تنويه: ورود كلمة «آباء» في هذا المقال لا يعني الآباء الذكور وحدهم، بل يشمل الأمّهات أيضاً، أي الأبوين. إلا أنه في بعض المواضع خصصنا الحديث أكثر واستخدمنا كلمة «أمهات» لبيان التمييز في سياق المعنى.

كشفت الثورة السورية عن الوجه الأكثر بشاعةً للنظام السوري، الوجه الذي طالما حاول النظام على مدى العقود المظلمة من حكمه إخفاءه وتقنينه والتحايل عليه وتقديمه كجزء «شرعيّ» ضمن خيارات عديدة، مبرزاً الوجوه الأخرى للسلطة بكل أدواتها قاطبة. إنه العنف! العنف كنهج عصبوي يصبو إلى «إلحاق أكبر أذى ممكن للآخر/المقابل». لم يعد ممكناً الحديث عنه بوصفه «إحدى» أدوات النظام في المواجهة، وإنما سمة رئيسية من السمات البنيوية العميقة التي ترتكز عليها فلسفته في امتلاك السلطة، في الدفاع عنها، وفي التدمير المنهجي عمرانياً ومجتمعياً في سبيلها. ليس سرّاً بأن العنف الذي أظهره النظام بطاقة كاملة أدّى في أحيان كثيرة باتت متواترة إلى الموت المحتّم. فإذا كان إرهاب الآخر من إحدى مآلات العنف التي سعى اليها النظام عبر سنوات حكمه المديد، فإنّ الموت بوصفه «جزاءً» أصيلاً كان المآل المفضّل للعنف هذه المرة. كان العنف خلال مسار الثورة يتصاعد بتراتبية بدت وكأنها محكمة، وبشكل لا يمكن تأويله إلا كمصير «غريزي» ذاهب للعدم.

«لقد قتل هذا النظام أبناءنا» لم تكن عبارة أطلقها أب بائس في لحظة تقريرية سوداوية، بل كانت ولم تزل شاهداً على شيوع عمليات القتل وفرادتها منذ بدء الثورة حتى اليوم. تسبّب النظام في قتل الآلاف من السوريين، بتنويع سادي قلّ نظيره، لكنّ هؤلاء الآلاف ليسوا مجرّد «أشباح» رقمية، بلا ملامح ولا أثر، بل ذوات لها معنى وقيمة، فردياً واجتماعياً. إنهم «أبناء» لآباء وأمّهات. تفحّص بسيط لقوائم الشهداء التي أصدرتها هيئات ثورية ومدنية عديدة مركز دراسات الجمهورية الديموقراطية: http://drsc-sy.org/category/investigations ’قاعدة بيانات شهداء الثورة السورية‘: http://syrianshuhada.com/default.asp?a=st&st=4 ’جمعية الحقوق السورية‘: http://bit.ly/RkdnLq ’الشبكة السورية لحقوق الإنسان‘، رابط: http://bit.ly/QaeNH4 ’مركز توثيق الانتهاكات في سوريا‘: http://www.vdc-sy.info/index.php/ar/martyrs سوف يُظهر حجم المأساة في كون معظم الذين لاقوا حتفهم كانوا من فئة الشباب والرشد المبكّر، عدا عن أعداد لا يستهان بها من اليافعين، من الأطفال وكبار السنّ. آلاف من الآباء والأمهات اضطروا إلى وداع أبنائهم المضرّجين بالدماء إلى مثواهم الأخير، وآلاف أخرى لم تؤتَ هذا الترف. عدد كبير من الآباء اضطروا لتسلّم جثث أبنائهم وعليها علامات التعذيب الشديد، آخرون أجبروا على تسلّم بطاقات الأبناء الشخصية بلا جثث ولا جثامين. العديد من الآباء والأمهات تعيّن عليهم رؤية أبنائهم وقد أضحوا أشلاء مبعثرة، وآخرون أجبرتهم ظروف القمع العاري والحرب القاسية على رؤية أطفالهم وهم ينسلّون إلى الموت ببطء شديد مؤلم، وذلك لانعدام وسائل العلاج لأسباب متعددة. لقد كان «استسهال القتل» هو الميزة الأكثر التصاقاً بهذا النظام. لقد كان ذلك أقرب إلى «القتل من أجل القتل»، مخلّفاً ظاهرة هي الأقسى: آباء بلا أبناء!

