مدخل مفاهيميّ
ما إن صدر كتاب الفيلسوف الإبستمولوجي توماس كوهن بنية الثورات العلمية Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, Third edition 1996, The University of Chicago Press. عام 1962 حتى تحول مفهوم «الباردايم» paradigm إلى ثورة مفاهيمية ومنهجية بحد ذاتها، حيث تم استعارة مفهوم الباردايم من اللغة العلمية المخبرية لكوهن وتطبيقه على العديد من مجالات العلوم الإنسانية بما في ذلك السياسة. لا شكّ أن كوهن لم يخترع هذا المفهوم من العدم وإنما استعاره من اللغة الإغريقية حيث تعني كلمة παράδειγμα/paradeïgma «النموذج» أو «المثال». وفقاً لأصله اللغوي، الباردايم هو رؤية معينة للعالم؛ هو نموذج ذهنيّ أو تصوريّ يصبح معياراً نتمثّل من خلاله العالم بشقّيه الطبيعي والاجتماعي. إنه أداة تواصلنا مع العالم نظرياً، ولكنها بقدر ما تُساعدنا على تمثُّل العالم بصورة معيّنة فإنها تحجب عنّا إمكانية رؤيته من زاويا أُخرى مختلفة.
في كتابه ذاك يؤكّد كوهن على أنه عندما يسيطر نموذج ما على حقبة أو فترة تاريخية معينة، فإنه يفرض نفسه ورؤيته للعالم والأشياء على أنها حقيقة لا جدال فيها. يرى كوهن أن تغيّر باردايم علمي مسيطر لا يحدُث إلا بثورة عليه يحلّ فيها الباردايم الجديد محل القديّم، فتتغير نظرة الإنسان كُليّاً إلى العالم والأشياء. ولكن كيف يمكن أن يكون ذلك؟ حسناً، يرى كوهن أن مجموعة من الأسئلة والتناقضات تظهر في الباردايم السائد الذي يتم من خلاله تصور العالم في حقبة تاريخية ما، ثم لا تلبث أن تتضاعف وتتراكم الأسئلة التي بقيت بدون جواب وتتعاظم التناقضات الصارخة في قلب الباردايم السائد مما يُحيل هذه الأخير إلى أزمة حقيقية يتم تجاوزها بثورة تُطيح بالتصور القديم وتقدّم تصوراً جديداً يغيّر تماماً من نظرتنا للعالَم والأشياء والحقائق. يسمي كوهن هذه الثورة في النظرة للعالم بتغير الباردايم paradigm shift.
دعونا الآن نخرج قليلاً من لغة العلوم الدقيقة وندخل في عالم الأيديولوجيات السياسيّة والاجتماعية، في محاولة فهم ما أقصده هنا بعنوان «الثورة السوريّة وتغيير باردايم السياسة»!
قد يعترض معترض هنا بالقول: ولكن لماذا التفلسُف الزائد واستخدام مصطلح «باردايم سياسيّ» مكان مصطلح «نظام سياسيّ»، فهذا الأخير أكثر تداولاً وفهماً من مصطلح «الباردايم»؟ ما أود التأكيد عليه هنا هو أنني أميّز ما بين «النظام» و«الباردايم»، فهذا الأخير أوسع وأشمل وهو الإطار النظريّ العام الذي ينشأ منه أو تحت غطائه أو تحت اسمه نظام سياسيّ ما. النظام السياسيّ بفهمي هنا هو تطبيق جزئي لباردايم نظريّ عام، وعليه فإنه قد يحدث تغيير نظام سياسيّ بآخر دون أن يكون هذا الأخير قد خرج من إطار الباردايم العام نفسه. بمعنى أن بحثي هنا يتركز على تغيير جذري لتصور السياسة وأساسها النظري المتمثّل بباردايم القومية العربية ودولة الممانعة العسكريّة.
لعل مفهوم كوهن عن تغيّر الباردايم يناسب الأيديولوجيات أكثر مما يناسب العلوم البحتة. فتغير باردايم الأيديولوجيا يظلّ، بالنسبة لي على الأقل، أوضح بالكثير من تغيّر باردايم العلوم. الأيديولوجيات لا تحتاج إلى مخابر وتجارب وقوانين تكميمية لتفرض تصوّرها أو لنكتشف معضلاتها وتناقضاتها بقدر ما تحتاج إلى وسائل إقناع بلاغية وبرامج دعائية وبروباغندات إعلامية لتستقطب الجمهور وقوى التغيير، وهذا يحصل غالباً بوتيرة أسرع من تغير الباردايمات والثورات العلمية. وبنظري فإن بارادايم الأيديولوجيا أكثر سيطرةً وحضوراً وهيمنةً على الوعي واللاوعي مما هو عليه الحال في باردايم العلوم. يُظهر لنا التاريخ البشري مدى قدرة ما أسميه ﺑ«باردايم الأيديولوجيا» على السيطرة والهيمنة على العقول وقولبتها ليتجلى ذلك في العلاقات الاجتماعية والعائلية والسياسيّة بل والاقتصادية أيضاً وتغييرها.
لنأخذ مثلاً أيديولوجيا الاشتراكية الماركسية، كأحد أبرز الأمثلة التي أخذت شكل الباردايم السياسيّ وفرضت تصوراتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وحتى مزاعمها العلمية، بوصفها حقيقة، ولعل هذا ما يتجلى في مفرداتها مثل الحتميّة التاريخية أو الماركسية العلمية الخ. لقد قدّم الباردايم الماركسي رؤيةً غيّرت فهم العالَم على أساس رؤى جديدة للطبقة والعمل والإنتاج والنضال السياسيّ، بل والنظرة إلى الأدب والفلسفة والعلوم الخ. ما أريد التأكيد عليه هنا هو أنه، ومع تغير الباردايم السياسيّ، يقوم هذا الأخير بمحاولة التخلص بالكامل من آثار الباردايم الأيديولوجي السابق وإعادة تفصيل (ليس الواقع بالضرورة) فهمنا للواقع بما يتلاءم مع نظرة الباردايم وآرائه التي يفرضها على أنها حقيقة الحقائق. إن ثورة الباردايم هنا تشبه عملية إعادة «فرمتة» العقول وتلوين المجتمع بلون الأيديولوجية المفروضة. ولعل قوة وحضور باردايم أيديولوجي لا تطال فقط العامة التي لم تحترف النظرة النقدية المشِّككة بالواقع وإنما قد تطال عقول كبار المفكرين والمثقفين. لنتذكر في هذا الصدد أنه، ومع هيمنة وامتداد وطغيان الباردايم الاشتراكي الماركسي الذي فرض نفسه على مدى ثلاثة أرباع القرن العشرين، فإن العديد من أبرز المثقفين عالمياً وعربياً قد تبنَّوا هذا الباردايم ودافعوا عنه وتكلموا بلسانه وساهموا في تثبيته واستمراره. وإذا كان يمكن لنا اليوم ببساطة لوم أولئك المثقفين الذين انسحبوا من هذا الباردايم الأيديولوجي وراحوا يبرّرون سبب انخراطهم به قبل أن يقوموا بنقده، كما لو أنهم يشعرون بالذنب والخطيئة، فإنه من الصعب علينا ذلك في لحظة احتلال باردايم ما حيّزَ الفكر والثقافة والعمل. ما أودّ قوله هنا أن من السهل علينا انتقاد تصور أيديولوجي معين بعد انقضائه (غالباً ما يكون النقد هنا من وجهة نظر الباردايم الجديد الذي حلّ محل الباردايم موضع النقد)، ولكن من الصعب جدّاً رؤية الأمور من الخارج ونحن في بوتقة الحدث وداخل تكونه وتفاعله في لحظة هيمنته التاريخيّة لعل هذا يتوافق مع ما ذهب إليه ماركس في كتاب مساهمة في نقد الاقتصاد السياسيّ بقوله: «فكما أننا لا نستطيع الحكم على فرد ما وفقاً للفكرة التي كوّنها عن نفسه، كذلك فإننا لا نستطيع الحكم على فترة مُضطربة بناءً على وعيها بنفسه». انظر: Karl MARX, Contribution à la Critique de l’Économie Politique, Traduit de l’allemand par Maurice Husson et Gilbert Badia, Paris : Éditions sociales, 1972, p. 19.. هكذا يمكن لنا هنا أن نتقد وبشدة أيديولوجيات سابقة ونعتها بالزيف التاريخي كما فعل الباردايم الإسلامي مثلاً بمحاولته كنس الباردايم السابق على الإسلام واتهامه بالجاهليّة، أو باردايم الحداثة الأوروبيّة بنقده القاسي لباردايم العصور الوسطى الكنسيّة واتهامه بالانحطاط والتخلف والهيمنة الشمولية، ونحن نعرف كيف قام باردايم «ما بعد الحداثة» بتعرية مفهوم الحداثة واتهامه بالأداتية العقلية والهيمنة والسيطرة والاستعمار والحروب الخ…
ما أودّ الخلاص إليه هنا هو التأكيد على أن تغيير الباردايم هو تغيّر في تصور العالم بشقيه الطبيعة والمجتمع. تغير ذهني في الوعي واللاوعي يُبطل التصورات السابقة ويلغيها تماماً ويحلّ محلها بالكامل. ولكن لذلك التغيير أسبابه التي يمكن لي أن أوجزها بثلاثة أسباب رئيسيّة:
أولاً تآكل الباردايم القديم، حيث سيتركز حديثنا في هذه الورقة على تآكل باردايم حزب البعث وانفضاح سياسة الممانعة الأسدية وظهور التصدعات والتناقضات والانحرافات فيه وعدم تأقلمه مع المتغيرات الجديدة التي تقدّم الأساس التاريخي الضروري والأدوات اللازمة لتغييره، وثانياً توفر الإرادة اللازمة لحذفه وتغييره وكَنس آثاره بثورة جديدة، وهنا يبرز دور الثورة السورية كأداة وإرادة إسقاط لباردايم البعث والممانعة الكاذبة وثالثاً اكتمال تصور باردايم جديد يؤدي حلوله ووضعه موضع الممارسة إلى زوال ونسيان ودفن آثار الباردايم السابق، حيث سنجتهد هنا في تقديم تصورات أوليّة ممكنة لمشروع باردايم جديد بما يتلاءم ودولة المواطنة والديمقراطية الحديثة.
