«كانت مجموعتنا تتكون من ستة أشخاص ووصلنا أنا واثنين آخرين فيما توفّي ثلاثة على الطريق»، هكذا بدأ علاء (27 عاماً) سرد قصة عبوره الحدود التركية اليونانية بطريقة غير شرعية، أملاً بالوصول إلى السويد والحصول على حق اللجوء فيها.
علاء، الحاصل على شهادة جامعية في هندسة نظم الحاسوب، هو واحد من آلاف السوريين الذين خاضوا ويخوضون مسارات مليئة بالمغامرات والمخاطر في سبيل الوصول إلى الدولة الإسكندنافية، والتي أضحت كعبة السوريين الراغبين في اللجوء إلى أوروبا منذ اندلاع الثورة السورية قبل أكثر من ثلاث سنوات، ولا تتوفر أرقام دقيقة عن مجموع هؤلاء، خاصة أن نسبة منهم تلقى حتفها قبل أن تبلغ غايتها.
اضطر الشاب المنحدر من مدينة درعا إلى مغادرة بلاده، هرباً من ملاحقة الأفرع الأمنية لانخراطه في الاحتجاجات ضد نظام الرئيس بشار الأسد، ثم اضطر لاحقاً لمغادرة الأردن، بلد لجوئه الأول، بعد إشكاليات تعرّض لها مع الأمن الأردني وخوفاً من تهديدات وصلته من «جبهة النصرة»، وهي إحدى القوى التي تقاتل في سوريا.
غادر علاء باتجاه مدينة اسطنبول التركية، ومنها إلى إزمير، حيث فشلت أولى تجارب عبوره الحدود مع اليونان، إذ اكتشف خفر السواحل اليوناني القارب الذي كان يُقلّهم قبل مئات الأمتار فقط من الوصول إلى جزيرة يونانية. في المحاولة مع مهرّب من مدينة حلب السورية، قضى علاء ومجموعته التي تضم شاباً آخر وعائلة من اللاذقية مكونة من زوجين وطفليهما أكثر من ساعتين لاجتياز بضعة كيلومترات في مياه بحر إيجه، بسبب عطل أصاب قاربهم بُعيد الانطلاق ورفْض قائده العودة.
يقول علاء في حديث لـ الجمهورية، إن العطل الذي أصاب القارب لم يكن المفاجأة غير السعيدة الوحيدة، فبدلاً من أن يتم إيصالهم إلى نقطة قرب أحد الموانئ، بحسب اتفاق مسبق مع المهرّب، وضع قبطان الرحلة اللاجئين الستة في منطقة تبعد عدة كيلومترات عن أقرب شارع، وأضاف علاء أن «الكيلومترات كانت عبارة عن جرود صخرية مرتفعة وقاسية فيها درب ضيقة لا يتجاوز عرضها نصف متر».
بلا دليل يقودهم، تاهت المجموعة في الجرود الصخرية ولم يُجدِها الاتصال بالنجدة اليونانية طلباً للمساعدة. بعد يوم كامل بلا مياه أو طعام، استأنفوا مسيرهم إثر ليلة بلا نوم بسبب البرد الشديد في العراء. رب الأسرة انفصل عن المجموعة بهدف رغبته سلوك الطريق البحري سباحة والعودة بالنجدة، وهو ما يعني السباحة لعدة كيلومترات. يوضّح علاء أن الزوجة والطفلين لم يعودوا قادرين على إكمال مسيرتهم نتيجة الإجهاد والعطش الشديد، فطلبت الأم أن ينتظروا في مكانهم وكان آخر ما قالته «جيبولنا مي منشان ما نموت».
واصل الشابان رحلتهما على أمل العودة بمياه شرب للأم والطفلين، وفيما احتفظ علاء ببعض من قوته، بدأ الشاب الآخر يفقد توازنه، وهو أساساً يعاني من آلام في الظهر ومشاكل ضغط، فطلب من علاء في حال غطّ في النوم ألا يوقظه «كي يموت وهو مرتاح». يواصل الشاب قصّ ما جرى معه: «بعد ساعتين من المشي دخلنا إلى منطقة أحراش ووجدنا بناء قديماً لكنيسة صغيرة وفارغة، عثرنا داخلها على وعاء به مياه قديمة مخضرّة، فككت رباطاً طبياً كنت أضعه على ركبتي واستخدمناه لتصفية المياه قدر الإمكان والشرب.. بعد أن شربنا، عجزنا عن التحرك وغطَطنا بالنوم، واستيقظنا على صوت الشرطة والإطفاء بعد سبعة ساعات تقريباً لنكتشف أن الأحراش تحترق والنار لا تبعد عنا سوى بضع عشرات من الأمتار. اعتقلتنا الشرطة، ولم يصدّقوا أننا خلّفنا وراءنا عائلة وأطفالاً ولم يبذلوا جهداً لإنقاذهم، بل اقتادونا إلى مركز الشرطة ووجّهوا لنا اتهامات بإشعال النار عمداً».