في مفارقة/مجافاة الواقع

«سألت الخالة أم معتز: كيفو إبنك، انشاء الله صار أحسن؟ قالتلي: إيه والله يا خالتي، الحمد لله ما فيو شي هلق! ابتسمت لها وقلت: إيه الحمد لله… وتلفتت حواليي وإذا بأحد الأصدقاء يهمس في أذني: لقد استشهد ابنها منذ شهرين ودفنته بيديها!» من صديقة شاهدة عيان في منطقة عربين في الغوطة الشرقية/دمشق..

في ثنايا الرضّ النفسي العميق الذي يُحْدثه فقدان الأبناء، تتدهور علاقة الأبوين مع الواقع بدرجة واضحة، ويقوم العقل الباطن بتخليق واقع افتراضي جديد، لا يأبه للموت، لا يعترف بالفراق ولا يقرّ له، تستمرّ فيه الحياة بتفاصيلها اليومية متسايرة مع «خيالات» المفارقين الغيّاب وهي تجوب حول المفجوع كظلّه الدائم. تبدو هذه الظاهرة أكثر وضوحاً عند الأمهات اللواتي فقدن أطفالهنّ وأبناءهنّ، بالمقارنة مع الآباء، الذين يفرض عليهم نمط الشخصية الأبوية الصارمة جدراناً عازلة من التباعد العاطفي، يأخذ وظيفة الحماية من الانهيار والخضوع لمعطيات الثقافة في التعاطي مع متطلّبات الموت. كثير ما يخبر الأخوة في الأُسر التي فقدت أبناءها أنّ الأمهات غالباً يقمن بأعمال عديدة تكون جلّها متمحورة حول الابن، «الغائب/الحاضر»، فثيابه يتمّ غسلها بين الفينة والأخرى، ووجباته المحبّبة تصبح أكثر تواتراً على المائدة، واسمه لا يبدو مفارقاً للسان، يتنقّل من أخ إلى آخر ومن صديق إلى غيره. في أقصى درجات التسليم والاعتراف بالهزيمة أمام الفقد الكبير، يصبح الإنكار الممتزج بتشوّشات واضحة في التوجه هو المسيطر، بحيث يتم تخليق واقع مغاير يحيا فيه الأبناء-الأموات في المخيّلة وفي العقول. وبقدر ما يتم تحييد الواقع الحقيقي للفقد بالكبت والإزاحة الكبت (Suppression) والإزاحة (Displacement) هي إحدى الآليات الدفاعية اللاشعورية في تراث التحليل النفسي، والتي تتمثل في التعامل مع مفعّلات القلق والصراعات الداخلية العميقة للذات/الأنا. يتم في «الكبت» منع كل ما يرتبط بالصراع الداخلي ومسبّبات الألم (صور، اوضاع، حقائق، دوافع، أفكار وسلوكيات) من الولوج الى ساحة الشعور وظهورها والتوافق معها في المجال النفسي الواعي للفرد؛ بينما تعمل «الإزاحة» على إعادة توجيه الانفعالات المؤلمة والضاغطة ومصادر الصدمة نحو أشخاص أو موضوعات أو أفكار معينة تكون مغايرة لمصادر القلق والصراع الأساسي.، يُدفع بذلك الواقع الافتراضي الى الواجهة الحياتية وبشكل يمضي في التدهور. هذه الحالة، من تلك الاصطفافات الغريبة للوقائع المتناقضة في طبقات الوعي، تهزّ ساحات الأنا/النفس وتبعثر وحدة الذات متخذة أشكالاً تفارقية عديدة حالات التفارق وتبدد الوعي (Dissociative Disorders) هي تلك الحالات المرضية التي يحدث فيها إضراب شديد في الوحدة النفسية للفرد يمكن أن يؤدي إلى إضرابات واضحة في وظائف الشخصية وانفصالها عن الحالة السابقة، وخاصة في وظائف الأنا الأساسية، مثل الذاكرة والهوية الفردية، وتعدّ إضرابات الذاكرة التفارقية (Dissociative amnesia) التالية للصدمات والشدّات النفسية من أبرز أبعادها.. هي بالضبط تلك الحالات من الصراع الشديد الذي لا يمكن حلّه إلا بوجود تلك الرغبة في امتلاك الفقيد وإعادته للحياة، رغماً عن كل ما يناقض ذلك. هي لا تعدو محاولة يائسة من أجل تقليص الخسائر وتخفيض ذلك القلق الكبير الناتج عن الفقد.

