الخوف من مظاهرات حاشدة قد تحدث خلال كأس العالم، مثل تلك التي حدثت خلال كأس القارّات في حزيران الماضي، يدفع الحكومة للتسلّح باستراتيجيات قمعية لا يمكن تصديقها ضد الاحتجاجات. ونصف الشعب البرازيلي يرفض الكأس.
«في الأشهر القليلة المنصرمة شهدنا تصعيداً في القمع، يهدف إلى إسكات الأصوات التي تعارض الذين في القمة وأدوات قوتهم: الدولة، الشرطة، الإعلام»، هكذا يقول بيان ’حركة الأجرة الحرة‘ (Movimento Passe Livre, MPL) في ساو باولو.
المدينة كانت النقطة الرئيسية لمظاهرات حزيران. «في عام 2013، لم يكن يمكن، حتى في الإعلام السائد، إخفاء الأفعال غير المشروعة للشرطة العسكرية، أو انتقائية العدالة في أطراف المدينة أثناء التعامل مع الصراع الاجتماعي». في الخامس من آذار، استنكرت ’حركة الأجرة الحرة‘ تكاثر الاعتقالات التعسفية: مثلاً لأن المعتقلين كان بحوزتهم «قناع المتظاهر»، لأنه/لأنها كانت تحمل الخلّ في حقائب الظهر (لإبطال مفعول غاز الشرطة)، أو الشائع جداً «لأنهم ينوون القيام بعملية كتلة سوداء». ليس فقط أعضاء هذه المنظمة، لكن أيضاً منظمات حقوق الإنسان تشكو من سلوك رجال الشرطة ضد المحتجين «كما يفعل الناس يومياً في المناطق الفقيرة في المدينة».
هناك تشنّج لا شك فيه من جهة حكومة ديلما روسيف في مواجهة كأس العالم، وسيظهر التشنج أكثر عندما يتحول تركيز الإعلام نحو البرازيل. صورة البلد على المحكّ، يجادل أولئك الذين في الأعلى. «إن لم يكن لنا حقوق، لا كان الكأس»، تردّ الحركات الاحتجاجية.
ما هو واضح أن المناخ السياسي يتلبّد ويتوتّر. تلاحظ اللوموند (4 آذار2014) أنه «في تاريخ كرنفال الريو كله لم يكن هناك أعداد كبيرة من الشرطة في الشوارع». لكن خلال احتفالات هذه السنة، تسيّر مدينة ريو دي جانيرو دوريات قوامها 17.000 رجل شرطة، العدد الذي سيرتفع إلى 50.000 من أجل كأس العالم، بالإضافة إلى 100.000 آخرين في مدن أخرى، معزّزة بـ57.000 جندي. مئتا ألف شخص مغسولي الأدمغة منتظمين ومسلحين لحفظ النظام.
رفض الهدر
سيكون إلى حد بعيد أكثر مونديال كلفةً في التاريخ. المجموع الكلي للبطولة سيكون بحدود 14 بليون دولار، أي أكثر بمرتين مما كان مخططاً له في الأساس (اللوموند، 4 آذار 2014). 90% تقريباً من هذا يأتي من خزينة الدولة، والتي، في رأي النقاد، سيكون أفضل لو تم صرفه على التعليم والصحة والبنى التحتية. هذا أحد أهم أسباب تساؤل نصف البرازيليين عن استضافة بلادهم لكأس العالم. معهد داتافوليا يؤكّد على أن دعم البطولة تراجع من 79% في تشرين الثاني إلى 52% في الأسابيع الأخيرة. حتى القطاعات الأكثر شغفاً بكرة القدم تشعر بهذه الموجة من الرفض. «كما لو أن كأس العالم أصبح ’حجرة صدى‘ لكل العلل في هذا البلد»، تقول اللوموند.
بالاستناد إلى الإحصاء نفسه، 75% من البرازيليين لا يوافقون على الاستثمارات الخاصة بكأس العالم. مشاريع تحسين النقل بين الأماكن المدينية توقّفت، والميزانية المرصودة للبنية التحتية للنقل العام تراجعت نحو الثلث، في حين أن خمسة من أصل 12 ملعباً لم تكتمل حتى الآن.