بعد يوم واحد فقط في مركز الشرطة الحدودي، وصل رب الأسرة وبدأ يتحدث عن عائلته المفقودة، إلا أن الشرطة اليونانية لم تسمح لعلاء بالمساعدة في تحديد مكان العائلة إلا بعد أسبوع كامل على افتراقه عنهم، دون السماح له بالوصول إلى النقطة التي افترقوا فيها بحجة أنها منطقة محظورة، فيما واصل رب الأسرة البحث عن عائلته لوحده وعثر بعد أسبوع على الجثث.
واجه علاء مجموعة من الاتهامات، تبدأ بالتجسس لمصلحة تركيا ولا تنتهي عند الإرهاب، مروراً بحرق الأحراش عمداً، قضى ابن السابعة والعشرين ثلاثة أسابيع في السجن دون السماح له بإجراء أي اتصال، وفي أول أيام العيد سمحوا له بإجراء مكالمة لمدة دقيقتين مع والدته في سوريا، وبمجرد أن سمعت الأخيرة صوته همست في السماعة «إنت عايش» وانخرطت في البكاء. نقلت السلطات اليونانية المهندس الشاب إلى سجن مركزي في أثينا حيث قضى أسوأ أيام حياته، وفق تعبيره، قبل أن يتم الإفراج عنه لاحقاً.
أربعة جوازات وعدسات زرقاء
الطريق ذاتها سلكها وسيم (29 عاماً)، الحاصل على بكالوريوس في إدارة الأعمال ودبلوم في العلوم المصرفية، لكن برفقة زوجته ومجموعة مؤلفة من 12 لاجئاً، بينهم ثلاث نساء وثلاثة أطفال دون السادسة وشابّ يعاني من الربو.
كان الموت هاجساً لدى وسيم قبل الشروع في رحلته، مما تناهى إلى سمعه من أنباء عن مصير بعض من العابرين عزز هذا الهاجس. «طبعاً كنت أخشى الموت، سبق أن علمت أن مجموعة من المهاجرين قضت على الطريق نفسه برصاص مهرّبين خشوا أن تكتشف السلطات طريق التهريب بعد أن قرّر هؤلاء المهاجرون عدم المضيّ في الرحلة والعودة»، هكذا يوضح الشاب لـ الجمهورية الأسباب التي كانت تدفعه للقلق، ويضيف أن «إحدى المجموعات تاهت في الغابات التركية لـ16 ساعة، قبل أن يتم إلقاء القبض عليهم من قبل السلطات».
ما تعرض له علاء من خداع في مسار الرحلة ومدّتها المفترضة، واجه وسيم ما يشبهه أيضاً على الرغم من أن المجموعة التي كان يرافقها تضمّ ابنة عمّ المهرّب وأطفالها الثلاثة. بدأت الرحلة من غازي عنتاب إلى إسطنبول فإزمير، ثم رحلة في السيارة لنحو خمس ساعات، تلاها مسير ليلي قرابة ساعة في إحدى الغابات لبلوغ البحر ومن ثم الخوض في البحر مشياً للوصول إلى القارب. كان خط الرحلة يقتضي بحسب المهرّب قضاء نصف ساعة بالقارب للانتقال من تركيا إلى نقطة داخل الحدود اليونانية، على أن يليها مشي لنحو تسعين دقيقة تتضمّن تجاوز تلّة لا يزيد ارتفاعها عن خمسين متراً للوصول إلى أقرب مركز شرطة.
ما كان يفترض أن يكون ساعة إلى ساعة ونصف من تجاوز تلة لا تزيد عن 50 متراً، اتضح أنه ثمانية ساعات من تسلق ثلاثة جرود صخرية من الصوان ارتفاعها أكثر بنحو أربعة أضعاف. لم يكن أحد في المجموعة قد أخذ هذا في الحسبان، لم يحمل أحد منهم المياه وكان عليهم تسلق الجرود لتجنّب خطر الانكشاف من خفر السواحل اليونانية، وكل هذا تحت أمطار لم تتوقف ووسط ظلام دامس، إذ لا يمكن استخدام أي نوع من أنواع الإضاءة لأنها تلفت نظر خفر السواحل.
بغياب أي دليل يعرف الطريق، عمدت المجموعة إلى الاتصال بالمهرّب بين حين وآخر للاستفهام منه عن الطريق، اتصالات كانت تذهب سدى في كثير من الأحيان لانتفاء القدرة على وصف موقع المجموعة نتيجة الظلام المطبق. يشير وسيم إلى أن المجموعة كانت محظوظة لأن أحد أعضائها درس دربها المفترض عن طريق خرائط غوغل.