عن حداد مفقود!

يعتبر الحداد فرصة جديرة للهبوط النفسي والمزاجي العام بعد فقدان الأبناء، وللاستبصار الذاتي العميق في حضور مشاعر الحزن الذي يؤمن للوحدة النفسية والعقلية سكوناً وركوداً تحتاجه أيما حاجة في ظل تبدّد القدرات ومصادر المواجهة الداخلية في أوقات الشدة والفقدان الكبيرين. الحداد هو القدرة على الاحتفاء بفقدان الأحبة مع تحوير الأفكار والهوامات الهوامات (Phantasia) مفهوم من تراث التحليل النفسي، ويدل على سيناريو أو بناء خيالي أو تخليق ديناميكي لعوالم خيالية تكون منافية للواقع، أو متداخلة معه أو مكمّلة له، حيث تلعب العمليات اللاشعورية دوراً كبيراً فيه. والتصورات الناجزة أمام الموت واستطلاعها في مواجهة تبدو خاسرة، والبحث عن سبل معرفية وسلوكية من أجل تقبّل الخسارة الفائقة في لعبة الوجود المتهالكة مع الموت. الحداد هو فرصة أخرى لإظهار الحبّ. مع أن الحداد يُعدّ ملمحاً فردانياً يخصّ أهل الفقيد وحده، إلا أنه، ولتلوينات ثقافية مجتمعية خاصّة، يتّخذ أشكالاً اجتماعية معينة تشعل روح الجماعة من جديد، وتؤمّن مصادر أخرى للمواجهة.

من خلال تتبع مراحل الثورة، يبدو للملاحظ أن السوريين، بالإضافة إلى فقدان أبنائهم، قد حُرموا من ضمن عشرات تلك الحقوق المهدورة من «الحقّ بالحداد»، إن جاز التعبير. في بدايات الثورة كانت أغلب المناطق المشتعلة خاضعة بشكل أو بآخر إلى الاجتياحات الوحشية من قوات الأمن والشبيحة التابعة للنظام، بحيث لم يجد عديد المفجوعين من الأهل فرصة مستحقّة للحداد على أبنائهم. في مناطق عديدة في العاصمة مثلاً، تم اقتحام خيم العزاء وتخريبها بوحشية متصاحبة مع كم كبير من الإهانات والسباب الجنسي الفاضح أشهر هذه الحوادث اقتحام خيمة عزاء الشهيد غياث مطر: https://www.youtube.com/watch?v=_CQkqKYFoFc. قبل ذلك، وصلت الأمور بقوى الأمن والشبيحة إلى درجات غرائبية، حيث لوحق عديد المشيعين على أعتاب المقابر وأُطلق عليهم الرصاص وقُتل الكثير منهم (في برزة والقابون والمزة في دمشق، وتلّ النصر وجبّ الجندلي في حمص مثلاً). وحتى عندما تم تحرير بعض المناطق الثائرة من سطوة النظام، على الأرض على الأقل، كانت أجواء القصف العشوائي والمركّز بأنواع الأسلحة المختلفة تجعل تقاليد العزاء تبدو ضرباً من العبث إن لم تبدُ محاولات انتحارية تفتح الموت على مجالات أوسع (في بعض الأحيان تم قصف خيم العزاء براجمات الصواريخ والهاون، في دوما مثلاً). في أجواء كهذه لا تبقى «مجالس الحداد» إلا متروكة على أعتاب الوعي، تجالس أفكار الحنين في عقول الآباء المفجوعين بالخسارة المديدة.

الإحساس بالذنب!

«تركت ولدين مصابين، ما قدرت اشحطهم. ما بعرف هلأ شو صار فيهم. تركتهم عم ينزفوا وطلعت بولد واحد، وأنا مُصابة بقدمي… قصفونا بكل أنواع الأسلحة… كل شي بيخطر ببالك…» أم خالد، في تقرير لقناة العربية عن لاجئين سوريين بعد اقتحام قرية الحصن غرب حمص بتاريخ 20 آذار 2014. الرابط غير موجود..