هكذا سينقسم بحثنا من الآن إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تآكل باردايم حزب البعث ومزاعم الممانعة الأسديّة الكاذبة
دون أن أتحامل بالمجان على فكر حزب البعث كما يفعل البعض اليوم، ودون أن أبجّله وكأنه دين مُقدّس كما يفعل آخرون، فإنني سأحاول في هذا القسم توخّي الموضوعية في محاولة نقدية تفكيكية بهدف تعرية تناقضات وتراكمات مشاكل باردايم حزب البعث العربي الاشتراكي وتقادم رؤاه وتعفُّن مؤسساته السلطوية في سوريا وتوضيح الحاجة الضرورية لتغييره.
بما لها من مواصفات الباردايم، فإن الأيديولوجيا تفرض أفكارها وتصوراتها وآرائها ورؤاها ومعتقداتها على جماعة معينة أو حزب معين ولكنها تنتهي إلى هيمنة شمولية بدون منافس في الدول الاستبدادية، كما هو حال حزب البعث في سوريا، المسيطر الوحيد فعلياً كباردايم سياسي منذ سبعينيات القرن الماضي. ولكن أيضاً وبما تشترك به جزئيّاً مع الباردايم، فإن الأيديولوجيا تسقط بعد فترة من الهيمنة والسيطرة عندما تبدأ تناقضاتها ومشاكلها تتراكم مع الوقت، مما يؤدي بالواقع إلى تجاوزها واستبدالها بباردايم أيديولوجي جديد. وقد تنتهي أيديولوجيا ما إذا بقيت أفكارها حبيسة نفسها دون أن تتمكن أن تترجم نفسها في الواقع أو أن تجد معادلاتها السياسية على الأرض، لطوباويتها مثلاً أو لعدم تناسبها مع روح العصر.
إن أية أيديولوجيا تُطرح في واقع ما وتستطيع خلع تصوراتها عليه وتغييره بشكل ما ستصبح عرضة للتجاوز بعد زمن، وذلك لتراكم المشكلات فيها وظهور تناقضات تجعل من استمرارها أمراً مُعيقاً. وبمعنى آخر إن الباردايم الذي يفرض نفسه كأيديولوجيا تظهر على أنها تقدميّة في لحظة تاريخية ما يصبح كابحاً معيقاً للتغير بعد زمن. هكذا فإن الفكرة التي بدت في لحظة تاريخية ما فكرة خلاصية دافعة للأمام، تصبح لاحقاً سجناً نظرياً وفكرة تأخراتية معيقة يجب التحرّر منها أو هدمها عبر ثورة تعلن فيها عن وفاة بردايمها والاحتفال بولادة باردايم آخر.
لو انطلقنا من هذه المقدمات النظرية لوجدنا أن حزب البعث العربي الاشتراكي قد تكوّن نظرياً في إطار هيمنة باردايم القوميات الذي وُلد مع نهاية القرن الثامن عشر، قبل أن يفرض هذا الأخير رؤيته الأيديولوجية ويعيد رسم خارطة العالم على أساس قوميّ في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. هكذا حل باردايم القوميّة في أوروبا مكان باردايم المَلَكيّة، الذي صار يُسمى في فرنسا مثلاً ‒بعد أن حل الباردايم الجديد مكانه‒ بالنظام القديم Ancien Régime. بتأثره المتأخّر تاريخياً بالباردايم القوميّ، تبنى حزب البعث بمنطلقاته النظرية الأولى خليطاً من الخطوط العريضة لباردايم القوميات الأوروبيّة، أي تلك الدول القومية nation-states الحديثة التي اعتمدت على قوانين مدنية حديثة في نشوئها ودساتيرها وسياساتها (الداخليّة على الأقل).
ولكن باردايم الدولة القومية قد تعرّض مع الزمن، وفي موطن نشأته وهيمنته وسيطرته، إلى تناقضات وتغيرات أثرّت عليه من الخارج: ليس أولها «انتهاء» سقوط منظومة الاتحاد السوفيتي وضرورة إيجاد التكتّلات الاقتصادية والسياسيّة لمواجهة الهيمنة الأمريكية ذات القطب الواحد، وليس آخرها العولمة بكل ما تحمله من كسر لحواجز القوميات. كل ذلك عمِل ولا يزال يعمل (ولكن بشكل غير ثوريّ سريع بل تدريجيّ) إلى تغيّر باردايم القوميّة بنيوياً. حمل باردايم حزب البعث تناقضات باردايم القوميات ‒ولكن ظهرت في نسختيه المعروفتين، العراقية والسوريّة، تناقضات أخرى ومشكلات إضافيّة كبيرة وعميقة ومختلفة أدّت إلى تصدعه وأبرزت ضرورة الثورة عليه والبدء من جديد.
سأحاول هنا تتبُّع الخلل الذي لحق ببردايم القومية بالعموم وما استجدّ عليه كذلك في إطار تجربة البعث فكراً و«ممارسة» عبر معالجة عدّة مفاهيم، كالقومية والاشتراكيّة والممانعة.
1- فكرة القومية: لا شك أن مفهوم القوميّة قد لعب دوراً أساسيّاً في نشوء الدولة-الأمة بمفهومها الحديث، مُحدّداً بذلك حدود ومقومات تكون الدولة-الأمة في بلدان الغرب الحديث. ولكن يجب الاعتراف أيضاً أن فكرة القومية كانت من أخطر المفاهيم الحديثة وأكثرها قابلية للانحراف، لما تتضمنه من عصبية وعرقية هوياتيّة تقود إلى حروب خارجية وإلى اضطهاد وإقصاء للأقليات التي لا ينطبق عليها مقومات القومية التي يتم تقديسها في بلد ما. تفترض القوميّة هويّة ما يتحدد من خلالها شعب ما في مقابل غيره من الشعوب والأمم، مما يؤدي إلى التعصب إلى الهويّة القومية إلى درجة العنصرية racism لقد سبق للمؤرخ الماركسي البريطاني إريك هوبسباوم أن درس طبيعة الترابط بين القومية والعنصريّة وافترض أن العلاقة بينهما عضوية واضحة. انظر في ذلك مثلاً كتابه: E. J., Hobsbawm, Nations and Nationalism since 1780, Cambridge University Press, 1990, p. 2. وهذا ما عرفته مثلاً بلدان الغرب الأوروبي في النصف الأول من القرن العشرين. لأسباب قوميّة قبل كونها أي شيء آخر، استعر الصراع الفرنسي-الألماني في الحرب العالمية الأولى. ونحن نعرف جيداً أن فكرة القومية كانت المنطلق الأساسيّ لظهور الفاشيات الأوروبية، وبخاصة النازية الهتلرية في ألمانيا التي غذّت النزعة القوميّة معتبرةً أن قوميتها هي الأرقى والأقوى والأجدر بالحياة: «ألمانيا فوق الجميع» الخ. ويُظهر لنا التاريخ بشكل واضح أن الفاشيات على اختلافها هي أكثر من تغنى بفكرة القوميّة.