رئيس الفيفا جوزيف بلاتر اشتكى من أن البرازيل امتلكت الوقت الكافي للتجهيز لكأس العالم (سبع سنوات) لكنها الأكثر «تأخراً» خلال الأربعين سنة من عمر الوكالة.
حسب إحصاء لـCNT (الفيدرالية الوطنية للعمّال)، 50.7% لن يرشحوا البلد لكأس العالم مرة أخرى، وفقط 26.1% سيقومون بذلك. المسار التاريخي يبدو واضحاً: في 2008، دعم 79% البطولة، وفي 2013، عندما بدأت الاحتجاجات، تراجع الدعم الى 56%. هو الآن في النصف تقريباً، وربما يستمر في التراجع. علاوة على ذلك، يوضح الإحصاء أن 8 من بين 10 يعتقدون أنه من الأفضل إنفاق الأموال المصروفة على الملاعب على «أمور أكثر أهمية»، لأن مدناً مثل برازيليا، التي ليس لديها فريق محترف من الدرجة الأولى، لن تستقبل سوى عدد قليل من المهتمّين بعد كأس العالم.
«من يعنيه امتلاك ملعب في مانواس؟»، يتساءل أورلاندو دو سانتوس، وكيل التنسيقية الوطنية لـ’لجان الكأس الشعبية‘، «إنه يخاطر بأن يصبح الفيل الأبيض» (دويتشه فيله، 4 آذار 2014). هذه المعطيات الأخيرة للمنظمة تشير إلى أنه، في ريو وحدها، هناك أكثر من 100,000 من الناس تم تهجيرهم من أجل أعمال البناء المتعلقة بكأس العالم والألعاب الأولمبية في 2016.
هناك حقائق تجعلك تتردد. رصف وتشييد بييرا-ريو في بورتو أليغري ما زالت في مرحلة المزايدة. جزء من البنية التحتية، كتلك التي في مطار توم جوبيم (غالياو) في ريو، سوف تكتمل بعد كأس العالم. مطار فورتاليزا الدولي سيكون لديه مهبط مؤقت، في حين أن بعض المشاريع التي تم تدشينها في كيوريتيبا تشهد فشلاً ويجب إعادة إصلاحها (دويتشه فيله، 4 آذار 2014).
مقابل هذه الخلفية، قرّرت بعض المدن تخفيض التكاليف المرتبطة باحتفالات البطولة. مدينة ريسيف أعلنت أنها لن تشارك في ’مهرجان مشجعي الفيفا‘، أي تلك العروض الجماهيرية التي تنقل فيها المباريات على شاشات عملاقة والتي أصبحت موضة في كأس العالم 2006 في ألمانيا. في تلك البطولة، وتلك التي تلتها في جنوب افريقيا، حشدت احتفالات الفيفا 24 مليون شخصاً في الشوارع، كانوا يستهلكون بتسليم طقوسي منتجات معتمدة من قبل المنظمين. برازيليا قررت فعل هذا، بعيداً عن مركز المدينة، وبورتو أليغري أرجأت. قرار ريو ما زال قيد الانتظار. الخوف من الاحتجاجات، والحاجة الى النأي بالنفس عن مؤسسة كرة القدم متعددة الجنسيات، أدى الى شيوع الحذر بين المسؤولين العامّين.
أحد نجوم الكرة في البلد، روماريو، وهو لاعب سابق في المنتخب الوطني وسياسي حالياً، وصف البطولة بأنها «أكبر سرقة في تاريخ البرازيل». وأثناء احتجاجات 2013، قال: «الرئيس الحقيقي لهذا البلد اليوم هو الفيفا، فهي تأتي هنا لتحل دولة داخل الدولة»، مستنداً في ذلك إلى حقيقة أن «القوانين» المفروضة من قبل منظمي الفيفا هي التي ستحكم خلال البطولة. أما بيليه فيصطفّ إلى جانب أولئك المدافعين عن الكأس. «كرة القدم تجلب الفوائد والعملة الأجنبية فقط إلى البلد»، قال في حزيران الماضي، وهو ما يظهر البلاد منقسمة الرأي، حتى بين نجومها الرياضيين.