لأسباب تطوّرية/نشوئية عميقة، تتلبّس الآباء والأمهات قناعة حاسمة تقوم على أن الحفاظ على أبنائهم وحمايتهم من الأخطار هو أحد أهم أسباب وجودهم، إن لم يكن الأهم. لا تنبع هذه «الغريزة» الوجودية من خرائط وراثية سحيقة القدم في تاريخ البشرية فحسب، ولكن تتعزّز وتتحور في سياق نفسي واجتماعي أساسي تفرضه وقائع الرعاية والتنشئة، منذ سنوات الطفولة المبكرة مروراً بأزمنة اليفوع والرشد أيضاً. ورغم بعض السياقات المغايرة لذلك فيما تخبرنا إياه بعض الأساطير والمرويات (لعل أسطورة أوديب أشهرها)، إلا أن السياق العام يراهن على أنّه، عند اللحظات الحاسمة، لا محيض عن أم القواعد: البقاء للأبناء! إن حدثاً كبيراً كموت الأبناء يقوم على إحداث شرخ بنيوي عميق في ذوات الآباء، يؤجج صراعاً داخلياً كبير الأثر، وشيئاً من ظاهرة التنافر المعرفي، الذي يؤسس لإحساس طاغٍ وملحاح هو «الشعور بالذنب». «كيف حدث أن يموت ابني ولا أفعل شيئاً؟ كيف لي أن مات ابني ولم أستطع الدفاع عنه وحمايته؟ كان علي أن أقوم بشيء ما لمنح حدوث الطامّة!». صحيح بأن هذا الإحساس العميق المؤلم يدوم لفترة تكون في أوجها بعيد الوفاة زميناً، ويبدأ بالتراجع رويداً بحكم عوامل عديدة (العامل الديني والدعم الاجتماعي العام أهمّها)، الا أن وقعه لا يبرح الذاكرة ولا يفارق الوعي عند الآباء المفجوعين. الإحساس بالذنب ينهل أيضا من نبع آخر: أنا على قيد الحياة فيما ابني تحت التراب! هذه الفكرة المهيمنة قد تؤسس لإحباط شديد يحتاج زمناً طويلاً حتى يتلاشى، إن لم يؤسّس لما هو أشد: الموت البطيء!

تسمّر الزّمن!

قد يصدق القول بأن الآباء، كل الآباء، لا يكبرون إلا عندما يعايشون أبنائهم يكبرون أمام أعينهم أيضاً. يعتبر النمو وتطوّر الأبناء مناسبات لمراقبة امتداد «الأنا» وحلولها في الأبناء وهي تعبر بكل ثبات وقسوة من حرج إلى آخر ومن ملكة إلى أخرى. تطوّر الأبناء وتجسيد امتلاكهم للمهارات الإنسانية، معرفياً، عاطفياً، لغوياً وحركياً، محطّات يقف عندها الآباء والأمهات بمتعة لا تضاهيها متعة، وتبقى لحظاتها الحاسمة محفورة في الذكريات الشخصية والعائلية. إن مراحل النمو البشري بكل ما تمثّله من معاناة «تربوية» كبيرة تجعل الزمن ينساب بلا ضوابط، إلا أنها تجعله أيضاً عرضة للتحكّم والإحساس بالقدرة على امتلاك المعنى، المرتبط بالأيام والشهور والسنين. إن فقدان الأبناء يقوم على فتح شقوق عميقة في القدرة على إدراك الزمن إدراك الزمن (Time Perception) مفهوم نفسي حديث، يشير إلى القدرة على تمييز الأبعاد الزمنية من حيث التوجه في الحاضر وعلاقتها بالخبرات الشخصية في الماضي وربطها بالمآلات المستقبلية في إطار الوحدة العامة للفرد.، وفي الإيقاع الحياتي القائم على الوقت. لا يخلخل الإحساس بالزّمن والقدرة على إدراكه بجاذبية كبيرة إلا فقدان الأبناء، حيث يتسمّر الزّمن ويصبح أحاديّ التوجّه، يقف عند أعتاب الماضي فحسب، جاعلاً الحاضر والمستقبل «جَروين» مسالمين يتبعانه كالظل. إنه فقدان الابن أو الابنة، لحظة مفصلية في التاريخ الشخصي للآباء، يحدث فيها عملية «تثبيت» كاملة عند الفراق! تصبح الذاكرة الشخصية والعائلية عرضة للتشويش، وقد تمضي الأمور على مقدار من السوء بحيث يحدث اضطراب ما في التوجه الزماني وربما المكاني التوجه المكاني والزماني (Place and Time Orientation)، يشير إلى القدرة الواعية الشعورية على تحديد بعض الأبعاد الشخصية ضمن نطاق زماني ومكاني، يرتبط على الأغلب بالخبرات الشخصية ومحتويات الذاكرة. من المهم الإشارة الى أن اضطراب التوجه المكاني والزماني هو أحد أهم اعراض تدهور القدرات المعرفية عند مرضى الزهايمر، ويصيب أيضاً بعض الاضطرابات النفسية التالية لسوء استخدام بعض المواد المخدرة.، وتكون الحياة اليومية مسرحها وميدانها. كثيرا ما تؤيد الخبرة العيادية والعملية مع من فقدوا أبناءهم صدق مقولة «إذا كان الموت يطوي صفحة مع الماضي والحاضر بشكل أو بآخر، فإن موت الأبناء يطوي صفحة مع المستقبل، مرة واحدة وإلى الأبد!».