هكذا فإن من بين المشاكل التي ظهرت في إطار الباردايم القومي العربي الاشتراكي لحزب البعث هناك مشاكل بنيوية تأسس عليها نظريّاً. إن ما أقصده هنا هي المثالية الطوباوية الحالمة أو الماضوية الميتافيزيقية الماهوية الثابتة التي، وبسبب مثاليتها، ظلت مغتربة بشكل ما عن الواقع وغير قادرة على إيجاد معادلاتها السياسيّة فيه. فالأمة مثلاً لدى زكي الأرسوزي، أحد أهم منظريّ القومية العربية، هي ماهية سابقة على الوجود العربي وهي الإطار المكوِّن له والمُقدَّم عليه زمانياً وأنطولوجياً. هكذا تختلط المفاهيم المؤسسة لدى الأرسوزي بمثاليات جوهرية متعاليّة متأثرة بدراسته لـجمهورية أفلاطونفي معرض نقده لفكر الأرسوزي، يقول ناصيف نصّار: «في الواقع ليس من السهل حصر تفكير الأرسوزي السياسيّ وتحديد بنيته بصورة ثابتة جليّة. إذ يختلط فيه أساس التجربة الرحمانية المثالية بصورة ثابتة جلية بالنزعة الأفلاطونيّة في تصور السياسة والدولة، وبالفكر السياسيّ الذي نشرته الليبرالية الغربيّة، وبالمفاهيم السياسية العربية القديمة…». أنظر: ناصيف نصار، طريق الاستقلال الفلسفيّ، دار الطليعة، بيروت، ط2، 1979، ص 173.. على نفس الموالتتناسل المفاهيم المثالية الميتافيزيقيّة في تبنّي مشروع الدولة القوميّة لحزب البعث، كاللغة والروح القوميّة. ففي حين يرى ميشيل عفلق أن القوميّة هي تجسيد للروح العربيّة، يبلور قسطنطين زريق هذه المسألة في كتابه الوعي القومي (1938)، حيث يرى أن القومية في جوهرها ليست سوى حركة روحيّة ترمي إلى بعث قوى الأمة الداخلية قسطنطين زريق، الوعي القومي العربي، بيروت، 1938، ص 12-13 نقلاً عن محمد جمال باروت، «قراءة نقدية في الفكر القومي العربي التقليدي ‒ إنسان النظرية القومية العربية التقليدية»، النهج، شتاء 1997، ص، 103.. وفق منظّري فكر البعث إذاً، هناك جواهر روحية ثابتة تقوم على أساسها القومية العربية قديمة قدم العالم، خالقة له ومتقدمة عليه، أو كما يرى ميشيل عفلق «القومية العربية» بوصفها جوهراً معطى ميتافيزيقياً يؤثّر بالأحداث دون أن يتأثر بها.
هكذا فإن فكرة العروبة هي الهويّة التي قامت على أساسها القومية العربية. ولكن وكما أشرت أعلاه إلى أن فكرة الهوية تقتضي الإقصاء، فإن التاريخ السياسيّ الحديث يخبرنا أنه لا يوجد بلد متعدِّد الإثنيات إلا وحصل به تمييز ضد القوميات التي لا تنتمي للقوميّة المنتصِرة. حصل هذا الشيء حتى في أكثر البلدان ديمقراطيةً، ولكن العديد من بلدان أوروبا الحديثة مثلاً، وفي محاولة للتخفيف من آثار هذه المُشكلة التي يؤدي استفحالها إلى تصدُّع باردايم قوميتها بالكامل، تبنّت فكرة المجتمع التعددي plural society أو المجتمع متعدد الثقافات multi-cultural society وخفّفت من حدّة الغُبن التي تُلحقها فكرة القومية ببعض مكوناتها الأُخرى. في المقابل كان هناك المزيد من «الآثار الجانبية» لباردايم القومية العربية ولنأخذ مثالاً على ذلك الدولتين اللتين «اعتمدتا» حزب البعث بوصفه الحزب الوحيد القائد للدولة والمجتمع: العراق وسوريا. تم اضطهاد الأقليات غير العربية وعدم الاعتراف بأدنى حقوقها، بما في ذلك حق المواطنة. لحق ذلك بالأقليات الإثنية في سوريا، مثل الأكراد والتركمان والشركس والسريان. ولعل أبرز حالات الاضطهاد قد لحقت بالكرد، ففي دولة البعث العراقيّة مثلاً وصلت حدود العنصرية والتمييز الممارسين ضدهم حد المجازر كما حصل في حلبجة في العراق، عندما قام نظام البعث الصّدّامي (نسبة إلى صدّام حسين) بالهجوم الكيماوي على المدينة عام 1988. وفي سوريا مُنِع الأكراد في فترة حكم الأسدين من حقوقهم في ممارسة أعيادهم (إلى أن قامت الثورة السورية حيث حاول نظام الأسد شراء ودّ الأكراد) أو الاعتراف رسميّاً بلغتهم بل وحتى بمواطنيّتهم، ومعاقبتهم بالقتل عند أي احتجاج كما حصل عام 2004 في أحداث القامشلي يراجع تقرير هيومان رايتس ووتش بهذا الشأن، بعنوان «الكورد المجبرون على السكوت» (بالإنكليزية): www.hrw.org/reports/1996/Syria.htm..
كان هذا الاضطهاد للأقليات الإثنية أحد أبرز الشروخ في باردايم القومية العربية بنسختها البعثيّة المُتصلِّبة على الهوية العربية والتي أغلقت المجتمع السوري على إمكانية التعدُّد القومي، فاتحةً النار على الأقوام غير العرب المتواجدين على نفس الأرض السوريّة التي أقصى فيها باردايم القومية البعثيّة الإثنيات الأخرى من دائرة الاعتراف والحقوق. كان لا بدّ لهذا الإقصاء أن يولّد الحقد والرفض لسيطرة هيمنة القوميّة العربية والسُّلطات الممثلة لها، كما تجلى ذلك في العراق ما بعد صدّام حسين وأثناء الثورة السوريّة ضد نظام بشار الأسد المستمرّة للآن منذ أكثر من ثلاث سنوات.
بالإضافة إلى مشكلة العنصريّة التي ظهرت في بنية باردايم القوميّة عموماً ‒والتي تتجلى بالتمترس على الهويّة القومية لبلد ما مما يستبطن العداء لقومية بلد آخر أو للقوميّات الأخرى لمن هم بالأصل مواطني نفس البلد‒ فقد ظهرت مشكلة أخرى إضافية في باردايم القومية العربية وأقصد بها مشكلة التمييز discrimination والعداء لمن لا ينتمي ﻟ«جماعة» المنتصر الدينيّة.
كان حزب البعث بمقدماته النظرية يفترض قدراً من علمانية الدولة، ولكن الفكر شيء والتطبيق شيء آخر. فبالإضافة إلى العيوب البنيوية التي ولدت مع أفكار هذا الحزب، فقد تم مسخ أفكاره لتتناسب مع العسكر الذين وصلوا باسمه إلى السّلطة بانقلابات عسكرية. في العراق وسوريا تم إعادة تفصيل الحزب على مقاس البوط العسكري، وراحت مغانم السلطة تضيق مع الزمن من دائرة الموالين للجنرال المنتصر إلى «جماعته» الدينية، التي خرج منها وينتمي إليها، وصولاً إلى أفراد عائلته الذين تنازعوا فيما بينهم السلطة أيضاً. إعادة تفصيل الحزب على مقاس العسكر تجلى بشكل واضح في المصير التراجيدي لمنظّري الحزب في كل من سوريا والعراق مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن عفلق والبيطار والحوراني كانوا مقرّبين من العسكر ويعملون معهم يداً بيد، ولكن بقي هناك مسافة بين ما نظّروا له وما أراده العسكر الانقلابيون. فما تخيّلوه كفكرة قد اصطدم بمصالح ضباط انقلابيين لا يريدون من الحزب سوى واجهة أيديولوجية لمصالحهم. هكذا ما لبثت أن تحولت السلطة في كل من سوريا حافظ الأسد وعراق صدّام حسين إلى مزرعتين يحكمهما مجموعة من العسكريين الدكتاتوريين بأجهزتهم الأمنية والذين فرضوا على المجتمعين السوري والعراقي باسم البعث توجهاً عسكريّاً إكراهياً لا يقبل بأي شريك قبل أن تقوم أجهزته الأمنية باغتيال صلاح الدين البيطار عام 1980، كان حافظ الأسد قد حاول جذبه إلى جانبه ليدعم الواجهة الأيديولوجية للبعث السوري في مقابل البعث العراقي الذي انتمى إليه ميشيل عفلق، ولكن الساعات الخمس التي أمضاها الأسد في محاولة إغراء البيطار لم تنجح في تقريب فكر هذا الأخير من بسطار الأسد العسكريّ. انظر حول ذلك: Pierre Guingamp, Hafez El Assad et le parti Baath en Syrie. Comprendre le Moyen-Orient, Editions L’Harmattan, 1996. p. 252..
