسي في حلب، حيث قضى أسابيع طويلة مقيماً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وعلى خطوط الجبهة؛ في حين اشتُهر لاسبينوزا بشكل خاص عمله من داخل بابا عمرو أوائل عام ٢٠١٢، حيث شهد الحصار والقصف الوحشي الذي تعرّض له الحيّ الحمصي، ونجا بأعجوبة من استهداف المركز الإعلامي لبابا عمرو، هناك حيث قُتلت الصحافية الأمريكية ماري كولفن وزميلها الفرنسي رينيه أوشليك، ليخرج من الحي في اليوم الأخير من شباط من ذلك العام ضمن القوافل الأخيرة التي انسحبت قبل دخول قوّات النظام السوري. أعلن النظام السوري يومها، عبر وكالة «سانا» الرسمية، أنه وجد جثة خابيير اسبينوزا عند دخوله الحيّ، مطالباً السلطات الاسبانية بالتحرّك لاستلامه، رغم أن اسبينوزا كان قد وصل إلى بيروت في ذلك الحين ونشر تفاصيل قوافل الخروج من الحيّ على صفحات جريدة إل موندو الاسبانيّة، حيث يعمل مراسلاً في الشرق الأوسط منذ أكثر من عقد.

أُفرج عن خابيير اسبيوزا وريكاردو غارثيا-بيلانوبا في الثلاثين من آذار الماضي. قبلها بأيام، أفرجت جماعة مرتبطة بـ«داعش» عن الإسباني مارك مارغينيداس، مراسل صحيفة لا بانغوارديا البرشلونيّة، والذي كان قد خُطف في ريف حماه قبل نحو أسبوعين من خطف اسبينوزا وغارثيا بيلانوبا في ريف الرقة الشمالي. غطّت الصحافة الاسبانيّة بفرحٍ مفهوم خبر الإفراج عن الصحفيين الثلاث، ونوّهت بجهود الحكومة الاسبانيّة في استرجاع مواطنيها من الأسر لدى الجماعة التكفيريّة. لكن الاهتمام الصحفي بالقضيّة خفت سريعاً، تاركاً دون تغطية قصّة تخصّ أحد هؤلاء الصحافيين، وتنفع كمثالٍ عن الأزمة العميقة للصحافة اليوم.

اسبينوزا ومارغينيداس موظفان في مؤسسات إعلاميّة، لديهما دخول مادّية ثابتة وتعويضات وتأمينات، لكن غارثيا-بيلانوبا صحفي فريلانس، يعتاش من بيع أعماله بالقطعة، أو من عقود مؤقتة مع جهات إعلامية لا تدوم أكثر من أسابيع قليلة. يجد غارثيا-بيلانوبا نفسه اليوم في ضائقة مادية كبيرة، فهو بلا دخل منذ اختطافةه قبل سبعة أشهر، ولا قدرة لديه على شراء معدّات عمل جديدة (كاميرات، عدسات… الخ) بعد أن سرق عناصر «داعش» معدّاته. لذلك، أطلق الصحفي البريطاني نيك باتون والش، مراسل شبكة CNN في بيروت وصديق غارثيا-بيلانوبا، حملةً افتراضيّة على أحد مواقع جمع التبرّعات لتجميع مبلغ يُساعد غارثيا-بيلانوبا على شراء معدّات جديدة والعيش حتى استعادة المقدرة على العمل. استطاعت الحملة حتى الآن ‒التي تنتهي في الثامن عشر من نيسان الجاري‒ جمع أكثر من ١٦ ألف يورو من الـ٢٠ ألفاً المطلوبة.

سوريّاً، تتعدّى أهمية هذه القصة كونها قصة شخصية، غريبة بعض الشيء، لصحفيّ خُطف في سوريا، بل هي أيضاً تصوير لمعاناة الصحافيين المستعدين لتعريض أنفسهم للخطر مقابل الحصول على مادّة صحفيّة من مكان الحدث، والمصاعب التي يواجهها حتى الصحفيون ذوو السير ذاتية اللامعة، كغارثيا-بيلانوبا. وسائل الإعلام الكبرى تُحجم اليوم عن إرسال عامليها إلى الأراضي السوريّة الخارجة عن سيطرة النظام، حيث تتضاعف كلفة العمل المادية والخطر المحدق بالصحفي من موت تحت القصف أو خطف على يد جماعات متشدّدة أو عصابات إجراميّة. عدد غير قليل منها يقبل دعوات النظام لإرسال مبعوثين إلى مناطق سيطرته، وتُروى حكايات الجولات المُدجّنة هذه على أنها مادّة صحفيّة «من قلب الحدث». عدد آخر من وسائل الإعلام يكتفي بتعيين من تعتقد أنه الأقرب لفهم الشرق الأوسط من موظّفيها، ليُكرر «طبخ» ما يقرؤه أو يسمعه عن سوريا في وسائل الإعلام الأُخرى من مكتبه، بعيداً عن أرض الحدث بمئات أو آلاف الكيلومترات.

الواقع السيء للتغطية الإعلامية العالمية للمجريات في سوريا يدفع للإيمان بأن شعار FreePressFreeSyria#، الذي أطلقه أصدقاء الصحفيين الإسبان المخطوفين حينها، أعمق وأبعد بكثير من المطالبة بإطلاق سراح الصحفيين المخطوفين (على أهمية هذه المطالبة)، بل هو يعني المرافعة من أجل إعلام حرّ بكل ما في الكلمة من معنى، يغطي معاناة السوريين في بلادهم بعيداً عن أغلال المحسوبيات السياسية والحسابات المادية للإمبراطوريات الإعلامية.

روابط:

رابط حملة جمع التبرعات: http://www.youcaring.com/other/for-ricardo/157315

رابط صفحة المطالبة بمستحقات الصحفيين: http://www.beaconreader.com/pay-me-please