على الجانب الآخر: موت وماعز!

في الشهور الستة الأولى من عمر الثورة، كان النظام قادراً على القتل باطمئنان واثق على رجاله القتلة، سواءً في الجيش أو في وحدات الأمن والمخابرات، أو حتى في تلك الوحدات التي كانت أقرب للمليشيات من الشبيحة المتنقلة. مع بدايات التسليح في المناطق الثائرة، تغيّرت الأوضاع، وأصبح للنظام ووحداته القاتلة نصيباً معيّناً من القتل. وإن لم يكن هذا النصيب مكافئاً لذلك المشتهى على الطرف الآخر، إلا أن هناك مؤشرات كثيرة تدل على تزايد عدد القتلى من قوات الأسد، فيما تتحدّث تقارير اخرى عن أن السنة الثالثة من عمر الثورة قد أودت إلى «نزيف» حقيقي وكبير، بدأت تعانيه البيئة الاجتماعية للنظام بلونها الطائفي إياه بعض الأحاديث الشخصية والتقارير من مناطق الأغلبية العلوية تشير إلى عدم وجود بيت ليس فيه فقيد أو قتيل. ليس هناك أرقام دقيقة حول قتلى النظام، سواء من ذوي العلويين أو من غيرهم. رابط ما نُسب الى أحد المنشقين عن النظام: http://bit.ly/1fPNn64. بحسب ’المرصد السوري لحقوق الإنسان‘، وهو جهة إشكالية، ثمة عدد كبير من قتلى النظام العلويين بلغ 35 ألف حالة موثّقة. رابط المرصد: http://www.syriahr.com. انظر تقرير الشرق الأوسط من تاريخ 20 أيار 2013: http://bit.ly/1myE60v.، فيما يبدو أن القتل طاول أعداداً غفيرة من الشبان من قوات النظام، التي لا ترتبط بالضرورة ببيئاته الإجتماعية الأكثر ولاءً تلك. كان النظام من اليوم الأول يحرص على تشييع قتلاه بأكبر قدر ممكن من حضور «الدولة» ورموزها. بعض القتلى كان لهم حظ التشييع كالقادة الأبطال في مراسم عسكرية مهيبة، فيما لم تكن «بروتوكولات» تزيين التوابيت بالأعلام الرسمية، إن لم يكن بالإعلام والعدسات والتغطية الصحفية، بعيدة عن المشهد المُبهر. التشييع والحداد والدفن في المقابر العائلية والرسمية كانت فقط مَكرُمات يحظى بها أهل قتلى النظام فقط، فيما يقوم وكلائه المحليون بإغداق بعض العطايا على بعض الأهالي المفجوعين بما تجود به الحال كنوع من التعويض، أو كنوع من إبراز الإهتمام الرسمي بقتلى الجيش على وجه التحديد. وكادت قصة «ماعز الشهداء» الشهيرة جاء الخبر على صفحة أخبار السويداء المؤيدة للنظام بتاريخ 20\11\2013 على الشكل التالي، مرفقاً بالصور: «ضمن خطة توزيع رؤوس الماعز الشامي والجبلي، قامت الجهات المعنية في ’عرى‘ بتوزيع 80 رأساً من الماعز تكريماً لأسر الشهداء والمفقودين. وعن توزيع الرؤوس أوضح المهندس علي هوارين رئيس محطة بحوث ’عرى‘ للماعز الجبلي في السويداء قائلاً: ضمن خطة التعاون بين وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي والهيئة العامة لشؤون الأسرة السورية، وبالاتفاق مع دائرة تمكين المرأة الريفية، قامت محطة بحوث ’عرى‘ للماعز الجبلي بتوزيع 80 رأساً على أسر الشهداء من أبناء محافظة السويداء، وذلك بقيمة مالية عن كل رأس شامي 40 ألف ليرة سورية، والجبلي بقيمة 20 ألف ليرة سورية. من جهته صرح المهندس أحمد القادري، وزير الزراعة والإصلاح الزراعي، بالقول: قمنا اليوم بزيارة السويداء بهدف الاطلاع على الواقع الزراعي وتقديم عدد من رؤوس الماعز إلى أسر الشهداء، الذين هم «أكرم من في الدنيا»، يقيناً منا بأننا مهما قدمنا إلى الشهداء وأسرهم نبقى عاجزين أمام ما قدموه هم من تضحيات لحماية تراب الوطن والأرض السورية». المصدر: http://on.fb.me/1huBH3i أن تحدث فضيحة «فظّة»، لو لم تتم لفلفتها بشيء من تلك الركاكة والفجور التي لا تفارق اجهزة النظام المختصّة. في هذه الحقبة من عمر الأحداث، يُعتقد الآن، وبكثير من الوثوقية، بأن الآلاف من الآباء والأمهات على الطرف المقابل فقدوا أيضاً أبناءهم في حرب النظام العدمية، فيما لم يبقَ لهم سوى صور صامتة مؤطّرة للذاهبين بلا رجعة، تظهر على خلفيتها صور الأسد وعلم الوطن بتناغم فجّ، مع وشيء «من فكر القائد» بأنّ «الشهداء اكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر»!