لقد أدت هذه العسكرة فعلياً إلى محاربة الأيديولوجيات وسحق بعضها وإلغاء كل فعالية ممكنة لبعضها الآخر والإبقاء على مصالح العسكر المنتصرين بما يقتضي ذلك قفازاً أيديولوجياً. هكذا تم سحق الحراك السياسي الأيديولوجي في المجتمع واحتكاره في يد طغمة بعد أن تخلّصت من الجانب الفكري والنظري في أيديولوجيتها نفسها التي وصلت من خلالها إلى السُّلطة لتعيد تفصيلها بما يتلاءم مع مصالحها الضيقة وإمكانية بقائها في السلطة بل وتوريثها. هكذا ما أن وضع حافظ الأسد يده على السلطة حتى أعاد بناء الجيش والمخابرات ليضع يده بدون منافس على مفاصل الاقتصاد والإعلام والجيش والأمن، حتى تحولت علاقة الحاكم بالمحكوم في سوريا إلى علاقة سيد بعبيده، وحلّ المستعمِر الداخلي مكان المستعمر الخارجي دون الحاجة سوى إلى أيديولوجية بعثيّة شكلية، جثّة بدون روح، تأخذ اسم الحزب الجمهوري العربي القومي الاشتراكي كقفّاز بينما تحركها من الأسفل أصابع المخابرات الأسديّة عندما استولى العسكر في سوريا على الفكرة (فكرة البعث) ووظّفوها لخدمة برنامجهم العسكري الفئوي الذي تجلى في انقلاب 23 شباط 1966، كتب عفلق «ليس هذا حكم البعث، وليست هذه ثورة البعث، ولا الأهداف أهداف حزبنا وشعبنا… ولا الأخلاق أخلاق حزبنا وشعبنا». انظر حول ذلك: http://albaath.online.fr/Volume%20II-Chapters/Fi%20Sabil%20al%20Baath-Vol%202-Ch57.htm..
عندما تهيمن السلطة على الأيديولوجية، فإنها تقوم بخلط المصطلحات وتوحِّد السلطات (التي يُفترض انفصالها، كالسلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية) في سلطة واحدة تتكثف إلى أن تتمثّل في شخص واحد هو القائد الخالد والمعلم الأول. هنا يصبح الوطن هو الدولة، ثم السُّلطة، ثم القائد، ويغدو أي رفض أو نقد للقائد هو خيانة عظمى للوطن. والشعب؟ لا وجود لهذه الكلمة في الديكتاتوريات، فهناك رعايا لا مواطنون، وترجع مفردة السياسة إلى أصلها اللغوي الأول: من ساسَ يسوسُ الخيل والرعايا، من الراعي والقطيع. حول مسخ الدكتاتور للفكرة التي يضعها كقناع أيديولوجي، يكتب المفكّر علي حرب:
«فمصير الفكرة في الفكر العقائدي أن تتشخصن في فرد يختزل الأمة ويصبح مستودعاً لهمومها وآمالها وأحلامها. هذا الفرد الذي يغدو موضع التعظيم والتبجيل هو على ما نعرفه ونشهد ونعاني، القائد الملهم والزعيم الأوحد والإنسان الكامل والبطل التاريخي الفاتح أو المنقذ المحرر، أي هو الشخص الذي تُخلع عليه كل المزايا التي ترفعه إلى مصاف الآلهة. الأمر الذي يترجم عبادة للشخصية أو أنظمة كلانيّة وممارسات فاشيّة، وهي ظواهر تتفاوت داخل الاتجاه القومي من حيث الغلو والتطرف بين مفكِّر وآخر أو بين قائد وآخر». علي حرب، الأختام الأصوليّة والشعائر التقدميّة ‒ مصائر المشروع الثقافي العربي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2001، ص. 59.
ما أريد التأكيد عليه هنا هو أن البعث لم يعد أيديولوجية فكرية موجِّهة، بقدر ما كان سلطة عسكرية، أسدية في سوريا وصدّامية في العراق. المحتوى العلماني المفترض في البعث تم مسخه إذاً في كل من العراق وسوريا، حيث حصل التمييز الديني والمفاضلة الدينية. لا يمكن لنا إلا أن نلحظ مثلاً كيف أن بعث العراق تسنّن (أصبح سنياً) في مواجهة الشيعة. بمعنى أنه بعد أن اضطهد الأكراد قومياً اضطهد الشيعة دينياً. حدث هذا التمييز الطائفي في سوريا الأسديّة أيضاً. فحافظ الأسد الذي خبأ حركاته في قفاز البعث «العلماني» قام ببناء الجيش على أساس طائفي ممكّناً بذلك أبناء طائفته العلوية من أهم مصادر القوة التي يحتاجها لفرض سلطة أراد لها أن تكون أبديّة ووراثيّة. والكل يعلم أن الجيش في سوريا هو حصن السُّلطة بما يتضمنه من امتدادات أمنية، أما ما عدا ذلك فليس إلا واجهة زائفة كالوزارات والسفارات والوظائف «العليا». إن تمييز الطائفة العلوية في مؤسسة الجيش والحصول على الوظائف قد رفع مستوى الاحتقان لدى بقية أبناء الشعب السوري ولم يكن مسألة التمرّد على ذلك إلا قضية وقت ستنفجر مع الثورة السورية 2011.
نظرياً يفترض حزب البعث القضاء أو تجاوز الانتماءات ما قبل الوطنية في سوريا، الانتماءات المتأصلة والمتجذرة في بلد متعدد الطوائف والأديان والانتماءات بالإضافة إلى تعدّده الإثنيّ، ولكن الدولة الأسديّة حرصت على إبقائها تحت السطح بالضغط عليها من الأعلى دون إيجاد حل تاريخي يفتح المجتمع السوري على قيم المواطنة ولم يكن لديها أصلاً رغبة في معالجة هذه القضية، بل هي كانت تريدها أن تظل جمراً متقداً تحت الرماد وذلك، أولاً للعب على الانتماءات الطائفية، بظهورها بمظهر السد المنيع في وجه الحرب الأهلية موهمةً الغرب قبل السوريين بأن سلطة آل الأسد هي الضامن الوحيد للحياة المدنية في هذا البلد، وثانياً لتُثير هذه المكوّنات وتفتح حرباً أهلية في سوريا عندما يتهدّد حُكمها، وهذا ما فعلته مخابرات الأسد إبّان الثورة السورية ومنذ بداياتها في شهر آذار 2011.
2- مفهوم الاشتراكية: الاشتراكية، كما أراها، هي فكرة إنسانيّة عظيمة، إلا أن نتائج سياساتها كارثيّة للآن كما يقول لنا التاريخ. إذ تقوم الاشتراكية على يوتوبيا مبدأ المساواة والملكية العامة لوسائل الإنتاج، فإن التجارب الحديثة لهذه السياسة الاقتصادية كانت ذات نتائج سلبية ليس فقط في الإطار السياسي وإنما في الإطار الاقتصادي أيضاً. مرّة أُخرى تُفسد السياسة طوباوية الفكرة المثالية، كما حصل في تجربة الاتحاد السوفييتي وفي الدول التي تأثرت قليلاً أو كثيراً بالأفكار الاشتراكية الماركسية، التي تم مسخها منذ عهد ستالين. المشكلة التي حصلت في كل التجارب الاشتراكية الحديثة هو انتهاؤها إلى توظيف الأفكار النبيلة لخدمة مصالح الطغمة، ولعل نبوءة الروائي جورج أوريل في مزرعة الحيوان، حيث ينقلب الخنازير على قيم الاشتراكية ليوظفوها لمصالحهم وغاياتهم في النهاية، هي أطرف مثال يمكن أن يختصر حكاية الكثير من النظم «الاشتراكية» بما في ذلك بالطبع بل وعلى الأخص اشتراكية البعث في سوريا الأسديّة.