المشي على الصخور وتسلّقها أدى لتمزق أحذية العابرين وأجزاء من ملابسهم. يقول وسيم: «كنا أحيانا نرى مِزَقاً لثياب آخرين مروا من الطريق نفسه، ولا نعرف هل بلغوا مرادهم أم لا». نتيجة الإجهاد أخذت زوجته تبكي ثم بدأت تهلوس مع إنهاكها وتقيأت ثلاث مرات، فيما اضطرت المجموعة للتوقف مرتين وأخذ استراحة إجبارية، مرة لأن أحد أفرادها عانى من نوبة ربو، ومرة لأن آخرَ أُصيب بعارض صحّي مفاجئ في القلب.
بعيد الوصول، أمضى وسيم يومين في مركز شرطة باليونان، ثم تمّ إطلاق سراحه ليقضي 45 يوماً في أثينا وتبدأ محاولاته لمواصلة الطريق إلى السويد عبر دولة ثالثة. محاولته الأولى كانت باستخدام جواز سفر أميركي له وكرواتي لزوجته والاتجاه إلى برشلونة، فعبرت الزوجة وتم اكتشاف الزوج دون أن يتم اعتقاله، بل مجرد مصادرة أوراقه المزورة. المحاولة الثانية كانت باتجاه سويسرا عبر أوراق إقامة سويدية، وباءت هذه المحاولة بالفشل أيضاً. وفي المرة الثالثة تكلّلت المحاولة بالنجاح باستخدام جواز سفر فرنسي يتشابه صاحبه في الملامح مع وسيم باستثناء اختلاف لون العيون، اختلاف تلافاه وسيم عبر وضع عدسات ملونة ليسافر إلى أمستردام ومنها إلى ستوكهولم.
في مقر إقامة مخصّص للاجئين سوريين في السويد، سمع وسيم قصصاً أخرى لمواطنين سوريين خاضوا تجارب متنوعة في قسوتها ومدى غرابتها. أحد اللاجئين الذين سلكوا الدرب الصخري في اليونان وصل إلى مركز الشرطة وهو يحمل حقيبة حاسوبه المحمول ويرتدي لباساً داخلياً فقط، بعد تمزق ملابسه بسبب الصخور. لاجئ آخر تم إخفاؤه في صهريج لنقل الوقود، انتقل به من تركيا إلى إيطاليا، ماراً ببلغاريا وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا، ومن ثم أكمل طريقه من إيطاليا بالقطار.
قوارب المخلّل
هدى (21 عاماً) كان عليها أن تعبر البحر لا الجبال كي تصل إلى أوربا. الفلسطينية السورية خاضت البحر المتوسط من الإسكندرية إلى إيطاليا برفقة رضيعتها ابنة التسعة أشهر وزوجها وحماتها، الذين فضّلوا أن يغادروا مصر «لأننا لم نملك خياراً آخر، فلا نستطيع العودة إلى بلدنا بينما الحياة في مصر أصبحت كالجحيم للسوريين في بعض المناطق»، وفق ما تقول هدى.
وفيما يبدو أنه قاسم مشترك بين جميع اللاجئين، كان ثمة اعتقاد خاطئ بسهولة ما هم مُقْبلون عليه. توضّح هدى، التي غادرت سوريا قبل عامين، أن أقاربها الذين سبقوها إلى السويد أخبروها أن الرحلة سهلة ومضمونة ضمن قارب واسع ومريح، لكن الواقع كان أكثر هولاً: «انصدمنا أن القارب صغير ومخصّص للصيد، وكان عدد المهاجرين حوالي 170 شخص بدلاً من 60 حسب ما أخبرونا سابقاً»، وتضيف الطالبة السابقة في كلية علم الاجتماع بجامعة دمشق أن المهاجرين كانوا «محشورين كالمخلّل» في القارب.
حملت أفراد العائلة حقيبة ظهر واحدة لكل فرد فيهم، احتوت قليلاً من الطعام والمياه والثياب وستَر نجاة كانوا يعلمون ضمناً أنها قد لا تفيد فيما لو اضطروا لاستخدامها في عرض البحر، وبعد خمسة أيام في مياه المتوسط، انتقل المهاجرون من قاربهم الضيق أصلاً إلى قارب أصغر بهدف التخفّي عن خفر السواحل الإيطالي. كان مقرّراً أن تكون رحلة القارب الصغير للوصول إلى شواطئ إيطاليا أربع ساعات، لكن القارب تاه في المياه ليومين كاملين، بدأ خلالها مخزون المياه والطعام ينفد. من حسن الحظ أن القبطان اقتنى هاتف ثريّا للطوارئ، فاتصل بالنجدة الإيطالية التي حدّدت موقع القارب ونقلوا راكبيه في قوارب مطاطية إلى الشاطئ، الذي كان يبعد أكثر من ساعتين.