موت طويل وحياة قصيرة!

فقدان الأبناء يعكس «آيات الوجود» بالمعنى المباشر، ويؤدي إلى تداعيات نفسية وجسدية خطيرة تترك آثارها بادية في طبقات النفس ووظائف الجسد عند الآباء والأمهات بدرجات متفاوتة. ففقدان الأبناء يعمل على تفعيل جملة من الأعراض الاكتئابية الحادّة، والتي لا تلبث أن تستقر بعد فترة من الزّمن على شكل نفحات باقية من السّوداوية والحداد الممزوج باليأس والقنوط. لو استثنينا مفعّلات اضطراب الشدة النفسية ما بعد الصدمة اضطراب الشدة النفسية التالية للصدمة (Post Traumatic Stress Disorder/PTSD) هو أحد الاضطرابات النفسية الوجدانية التي تصيب الفرد جراء التعرض لحادث على قدر كبير من التهديد للحياة، أو فقدان شيء ذي قيمة وجدانية كبيرة للفرد (مثل معايشة الحروب والاعتقال والانفجارات والكوارث الطبيعية واللجوء وفقدان الأبناء أو أحد المقربين من أفراد العائلة) ويتمثل بأعراض أساسية أبرزها اقتحامات مؤلمة وعنيفة لصور وذكريات وجوانب من الصدمة في الحياة اليومية، وسلوكيات واضحة من التجنب لكل ما يمتّ بصلة إلى الموقف الصادم من أشخاص وأماكن وذكريات، ومستوى كبير من الإثارة العصبية وفقدان التركيز والشعور بالتوتر الدائم.، فيما لو قدّر للآباء أو الأمهات رؤية أبنائهم مقطّعي الأوصال، بادية عليهم آثار التعذيب، أو حتى راقدين للموت بسلام تام (ضحايا ضربة الكيماوي مثلاً)، لأمكننا القول بيقين كبير إن الحادث الفاجع بحد ذاته هو بحق أشدّ عوامل الإنذار بالاكتئاب الشديد، الذي غالباً ما يفضي إلى موت بطيء بعد معاناة كبيرة مع جملة من الأمراض المصاحبة. ولأن النوائب لا تأتي فرادى، هناك عدد من الأمراض الجسدية يعتقد بأنها نفسية المنشأ الاضطرابات نفسية المنشأ أو الجسدية النفسية (Psychosomatic Disorders) هي اضطرابات عضوية تثبّتها المعاينة التشخيصية الطبية، ويُعتقد بأنها ذات أسباب نفسية المنشأ وتتواتر بعد مرور أو معايشة بعض الأزمات النفسية الحادة، وتشمل طيفاً من الأمراض القلبية والعصبية والصدرية والتناسلية والطمثية والجلدية. يجب تمييز هذه الاضطرابات عن تلك الطائفة من الأمراض النفسية الجسدانية الشكل (Somatoform Disorders)، والتي يشاهد فيها شكايات جسدية متكررة مع عدم وجود تشخيص طبي يدعمها، تترافق مع رفض واضح من المرضى للأسس والصراعات النفسية التي يحتمل أن تكون المسبب الرئيس لها. تكون حاضرة دوماً للنفاذ إلى البنية الصحّية العامة للآباء والأمهات المفجوعين. فالأمراض المتنقلة من شكايات جسدية تطال المعدة، القولون، الظهر، الصدر والآلام الجلدية والعصبية المبرحة في الأطراف، إضافة إلى اضطرابات وظائف القلب، التي قد تتضافر مع وجود إمراضيات أخرى سابقة (مثل اضطرابات ضغط الدم وأمراض السكر)، هذه الأمراض تُعدّ من أكثر الحالات المشاهَدة لدى طائفة كبيرة من الأشخاص ممن فقدوا أحبّة لهم في ظروف مرعبة. إن هذا الالتقاط «السهل» نسبياً للأمراض ما هو إلا انعكاس أساسي للخلل الكبير الذي يصيب الجهاز المناعي العام للجسم. قد تتدهور وظائف الذاكرة اليومية ووظائف الانتباه والتوجّه المكاني والزّماني إلى درجة كبيرة تعيق الحياة اليومية، فيما يكون الانعزال الإجتماعي والابتعاد عن الناس والانغماس في العوالم الداخلية الموحشة أحد أكثر السبل المتاحة من أجل حفظ ما تبقى من القوى النفسية الآخذة بالذوبان. ورغم أن الدراسات في هذا المجال مازالت قيد التقصّي رابط المقال وملخّص عن الدراسة موجود على الرابط التالي للمجلة التي نُشر فيها البحث (BMJ Support Palliat Care 2/1/2012, 7): http://spcare.bmj.com/content/1/3/306.abstract?sid=df280328-cec3-4f13-97b2-cef391a51482، إلا أنّ هناك ما يشير إلى أنّ فقدان الأبناء يشكّل عامل خطورة كبير في «الموت المبكّر». فحتى الآن هناك مؤشرات على أن الآباء/الأمهات الذين يفقدون أبناءهم يعيشون حياة أقصر من نظرائهم ممن لم يلسعهم قدر وجودي كهذا. إذ إنّ أسباب الموت غالباً ما تؤدي إلى أسباب أخرى للموت، فالحياة تصبح خفيفة لا قيمة لها. يبدو الموت في ظلال الحداد الأزلي وكأنه حدث «مبرمج» في عالم لما يعُد بذلك السطوع الذي يشكّله وجود الأبناء في أعين آبائهم.