من المعروف أن حزب البعث العربي الذي كان يتزعمه ميشيل عفلق وصلاح البيطار قد اندمج عام 1952 مع الحزب العربي الاشتراكي، الذي كان يتزعمه أكرم الحوراني، فكانت نتيجة هذا الاندماج هي «حزب البعث العربي الاشتراكي»، وهكذا صارت الاشتراكية الهدف الثالث من أهداف هذا الحزب في الوحدة والحرية والاشتراكية. من المعروف أن السياسة الاقتصادية الاشتراكية في سوريا قد أدت إلى شلّ حركة الاقتصاد السوريّ طيلة فترة حكم حافظ الأسد، بينما سيحاول وريثه للسُّلطة بشار الخروج من عنق الزجاجة الاشتراكية التي أورثها له أبوه بالانفتاح على اقتصاد السوق. إلا أن هذا الانفتاح لم يكن في نهاية المطاف إلا عمليّة بزنس كبيرة كان يتعهدها هو وكبار عملائه من حيتان رأس المال، الذين أثروا بشكل فاحش عبر المراسيم والامتيازات والصفقات الرئاسيّة التي كان يعود رَيعُها إلى حساباتهم المصرفيّة.
لستُ هنا لأُحلل الوضع الاقتصاديّ ولا أنا خبيرٌ به، ولكني أردت تقديم تصوّر عام للسياسة الاقتصادية لاشتراكية البعث الأسديّ، لأنتقل بعدها لعرض النتائج السياسيّة الخطيرة لمفهوم الاشتراكية عموماً ولنتائجه الخطيرة في التجربة البعثيّة الأسديّة طيلة الخمسين سنة الفائتة. المشكلة الخطيرة في باردايم الاشتراكية هي حالة الإنكار التي تصل حد العداء لمفهومي الحريّة الشخصيّة والديمقراطية في مقالة شهيرة تُقرأ من عنوانها «طريق العبوديّة»، يُعلنُ الفيلسوف وعالم الاقتصاد فريدرك هيك أن: «الإشتراكية هي أخطر ما يتهدد الحرية». أنظر ذلك في: Friedrich A. Hayek, The Road to Serfdom: With the Intellectuals and Socialism, Institute of Economic Affairs, 2005.. الاشتراكية تغلِّب الكلّ على الفرد، وتهتم بالشمول والكليانيّة على حساب التفرّد والاختلاف والتمييز. الاشتراكية هي ذات لون واحد، بينما الديمقراطية ملوّنة. في مقاله المُشار إليه في الملاحظة السابقة، يعود فريدرك هايك إلى استقصاء بذور الفكر الاشتراكي الحديث عند سان سيمون، ليكشف أن هذا الفكر يحتوي على نزعة أوتوقراطية شموليّة لا تقود في النهاية إلا إلى الدكتاتوريات والفاشيات، ولعل هذا ما انتهى الوضع إليه مع الأمثلة «الاشتراكية» الأبرز في الإتحاد السوفييتيّ الستالينيّ والصّين الاشتراكية وكوبا فيدل كاسترو وسوريا الأسد الخ. في مثل هذه الاشتراكيات الشمولية، لا وجود للإنسان الفرد ولا اعتراف به وبتفرده وبتميزه، فهو مجرد رقم في كتلة هائلة غير محدّدة المعالم تُسمى المجتمع. إنه ليس إلا فرداً عاملاً نعرف من خلال مؤلفات ماركس مثلاً كيف راحت لفظة الإنسان التي ظهرت في مؤلفات ماركس الشاب تختفي شيئاً فشيئاً مع كتاباته المتأخرة ليحل مكانها الفرد العامل. يحمل نفس اللون الذي على الجميع أن يحمله. هناك إذن إفراغ لمفهوم الإنسان وربطه بالأفكار الكلية والمشاريع الكبرى، وهذا ما حصل في سوريا الأسد من إفراغ المجتمع السوريّ من الإنسان، أي ابتلاع المجتمع للفرد، ثم ابتلاع الدولة للمجتمع ثم السُّلطة للدولة ثم الأسد وحاشيته للسُّلطة.
3- أسطورة الممانعة: كان الأسد الأب يريد أن يحتفظ بالسُّلطة إلى أطول قدر ممكن ويورّثها، ويوقف عمليات الانقلاب العسكرية التي عاشتها سوريا في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. لا شك أنه كان بحاجة إلى جيش عقائديّ يبنيه بنفسه ليُدافع عن سلطته، ولكنه كان أيضاً بحاجة إلى فكرة حاضرة غائبة، كسيف ديموقليس، يثبت بها سُلطته ويلغي فيها الإنسان والمجتمع، وكانت له هذه الفكرة في أسطورة الممانعة ومحاربة إسرائيل دفاعاً عن فلسطين.
كان الأسد يعي تماماً أنه يحتاج إلى عدو ليستمر ويعيش ويحيا ويستبد بدون منافسة ويكتم أنفاس أي حراك مدنيّ أو اجتماعيّ أو تحرريّ أو حتى فرديّ في سوريا. بإعلانه قانون الطوارئ، رهن حافظ الأسد سوريا لحرب مفترضة مع إسرائيل وعبّأ الشعب السوري بفكرة أننا دولة مواجهة وفي حالة حرب ولا وقت لدينا الآن للإصلاح ولا لتحسين الوضع الاقتصادي ولا للحديث في الديمقراطية والحريات، فنحن في حالة استنفار كامل وحالة طوارئ ولا بدّ لذلك من وحدة الصف الداخليّ ومحاكمة الخارج عن هذا الإجماع بوصفه خائناً أو متآمراً أو عميلاً، عبر أحكام عرفية تفترضها حالة الحرب. لقد أدى هذا إلى عسكرة المجتمع السوريّ بالكامل، وتحويل البلد إلى مؤسسة أمنية عملاقة ثم تأجيل كل المشاريع الإصلاحيّة عبر التلويح بعصا الحرب، وعبر الادعاء بأنه يعطي الأولوية لقضية فلسطين على حساب القضايا الداخلية المؤجلة «إلى الأبد». ليست أسطورة الممانعة هنا سوى توظيف لفكرة كبرى، كالمشروع القومي العربي في الوحدة والحرية والاشتراكيّة وتحرير فلسطين، لسحق الفرد بل والمجتمع أيضاً ودفنهما أحياء. بهيمنة فكرة الحرب والقاومة والممانعة على الإنسان وعلى الحراك الاجتماعي السوري، يطغى المشروع الكُليّ على الفرد وحياته وآماله وطموحه وعلى المجتمع ومؤسساته وحراكه المدنيّ ليصبح الجميع وقود حرب لن تقوم يوماً منذ عام 1973، رغم التهديدات الإسرائيلية وطلعاتها الجويّة فوق الأجواء السورية وعلى أراضيها، بل ورغم ضربها لعدة أهداف عسكرية في سوريا، بينما احتفظ «نظام الممانعة» بحق الرد الذي لم ولا ولن يأتي يوماً. كان يمكن للسوريّ فعلاً أن يقبل بتأجيل مشاريعه الشخصيّة لصالح قضية فلسطين لو أننا فعلاً كنا نعمل على تحرير فلسطين، ولكن، حتى وقبل اندلاع الثورة السورية عام 2011، فإن الشعب السوري كان قد بدأ يُدرك خديعة المقاومة وزيفها وأهدافها المتمثّلة أولاً وأخيراً في احتفاظ الأسد بالسُّلطة. هكذا صار هناك وعي حقيقيّ لدى الكثير من السوريين بأن الممانعة والقومية العربية وعلمانية الدولة لم تكن إلا شعارات فارغة، أراد بها الأسد رهن سوريا وشغل السوريين عن الحياة بحربٍ شبحية حاضرة غائبة مرئية وخفيّة، حرب مُزمنة أراد لها أن تبقى كذلك لتبقى سلطته. وبكل ما تفترضه حالة الحرب من حشد ودعاية وتعبئة ومسح أدمغة وعسكرة وتحويل الناس إلى قتلة عشنا ‒نحن أبناء ذاك الجيل الذي جاء إلى الحياة بفترة حكم الأسد‒ تحت شعارات الصمود والتصدي ضد الآخر وفي فوبيا نظريات المؤامرة التي يحيكها الغرب ضدنا وأن سوريا الأسد هي القلعة الأخيرة الصامدة في وجه الطغيان والإرهاب والاحتلال الإسرائيلي، بل وحتى في وجه الرأسمالية والإيدز والعولمة وأنفلونزا الطيور الخ. هكذا نمّى النظام الأسديّ عندنا فكرة الخوف من الآخر الأجنبي وعدائه، بل حالة من الاستحواذ العُصابي تجاه إسرائيل واليهود. إن انكشاف وهم وكذب وزيف إدّعاء أسطورة الممانعة كان إسفيناً جديداً يُدق في نعش باردايم قومية الأسد المزعومة.