الكاراتيه تعمل
في يوم السبت، 22 شباط، دعت عدة مجموعات إلى التظاهر في ساو باولو، حضرها حوالي 1,500 شخص. نشرت الشرطة تكتيكات جديدة لفضّ المظاهرات. بدلاً من تطبيق الاستراتيجية التقليدية لتفريق المحتجين، الذين يعودون للتجمع كالعنقود في مجموعات صغيرة، كانت الشرطة تنتشر على نطاق واسع (2,300 رجل شرطة ضد 1,500 متظاهر) وباستخدام طيارات هيلوكوبتر ومنظومة واسعة للدعم اللوجستي.
أول ما بدأت المسيرة، سارع رجال الشرطة إلى قسمها الى اثنتين، وتم تطويق الذين تم اعتبارهم أشد «خطورة» من قبل ما يسمى «فرقة النينجا»، وهم 200 رجل شرطة مدربين على الكاراتيه. لم يكن المتظاهرون مطوّقين فقط، بل مجبرين على الجلوس أرضاً. مع أولئك الذين قاوموها، استخدمت الشرطة «قاتل الأسد»، وهو فن قتالي يشلّ الخصم عن طريق خنق مؤقت. (ديفيسانيت، 23 شباط 2014).
من بقي داخل سياج الشرطة تم تفتيشه، ومن اعتبروهم «خطيرين» تم «اقتيادهم واحداً تلو الآخر إلى طريق جانبي بواسطة شرطة الكاراتيه العسكرية» (فوليا دي ساو باولو، 23 شباط 2014). أكثر من 260 متظاهر تم اعتقالهم، لكن تم إطلاق سراحهم مباشرة لعدم توثيق تهم ضدهم. الواقع أنهم، في الوقت الذي أوقفوا فيه من قبل شرطة الكاراتيه، لم يكونوا قد ارتكبوا أي شيء خاطئ. ’الرابطة البرازيلية للصحافة التحقيقية‘ (ABRAJI) ذكرت أن العديد من المصوّرين مُنعوا من العمل وضُربوا. «إنه تعنيف، إهانة لحق الصحفيين في تسجيل الحدث الجاري، وهي ليست المرة الأولى ولن يكون هناك عقاب» (هيدي برازيل أتواو، 24 شباط 2014).
في بيان لاحق، أكدت ’الرابطة‘ أنّ 19 مصوراً وصحفياً هوجموا أو اعتُقلوا في يوم السبت 22. «منذ حزيران 2013، تم تسجيل 68 حالة من الاعتداء على الصحفيين الذين يغطّون مظاهرات ساو باولو، منها 62 حالة متعمدة، حدثت بالرغم من تعريف الصحفيين عن أنفسهم بوصفهم كذلك. على مستوى البلاد منذ حزيران الماضي، سجلنا 138 حالة من التعنيف والاعتداء أو اعتقال الصحفيين الذين يغطون الاحتجاجات» (الرابطة البرازيلية للصحافة التحقيقية، 26 شباط 2014).
أتى ردّ الفعل سريعاً من منظمات حقوق الانسان. أمين المظالم في شرطة ساو باولو خوليو فيرنانديز نيفيس، وهو محامٍ اشتهر بدفاعه عن حقوق الإنسان عينته محافظة جيرالدو ألكمين، قال إن تكتيك رجال الشرطة الجديد «غير مرضٍ وغير مقبول» لأنه في الواقع «عقبة أمام الحق في الاحتجاج» (هيدي برازيل أتواو، 24 شباط 2014). بالنسبة لأمين المظالم، اعتقال ناس لم يرتكبوا أية جُنحة يُعدّ مسألة خطيرة. يمكن للشرطة أن تعمل فقط في اللحظة التي تقع فيها الجريمة، وليس لأنهم يتخيلون أنها ستقع»، يقول. على كل حال، ما يثير غضبه هو الحصانة، لأنه حتى لو تم تقديم ادعاءات وأدلة، ستظل مؤسسة الشرطة هي نفسها المسؤولة عن الحكم. قال إنه بين عامي 2000 و2013 لم تكن هناك أية عقوبات على انتهاكات الشرطة أثناء الاحتجاجات، وبشكل خاص لم تكن هناك عقوبات مطبقة على الرغم من الاعتداءات المؤكدة على المتظاهرين السلميين في حزيران 2013.