من إيطاليا بدأت العائلة رحلة بالحافلات مع مهرّب آخر، مرّوا خلالها بفرنسا ومن ثَمّ ألمانيا، حيث ألقت السلطات القبض عليهم لأن سائق الحافلة كان مخموراً ونقلتهم إلى مخيم للاجئين، لكن العائلة فرّت من المخيم وتابعت طريقها إلى الدنمارك ومنها إلى مدينة مالمو في السويد.
سبعة أيام في البحر
خاض عثمان رحلة مشابهة بعض الشيء لرحلة هدى وعائلتها، انطلاقاً من الإسكندرية باتجاه إيطاليا. ابن مدينة جسر الشغور كان يعمل بالتجارة ويملك محلّ ألبسة، قبل أن يقرّر مغادرة بلاده لاستحالة مواصلة المعيشة فيها، بسبب جمود الوضع الاقتصادي وفراغها من سكانها، عدا عن تسلط ضباط وجنود جيش النظام السوري على محلّه وأخذ ملابس منه بالمجّان متى شاءوا.
انتقل عثمان إلى تركيا ومنها مباشرة إلى مصر، حيث قضى تسعة أشهر. يشير إلى أنه لم يكن يفكر أبداً بالهجرة غير الشرعية كونه يخشى عواقبها وما قد يمرّ به خلالها، لكنه عندما رأى مُسنّين ومسنّات وأطفالاً من السوريين يُقدِمون عليها في الإسكندرية، عَدَلَ عن رأيه وقرّر الهجرة مع المهاجرين. انحشر في قارب مزدحم ضمّ أكثر من مائة آخرين، معظمهم من السوريين والفلسطينيين السوريين، بالإضافة إلى قلّة من المصريين.
يوضح ابن جسر الشغور أن الأيام الأربعة الأولى خلال الرحلة مرّت بهدوء بشكل عام، عكّره أحياناً دوار البحر وحالات القياء المتكرر، ليضيف: «تغير كل شيء في اليوم الرابع، بعد أن تعطّل محرك القارب بالتزامن مع ارتفاع مفاجئ للأمواج وتغيّر في الطقس، كانت الأمواج عالية جداً والقارب لا يكاد يتقدم».
«مرت بعدها ثلاثة أيام نفدت خلالها مخزونات الطعام والمياه في القارب، وكانت البواخر تمرّ بالقرب منا لكنها لا تقترب كثيراً خشية انقلاب القارب بسبب ارتفاع الموج، اتصلنا بالنجدة الإيطالية، ولم تستطع قوارب النجدة نقلنا من داخله أيضاً بسبب الموج المرتفع، فيما قامت مروحيات بإلقاء ستر نجاة وسلل غذائية لكنها سقطت في البحر، فاضطررت للسباحة من أجل إحضارها وخاصة أن الأطفال لم يتذوقوا شيئاً من أيام».
بعد هدوء الموج نقلت السلطات الإيطالية المهاجرين إلى صقلية، ومنها انتقل عثمان ميلانو فباريس فبلجيكا فهولندا ثم ألمانيا والدنمارك وصولاً إلى السويد.
عثمان دفع 3,200 دولار للمهرّب، ومع ذلك فهو يؤكد أنه سيعود إلى بلده فيما إذا استقرّت الأمور، شارحاً الأسباب التي تدفعه للعودة: «هناك لدي محل وبيت ومستقبل، هناك سأتزوج وأنجب، هنا تقتصر حياتي على الأكل والشرب».
أما علاء فأنفق لغاية اللحظة نحو 10 آلاف يورو، منها 2,200 يورو للمهرّب وما تبقى أتعاب للمحامين ومصروف شخصي، وهو ما زال في اليونان حيث يقضي أيامه مُفلساً، محاولاً إيجاد وسيلة لمواصلة الطريق إلى السويد.
وسيم بدوره لا يفكر بالعودة إلى سوريا حتى لو تحسن الوضع الأمني في البلاد. فالمجيء إلى السويد كان بالنسبة له أشبه باستثمار، كلّفه وزوجته نحو 24 ألف يورو، منها 13 ألف يورو دفعها للمهرّبين ومصاريف سفر وإقامة في تركيا واليونان.
تتعلم هدى حالياً اللغة السويدية، تأمل بالعودة إلى سوريا في حال تغيّر النظام «رغم أن شروط الحياة هنا أفضل لنا كعائلة، لكن سوريا تبقى بلدنا التي نشتاق لها»، على الرغم من أنها دفعت وأفراد عائلتها نحو 9 آلاف دولار لبلوغ الجنّة السويدية.