الفصل الثاني: الثورة السورية كأداة وإرادة هدم وتفكيك لباردايم البعث والممانعة
لم تكن الثورة السورية إلا حصيلة تصدّعات باردايم القوميّة والاشتراكية والعروبة والدولة الأمنية وعسكرة المُجتمع وإلغاء الإنسان. كان هذا الباردايم قد تآكل مع الزمن، فمشاكل العنصرية والتمييز والإفقار والهيمنة وامتهان الكرامات والترهيب كانت قد تعاظمت وكانت تنتظر شرارة إيقاد الثورة. ثم جاءت هذه الشرارة من تونس لتمتدّ في بلدان الربيع العربي، لتصل إلى سوريا الأسديّة وقد تآكل الباردايم الذي قامت عليه سُلطة البعث الأسديً وصار هذا البلد بحاجة إلى ثورة لتغيير باردايم السياسة. وكما أن تغيير الباردايم يحتاج إلى ثورة علميّة، بحسب كوهن، فإن تغيير باردايم البعث المتهالك كان ينتظر الثورة عليه أيضاً، فكانت الثورة السوريّة.
بالإضافة إلى التصدُّع الداخليّ في الباردايم القديم، نشأ على الهامش تغيّرات كثيرة تراكمت مع الزمن مُسهمةً بشكل كبير في تسريع وتيرة الخروج من باردايم البعث الأسدي بكل مفرداته. فبعد أن استقر في خَلَد آل الأسد أن حكمهم مستقرّ وراسخ «إلى الأبد»، كان التاريخ يُعد آلية تغيير هذا الباردايم على نارٍ هادئة وبصمت. وكما كان من نتائج اختراع الآلة البخارية ونشوء السكك الحديدية أثراً أساسيّاً في تفجير باردايم السياسات الإقطاعية المغلقة مثلاً، فقد كان للهامش المتنامي الذي خلقته ثورة الاتصالات التي غزت العالم المعاصر الدور الأبرز في تكوين وعي جديد لدى الشعوب العربيّة بعبوديتها وبضرورة تحرّرها من كل أشكال رقابة الحاكم المُستبدّ، والانعتاق من سجون الباردايمات السياسيّة القائمة كجثث تَحُول بين الشعوب العربية وبين الحياة.
لقد قيل ولا يزال يقال الكثير عن أن الثورة العربية التي يقوم بها شبابنا الآن ما هي إلا عملية قتلٍ للأب، بالمعنى الرمزيّ الفرويديّ، وهذا صحيح، فقد نشأ في الوطن العربيّ جيل شاب تفتحت مداركه على تقنيات الاتصال والتواصل، حيث سرَّع هذا الفضاء التقني في عملية الانعتاق من دوائر الأيديولوجيا المُجترة والمُستهلَكة وساهم في تحرير وعيه من الرقابة المخابراتية، فأدرك هذا الجيل الجديد الشاب لعل مما له دلالة في هذا الصدد أن يكونوا طلاباً يافعين أولئك الذين كتبوا شعارات إسقاط النظام على جدران مدرسة في درعا، مُطلقين بذلك فتيل الثورة في سوريا. ضرورة تحرِّره من كل سلطة الباردايم البعثي القديم، وكل تفاصيله التي كانت تحد من حركته ومن حريته ومن طموحه أسمح لنفسي هُنا بالإحالة إلى الحوار الذي أجريته سابقاً بتفصيل أكبر حول الموضوع، والذي كان بعنوان «بعد أن كانت حياتنا مسروقة ووطننا لم يكن ملكاً لنا»، على الرابط: http://goo.gl/q1M6f7. ليست عملية قتل الأب رمزيّاً هنا سوى إنهاء الباردايم التسلُطي السابق، والبحث عن آفاق باردايم جديد لا ينتمي للباردايم القديم ولا لوعي النخب السياسيّة والثقافية الشائخة والمتفسخة التي نشأت في ظلاله.
ما وددتُ الإشارة إليه والاكتفاء به في هذا الفصل هو دور الثورة في هدم وتقويض الباردايم السياسيّ السابق، وإعلان نهايته ووفاته وانتهاء صلاحيته وعدم مناسبته للعصر ووقوفه حائلاً أمام التغيير المنشود. ولكن هدم باردايم ما شيء، وتقديم بدائل له شيء آخر، وعلى هذه النقطة الأخيرة سيتركز مبحثي في الفصل الثالث والأخير.
الفصل الثالث: الثورة السورية وولادة باردايم لنظام سياسيّ جديد.
إذاً إن الثورة على باردايم سياسي قائم وهدمه لا تكفي لوضع باردايم جديد. فهذا الأمر يحتاج إلى ثورة ثانية. فإذا كانت الثورة فعل هدم، فيجب أن تكون فعل بناء أيضاً، وإلا فإن الفوضى هو ما ينتظرها في نهاية المطاف.
علينا الاعتراف هنا بأن مسار الثورة السوريّة قد انحرف مع التداعيات الدرامية التي مرّت بها الثورة. كان القمع العسكريّ غير المسبوق الذي ووجهت به الثورة، وهي لا تزال سلميّة، والتصعيد الطائفي الإعلامي المتبادل قد حوّل مسار الثورة إلى حرب مذهبية تتقاتل فيها الآلهة، مما سحب البساط من أيدي شباب الثورة الحالمين بدولة مدنية، دولة مواطنة وحقوق إنسان. رغم عدم صياغة مشروع واضح لأهدافهم، إلا أن شباب الثورة السوريّة قد عبّروا بشكلٍ عفوي في بدايات الثورة عن رغبتهم في إنهاء الباردايم القديم، فكانت شعاراتهم تُمثِّل بشكل ما ملمحاً جنينيّا يمكن البناء عليه مُستقبلاً لصياغة باردايم السياسة في سوريا القادمة بعد زوال الأسد ونظامه، وبعد زوال الباردايم الذي نشأ عليه الأخير وتحكّم بسوريا باسمه.
بكل أسف خرجت المسألة السوريّة من أيدي السوريين، وصارت صراعاً إقليمياً متعدد الأوجه بين المشروع الإيرانيّ، الذي يريد بناء امبراطوريّة شيعيّة؛ وعدوته التقليديّة السعودية بمشروعها الوهابيّ؛ بالإضافة إلى المشروع الإخوانيّ القَطَريّ التُركي. هكذا صار الصراع الإقليميّ الدينيّ، أو ما أسميه بحرب الآلهة، هو الطاغي على أي مشروع مدنيّ لسوريا مدنيّة علمانيّة وبلد مواطنة قبل كل شيء.
لم يقتصر الصراع الخارجيّ على سوريا على الصراع الإقليمي، بل تعدّاه ليصبح ساحة صراع دوليّة أيضاً، وظّفته روسيا لتعود إلى الساحة الدوليّة بقوّة معيدةً إحياء الحرب الباردة أنظر في هذا الصدد المقال المنشور مؤخراً في النيويورك تايمز، على الرابط: http://www.nytimes.com/2014/03/08/business/a-new-cold-war-would-differ-from-the-old.html?_r=0 ومحاولة فرض نفسها كقوة عظمى أولى في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية، التي عرفت سياستها الخارجية انكفاءً وتراجعاً كبيراً في فترتي حكم أوباما، مما سمح لروسيا بالتقدم على الساحة الدوليّة وكان الصراع الحاليّ على سوريا هي حصانها لذلك من اللافت للنظر أن يكون عام 1947 هو نفس العام الذي أُعلن فيه ولادة حزب البعث العربي الاشتراكي وبداية حقبة الحرب الباردة. قد يكون الأمر محض صدفة ولكن نتائج هذا التقاطع التاريخي ستكون حاسمة في استمرار سلطة البعث الأسديّة التي سيحميها مشروع الاتحاد السوفييتي سابقاً وروسيا الساعية إلى إعادة فرض قوانين الحرب الباردة على العالم لتتمكن من إعادة بناء نفسها كإمبراطورية جديدة.. ولكي لا يتم استبدال نظام فاشيّ عسكريّ بنظامٍ فاشيّ جديد، ديني أو عسكري، فلا بد الآن وهُنا من ضرورة محاولة التفكير ببناء باردايم جديد لمرحلة سوريا جديدة.