«الخطورة في عدم العقاب تكمن في تمزيق الشرعية، ما ينذر بنهاية الديمقراطية»، يوضح فرناندز نيفيس. تحدث عن ضرب الشرطة للمحتجين المطوقين ووضعهم على الأرض جاثين على الرُّكَب، وإخضاعهم لتفتيش مُهين.
انتصار رمزي
تشهد البرازيل تصاعداً في العنف الاجتماعي، غير ذاك الذي تمارسه الشرطة. في مدينة ريو دي جانيرو، حيث تم تشييد وحدات شرطة للتهدئة في ثلاثين حياً فقيراً، سُجّلت زيادة ملحوظة في جرائم القتل في 2013، بعد ثلاث سنوات متتالية من الانخفاض.
خلال عطلة نهاية العام، ارتفعت نسبة الوفيات الناجمة عن العنف الى 33% في ريو، و10% على مستوى البلاد (اللوموند، 4آذار 2014).
في 12 شباط تم إصدار بيان ضد تجريم المحامين الذين يعملون لصالح المتظاهرين وتم التوقيع عليه من قبل 90 منظمة ومئات المحامين، بقيادة ’معهد المدافعين عن حقوق الانسان‘. نصّ البيان يُدين الشرطة على زيادة العنف المستمرّ (منذ مظاهرات حزيران) ضدّ المحامين، الذين يتم عادةً «تهديدهم وإهانتهم وحتى الاعتداء عليهم جسدياً» حين يهتمّون بقضايا المعتقلين (http://ddh.org.br، 12 شباط 2012). إنهم يفهمون موقف الشرطة على أنه «استراتيجية الدولة الثابتة في قمع الحقوق والضمانات الفردية للمتظاهرين، عن طريق تخفيض نفقات المرافعة». مثل مجموعات أخرى عديدة، يطالبون «بنزع سلاح الشرطة وإنهاء إبادة الشباب الأسود الفقير في الأحياء الفقيرة وأطراف المدن».
منظمة ’العدالة الدولية‘، وهي إحدى أهم جماعات حقوق الإنسان في البرازيل، أدانت الحكومة أمام ’لجنة حقوق الإنسان‘ التابعة لـ’منظمة الدول الأمريكية‘. ستعقد جلسة استماع علنية في آذار 28 في واشنطن، حيث ستجلس الحكومة لأول مرة أمام المجتمع ليتم استجوابها حول عنف الشرطة وتجريم المتظاهرين وقوانين الاستثناء وقمع الصحفيين والمحامين.
قدمت مجموعة من المنظمات الاجتماعية 200 حالة لانتهاك حقوق الانسان أثناء احتجاجات حزيران الماضي. إدوارد بكر، محامي منظمة ’العدالة الدولية‘، قال إن «الدولة استخدمت أكثر من مرة النظام الجزائي كاستجابة وحيدة للمطالب الشعبية. إنها الفرصة الأولى لمجتمع مدني» (http://global.org.br، 10 آذار 2014).
في هذا السيناريو الذي لا يدعو للتفاؤل، وصلت بعض الأخبار الجيدة. بلاتر وروسيف سيُلغيان الخطابات الافتتاحية التقليدية لكأس العالم، لتجنّب الاستهجان الذي حدث خلال كأس القارّات. بلاتر قال إنه «مقتنع بأن الوضع قد هدأ»، لكنه أضاف «سوف نُعدّ حفلاً بلا أي خطابات» (فوليا دي ساو باولو، 11 آذار 2014).
في 12حزيران، في إيتاكيراو، حين يجتمع لاعبو البرازيل وكرواتيا للاستماع الى نشيديهما الوطنيين وتتملّى السلطات في عجزها، عدد غير قليل من البرازيليين سيبتسمون ابتسامة ماكرة.
( المقال اﻷصلي )