وماذا بعد!

في سوريا الوليدة من إرث الطاغية وحرب الإبادة، سوف يتحتّم علينا جميعاً مجابهة كمّ هائل من الأسئلة، من المشكلات والمعضلات التي لن يكون «السياسي» أبرزها، خاصةً في مجتمع سيخرج متشققاً تلفّه ندوب الصدمة والذهول من كل صوب. قد لا تكون ظاهرة «آباء بلا أبناء» أولها، وليس من المحتمل أن تكون آخرها. المجتمع السوري بشكله الأعمّ، ومجتمع الثورة بشكله الأخصّ، قد يتعين عليه تطوير أساليب واستراتيجيات للمواجهة مع أزمات ومصائر فردية، عائلية وجمعية، يكون للوطني ببُعده العام قيمة أقلّ، في مقابل «الإنساني» الأشمل والأعمّ والأرفع، والذي ينظر إلى الحيوات الفردية كقيمة مهدورة لذاتها، لا لشيء متعالٍ عنها أياً يكن. ليس هناك من وصفات جاهزة سوى قدرة مجتمع الـ«ما بعد»، بكل ما يملك من مصادر، دينية وتراثية، اجتماعية وطبية وثقافية، على تحويل المآسي إلى «محتويات» داعمة للذاكرة الجمعية وللحياة اليومية في بعدها الأكثر جدارة «الآن وهنا»، من أجل العيش في أزمنة يكون فيها عدل أكبر وظلم أقل وحياة إنسانية لا يضطر فيها الآباء إلى توديع أبنائهم بالمرارة التي خلّفتها وأرست دعائمها «سوريا الأسد». ونشعر بأن هذا قادم لا محالة!

والسلام عليكم.