منذ حواليّ الشهرين، قدّم الباحث السوري المرموق ياسين الحاج صالح فكرة مشروع للجمهورية السورية المأمولة أسماه «الفكرة الجمهوريّة والثورة السوريّة» ياسين الحاج صالح، الجمهورية، 25 كانون الثاني 2014،http://goo.gl/nNizP1. وإن لم يكن طرح الحاج صالح هو الأول في هذا الصدّد، إلا أنه الأكثر نضجاً برأيي، ويفتح باب النقاش واسعاً أمام تشكُّل الباردايم السياسيّ الجديد لسوريا الجديدة. في مشروعه ذاك يقترح الحاج صالح الحكمَ الجمهوريّ كأداة للسياسة، بحيث «يتملّك الناس فيها عمليات تدبير أمورهم وتسييرها، ويتساوَون سياسياً عبر هذا التملّك، فيصنعون شرائعهم ويتحكمون بعمليات التشريع، وتالياً بتنظيم واتجاهات تطوّر الحياة المشتركة» المرجع نفسه.
ومع أنه يعيد تعريف الاشتراكية بعيداً عن المفهوم الشيوعيّ للُملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، واعياً المأزق الفاشي الذي انتهت له التجارب الشيوعيّة الحديثة، حيث «آل في كل مثال معروف إلى تحكّم نخبة ضيقة بالسكان وحكمهم بآليات فاشيّة، وإنتاج أشكال من اغتراب الأفراد والجماعات تفوق ما ينتج في ظل الرأسمالية» المرجع نفسه، إلا أن الحاج صالح لا يخرج في تصوره من باردايم الاشتراكية بكل معضلاته ومشاكله التي تراكمت. إن ما يدعوا له ياسين الحاج صالح هنا هو اشتراكيّة مُعاد بناؤها بمفرداتها نفسها وبالعدّة النظرية الماركسية، ولكن المثالية هنا التي تُذكِّرُنا بمحاولات مدرسة فرانكفورت بإعطاء الأولوية لنقد الثقافة على النقد الاقتصادي. بهذا المنطق يعطي الحاج صالح تعريفاً بمشروعه بالقول: «الجمهورية بهذا المعنى ’اشتراكية سياسية‘، يتشاطر الجمهور فيها في امتلاك السياسة والدولة» المرجع نفسه.
في كتابه الضخم بين الحقائق والمعايير Faktizität und Geltung، يحاول الفيلسوف الألماني يورغين هابرماس أن يجد طريقاً ثالثاً أو حلاً بديلاً لأزمة النموذجين الديمقراطيين السائدين في العالم الغربي: أي النموذج الليبراليّ والنموذج الجمهوريّ. يرى هابرماس أن النموذج الأول، الليبرالي، يفترض هيمنة المصالح الخاصة والصراع بينها؛ بينما يشترط الثاني، الجمهوري، رؤية شمولية لسيرورة بناء سياسي للجماعة. كان مأخذ هابرماس الأساسيّ على النموذج الجمهوريّ الكلاسيكيّ (علماً بأنه لم يتطرق لنموذج الجمهورية الجديدة المُعاصِرة) هو فكرة هذا النموذج الهلاميّة والشموليّة عن الجماعة أو المجتمع، والتي لا تتناسب مع المفهوم التعدّدي للحرّيّات التي جاءت به الحداثة الأوروبيّة. بين استشراء المصالح الرأسماليّة الخاصة بالنموذج الليبرالي، وهيمنة الرؤية العامّة للنموذج الجمهوريّ، يقترح هابرماس نموذجاً ثالثاً يُسميّه بنموذج الديمقراطيّة الإجرائيّة أو التداوليّة. يطرح هابرماس إذاً حلاً توفيقيّاً لمعالجة مشاكل هذا بذاك، وذلك بمحاولة معادلة الاشتراطات المعياريّة الفرديّة لليبرالية بالمعيارية الجمعيّة للجمهوريّة J. Habermas, Droit et démocratie – entre faits et normes, trad. Rainer Rochlitz et Christian Bouchindhomme, Gallimard, 1997, p. 321..
لو خرجنا الآن من مصطلحات هابرماس المُعقّدة، لوجدنا أن الحاج صالح يحاول بطريقته ‒كما يتجلى ذلك بحديثه عن «تملُّك الجمهور للسياسة» ومشاركته «في صنع القانون»‒ أن يجد مثل هذا المخرج التوفيقيّ لأزمة المفهوم الكليّ الذي تفترضه الجمهوريّة. ولكنه، ولا بأس من تأكيد ذلك من جديد، لم يخرج بتصوره كليّاً من فخ باردايم الاشتراكية الماركسيّة لا أدري إن كان الحاج صالح قد اطلع على كتاب هابرماس الذي استشهدت به أعلاه، إلا أنه يشاركه بهاجس إيجاد حل بديل عن الفردية الليبرالية المتوحشة وعن الشمولية الجمعيّة الجماهيرية، خصوصاً عندما يكتب: «وبهذه الصفة، يتيح تملّك السياسة والتغيير الجمهوري تجاوز التقابل بين ليبرالية غير حسّاسة اجتماعياً، وبين نزعة اجتماعية تسلّطية أو فاشية، وينفتح على مشاعية السياسة، إن جاز التعبير، أي المساواة السيادية»… «الفكرة الجمهوريّة والثورة السوريّة»، مرجع سابق..
في محاولته لشرح فكرته يقوم مفكّر الثورة السوريّة بإعادة الاعتبار للسياسة، بوضعها أساساً أو «بنية تحتيّة» تمكّن الناس، بحسب ما يؤكد كاتبها، من شروط حياتهم الماديّة والاجتماعية. ثم يفيض بالحديث عن ميزات تصوره عن الجمهورية السورية بوصفها ليست «كياناً يفرض هوية سورية مجردة على جمهرات محلية وإثنية ودينية ومذهبية، بل هي إطار المساواة السيادية والسياسية بين تلك الجمهرات الكثيرة، بوصفها مكوّنات مؤسّسة وأساسية للجمهورية» المرجع السابق. بشكلٍ أو بآخر، يقلب الحاج صالح قُفاز السُّلطة في سوريا من هيمنة نخبويّة سياسيّة وثقافيّة ودينيّة إسلاميّة إلى مشاركة جماهيريّة عامّة لا أوصياء فيها على الثقافة والمعرفة والدين، ولا سادة تتحكم بعبيد ولا فرقة ناجيّة وحيدة. بمعنى آخر، بدل هيمنة الدولة على المجتمع، تنقلب الآية ليُصبح المجتمع هو المؤسس والباني للدولة بمشروع الحاج صالح. مرّة أُخرى، ورغم اختلاف الآليات، تقترب جمهوريّة الحاج صالح السوريّة من الباردايم الإجرائي le paradigme procédural لهابرماس Chapitre IX : «Paradigmes du droit», in Droit et démocratie, op. cit., p. 415-475..
يفتح مشروع الحاج الصالح الباب أمام مناقشة جديّة واعدة لسياسة جديدة، ولكن، بالإضافة إلى بقائه في إطار باردايم الاشتراكية بكلاسيكياتها الماركسيّة، أي بمشاكلها التي شرحتها أعلاه، فإن لي مأخذَين آخرين على هذا المشروع المهم: ما أقصده هنا ضرورة البناء المعياري القانونيّ لمفهومي المواطنة والدولة. ولأبدأ من هذه الأخيرة.
ـ الدولة:
لعلي من أولئك الذين يذهبون إلى أن وجود الدولة بمعناها الحديث لا يزال، منذ بدايات الحداثة لليوم، شراً لا بد منه للحياة السياسيّة الحديثة. فالدولة شرّ لأنها تسعى لأن تفرض نفسها كسُلطة وسيادة فوق المجتمع والأفراد والتنظيمات. إنها قوة الهيمنة والسيطرة و«العنف الشرعي»، كما وصفها ماكس فيبر ومن بعده فالتر بنيامين ودريدا Max Weber, Le Savant et le Politique, trad. Julien Freund, Collection Bibliothèque, 2002. Walter Benjamin, «Critique de la violence» in Œuvres I trad. Rainer Rochlitz, Paris, Gallimard. 2000. Jacques Derrida, Force de loi, Galilée, 2005.، بل هي التنين والوحش العملاق كما رآها توماس هوبز في مؤلفه الأشهر Leviathan Thomas Hobbes, Leviathan: Or the Matter, Forme, and Power of a Common-Wealth Ecclesiasticall and Civill, ed. by Ian Shapiro (Yale University Press; 2010.. ولكن، وإن يكن مفهوم الدولة ومؤسساتها وإكراهاتها شرّاً على نحوٍ ما، هو شرّ لا بد منه لتستقيم الحياة السياسيّة وتنتظم شؤون المجتمع. فمن مهام الدولة الأساسية ضبط وتنظيم الحياة السياسيّة في بلدٍ ما عبر المؤسسات الحكوميّة، وذلك بما تملكه الدولة من سيادة وقوة سيطرة، أو ما سُمّي بـ«العنف الشرعيّ»، وفق آليّة قانونيّة يضمنها الدستور (على ألا تخرج سُلطاتها عن العنف الشرعيّ). هكذا بُنيت الدول الديمقراطيّة الحديثة على اختلاف تجاربها.
لا شك أن غياب التجربة الديمقراطية في مجتمعنا؛ وترسُّخ الدكتاتورية الأسديّة لأكثر من أربعين سنة؛ وما سبق ذلك من انقلابات عسكريّة في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين؛ وهيمنة الأيديولوجيات الإسلاميّة الماضويّة اليوم على الساحة…، كل ذلك يجعل الانحراف نحو الدولة الأوتوقراطية العسكرية الأمنية (كما يحصل في مصر اليوم من عودة حكم العسكر مثلاً) أو دولة الإمامة والخلافة والإمارات الإسلاميّة، أمراً غير مُستبعد، بل وأقرب مما نتصور. يمكن إذن أن تبتلع الدولة المجتمع ونعود من حيث كُنا، بل يمكن حتى أن نعود إلى العصور الوسطى وأهل الذمة والكتاب والجزيّة الخ الخ من هذه الخزعبلات ذات الحضور المتعاظم اليوم.
ما العمل؟ كيف يمكن الخروج من هذا المأزق، ما بين مخاطر استبداد الدولة بالمجتمع وترك المجتمع الهشّ ديمقراطياً يسوس نفسه بنفسه الآن؟
لا بد، برأيي، من مرحلة انتقاليّة تضع أُسس باردايم الديمقراطية الحديثة الذي لم نعرفه بعد في مجتمعاتنا ودساتيرنا وتضبط الحياة الاجتماعية، وإلا فإن المجتمع بعد هذا الاحتقان والاقتتال معرّض للفوضى وفرض أجندات غير ديمقراطية على الناس (قد يعترض الحاج صالح هنا ويسمي رأيي هذا بالوصاية النخبوية على المجتمع). كان هابرماس يؤكد أن رؤيته عن باردايم القانون والباردايم الإجرائي لا يمكن لها أن تنجح إلا في مجتمع حديث مدني علماني. يظل الخطر قائماً إذاً، فإطلاق يد الدولة في المجتمع سيقود لا محالة إلى نشوء الدكتاتوريات تحت أسماء وذرائع السيادة الوطنيّة، بل وتحت شعارات الجماهيرية والديمقراطية التي تُطرح كشعارات فارغة من المضمون، بينما يُمارس نقيضها فعلياً. سوريا الأسد مثلاً لم تكن سوى دولة أمنية وثكنة عسكرية أو فرع مخابرات كبير، يسهر على ألا يترك أي هامش ولو بسيط للمجتمع مدني.
ولكن، أن تكون الدولة منظمة وذات قوّة وسيطرة شرعية وقانونيّة شيء وأن تبتلع المجتمع شيء آخر. إذ أؤكد على أهمية الدولة كمنظم لعلاقات الناس وضابط لحياتهم وحافظ لحرياتهم لا يعني تبنّي فكرة الدولة المهيمنة المسيطرة على مقدّرات المجتمع، كما ذهب إلى ذلك مثلاً كل من هوبس وبودان، بقدر ما أدعو إلى مؤسسات مدنية تتوسّط العلاقة بين الدولة والمجتمع وتنظِّم العلاقة بينهما.
ولكن يظل السؤال: كيف؟ وما هو الضامن لعدم طغيان الدولة على المجتمع أو انفلات المجتمع الهشّ أصلاً من ضوابط الحياة السياسيّة القابلة للحياة؟ لا بد هنا، برأيي، من توسّط المؤسسات المدنيّة إلى مرحلة ما. وما أقصده هنا تحرير مؤسسات الدولة من هيمنة الإدارة الأمنية مع إعادة بناء عملها ودورها وفق آليات قانونيّة تضمن استمرار الحياة السياسيّة للباردايم السياسيّ الجديد. لا شك أنه لا توجد وصفة سحريّة جاهزة للبناء المعياري القانوني للباردايم الجديد، ولا يجب أن تُفرض عليه من الأعلى، بل لا بد أن تبدأ من الضامن الأساسيّ بنظري للدولة الديمقراطيّة الحديثة، التي لا تكتفي بالشعار الإغريقيّ «حكم الشعب نفسه بنفسه»، ولا بفكرته عن أن الديمقراطية هي مجرد «حكم الأكثرية»، بل لا بد من وحدة أولى (1) تمنع تحول حكم الأكثرية مثلاً إلى اضطهاد دينيّ تمارسه الطائفة الأكثر عدداً (2) وتضع حدوداً معيارية للعدالة الاجتماعية، بحيث لا ينحرف حكم الشعب نفسه بنفسه إلى قوانين الغاب فرضاً. وما أعنيه بهذه الوحدة الضامنة والخلية الأولى لهذا البناء هي فكرة المواطنة.
ـ المواطنة:
يحتاج تغيير الباردايم إلى تغيير جيني جذري لا إلى خطاب ترانسندنتالي متعالي. في بلد كسوريا، متعدد الطوائف والإثنيات، لا يمكن تحقيق العدالة والمساواة للجميع بدون مفهوم المواطنة. المواطنة هي الوحدة الأولى التي يمكن من خلالها أن يتساوى الجميع في كل شيء، وهي حجر الزاوية للديمقراطية الحديثة. لا يمكن مواجهة الخطاب القومي الكردي مثلاً بخطاب قومي عربي، فهذا لن يحلّ المُشكلة بل سيُعقِّدُها. لا يُمكن مواجهة الخطاب الشيعي بالخطاب السنّي أو خطاب الأكثريات بخطاب الأقليات، أو البحث عن توافقات ومحاصصات طائفيّة على الطريقة اللبنانيّة للوصول إلى الديمقراطية أو تغيير الباردايم. لا بد من قوانين مواطنة تعترف بمواطنية الجميع ومساواتهم أمام القانون، مهما كانت طائفة المواطن السوري أو قوميته أو معتقداته. لا تقوم الديمقراطية هنا على أساس الأكثرية الدينية أو القوميّة، ولا يجب أن يكون هناك دين رسميّ لسوريا الجديدة أو اشتراط دستوريّ لدين الرئيس، كأن يكون عربياً ومُسلِماً. حسناً، وماذا عن الأكراد أو المسيحيين مثلاً؟ ألا يحق لهم الترشُّح لرئاسة الجمهورية؟ ما يحلّ مثل هذه الإشكاليات هو البدء من الأسفل لا من الأعلى، من الجزء لا من الكل، أي من المواطنة لا من الدولة. تشترط المواطنة إذاً حدّاً من علمانية الدولة، فبدونها لن يكون هناك لا ديمقراطية ولا عدالة ومساواة اجتماعيّة.
خاتمة
قبل أن أختتم هذه الورقة لا بد من التذكير أن تغيير الباردايم السياسيّ المأمول يجب أن يقوم على دولة مدنية، لا عسكريّة، على السِّلم لا على الحرب. فلا يمكن بناء الديمقراطيات في الثكنات العسكريّة. كانت أثينا المدنية مهد الديمقراطية اليونانيّة، لا أسبارطة العسكريّة. يجب إعادة النظر في الخارطة السياسيّة والتفكير في السلام والدولة المدنيّة، لا في قلعة عسكرية مغلقة على الموت كالتابوت، أي كما هي عليه سوريا الأسد تماماً. هذا يقتضي إعادة نقاش دور سوريا القادم مع الدولتين الترسانتين العسكريتين، إيران وإسرائيل، دون التنكُّر أو التخلي عن دعم حق الشعب الفلسطيني في وطنه الشرعيّ. أعرف تماماً أن هذه المحاولة النظرية ستصدُم القوميين الكلاسيكيين العالقين بقعر باردايم القومية السابق كالصدأ.
نعلمُ جميعاً أن الصراع على مستقبل سوريا القادم مستشرٍ ودمويّ، بين دول وأجندات ومصالح. ونعلم أن تغيير الباردايم لا يكون بضغطة زر (لحسن الحظ) بل هو نضال مخلص ونظرة طويلة المدى، تخترق الأفق المنظور وترنو إلى المستقبل البعيد. لكن لا بد اليوم من، قبل أي شيء آخر، استعادة الثورة من مستنقع الاقتتال الطائفي والعسكريّ والعودة بها إلى شعاراتها الأولى في المواطنة والعدالة والمساواة وإسقاط الدولة الأمنية، تلك الشعارات التي مثًّلت جنين الباردايم الجديد الذي شكل هاجس هذا البحث.