تقترح هذه المقالة محاولة لفهم منظمة القاعدة، والتيار السلفي الجهادي عموماً، عبر ربطهما بكل من الإسلام كإمبراطورية من جهة، وبالعجز عن الحرب كعاهة للدولة المعاصرة في بلداننا من جهة أخرى، أعني من حيث أن هذه الدولة غير قادرة على الحرب ضد أي أعداء خارجيين منذ عقود. إنها دول ناقصة، غير مكتملة السيادة.

القاعدة ولدت في هذه العقود.

نقترح أيضاً أن القاعدة وليدة انسداد أفق عام، اجتماعي وأخلاقي وروحي وجمالي، في مجتمعاتنا المعاصرة، بما يبقي عتاد الماضي وحده متأهباً لملء فراغ الحاضر.

شبح الإمبراطورية

تشكل كل ما نعرفه من الإسلام وعنه في أزمنة إمبراطورية، بخاصة الزمن العباسي، الذي دُوِّن فيه «الحديث»، وظهر الفقه وعلم الكلام، وكُتبت السير، وجرى التأليف في التاريخ، وتقعّدت اللغة العربية. هناك أشياء كتبت في وقت أبكر، لكن أيضاً في إطار إمبراطوري، الأموي. كان عالم المسلمين والإسلام قد تشكل في عقود قليلة في صورة إمبراطورية مترامية الأطراف، تستمدّ مبدأها من «الإسلام» وتؤسّس سلطانها عليه. تخدمه وتستخدمه في آن. يرجح للنص القرآني وحده أن يكون سابقاً للإمبراطورية. لكنه بدوره مقروء ومفسَّر من خلال أطرها الاجتماعية السياسية، وعبر موشورات مواردها الثقافية.

خيال هذه الإمبراطورية مسكون بالفتح والسيطرة العالمية والتوسع والسيادة. السلطان. تشكلت أصلاً عبر الفتح والتوسع والإخضاع، على نحو ما تشكلت جميع الإمبراطوريات في التاريخ. ولعل من المناسب القول هنا إنه إذا كانت «الفتوحات الإسلامية» مفهومة كتأسيس لإمبراطورية، فإنها لا تحوز شرعية أخلاقية أو إنسانية تفوق شرعية أية فتوحات وإمبراطوريات سابقة أو لاحقة. ما لا يمكن أن يكون مفهوماً هو أن لا تُساءل هذه الفتوحات عن شرعيتها، أو ألا يوجد تيار يتشكك في أخلاقيتها من جهة، وألا يجري التمييز بين إمبراطورية الإسلام وبين دين الإسلام من جهة ثانية. لا يستمد هذا التمييز ضرورته من اعتبارات تحليلية صِرف، وإنما من كونه تأسيساً للفصل الواجب بين الدين والدولة.

الإسلام «دولة» منذ وقت باكر. القول إن الإسلام دين ودولة صحيح تاريخياً. يمكن المجادلة في شأن ما إذا كانت العلاقة بين الدين والدولة ضرورية مفهومياً في دين الإسلام. لكنها بالتأكيد ضرورية في الإسلام على نحوِ ما تشكل في ظل الإمبراطورية، وورثنا شكله هذا. هذا لا يجعل الفصل بين الدين والدولة ممتنعاً في كل حال، لكن تحقّقه، إن تحقّق، هو حدث تغييري كبير، يُحدث شيئاً لم يكن موجوداً، وهو بمثابة إعادة تشكل أو إعادة هيكلة إسلامية واسعة، نُسمّيها أو لا نسميها «الإصلاح الديني». لكنها حتماً تفصل الإسلام عن الإمبراطورية، ووهم السيادة العالمية المقترن بها.

الدولة الحديثة التي عرفناها في عالمنا لم تتولد عن قفزة ثقافية أو عن تشكل عالم ثقافي جديد، ولا هي شكلت لنفسها ثقافة حديثة مناسبة تضفي عليها الشرعية والقبول العام.

والمشروع الفكري السياسي الجدي الوحيد الذي عرفه العرب المعاصرون، الحركة القومية العربية، هو في الواقع بمثابة استملاك علماني للإسلام الذي صار يُنظر إليه كـ«تراث عربي». ولا تبعد فكرة «الأمة العربية الواحدة»، الممتدة «من المحيط إلى الخليج»، وذات «الرسالة الخالدة»، عن أن تكون انبعاثاً معاصراً للإمبراطورية على أساس مقتبَس من عصر القوميات الأوربية، أساس الجنس أو العرق. واسم «حزب البعث» دالّ جداً. يريد الحزب بعث أمجاد العرب، الأمجاد الحربية والحضارية. الإمبراطورية.

كانت كلمة المجد شائعة جداً في خمسينات القرن العشرين وستيناته، وهي مرتبطة لدينا، وفي كل مكان، بالسلطة والسيادة وبُعد الصيت المتحصل منهما. وأهم المجد هو المجد الحربي. وفّرت الحداثة الغربية أشكالاً أخرى للمجد. وجرت علمنة المجد وتبذيله أيضاً على شكل شهرة. أما حداثتنا الركيكة فلم تكد توفّر غير مجد زائف لشخص واحد: الطاغية الحاكم، وحتى الشهرة ارتبطت بقدرٍ طيّب بالقرب منه.

من جهتهم، يفضل مجاهدو القاعدة الكلام على العزّة، عزّة الإسلام.

لكن يقارب بين «العزة» و«المجد» المرجع الحربي الضيق.

الحرب الممتنعة

والشيء المهم الكبير الذي حاولَت الدول القائمة على القومية العربية القيام به هو استملاك الحرب في الخارج، أو استملاك القدرة عليها. سورية ومصر والعراق قامت بحروب خارجية ضد أعداء أقوياء… كان أداؤها متواضعاً أو سيئاً، لكنها حاولت التصرف كدول سيّدة. ومعروف على كل حال أن حروبها تلك كانت آخر حروبنا. لنلاحظ أن إسرائيل وتركيا وإيران هي دول قادرة على الحرب، وخاضت بالفعل حروباً، وهدّدت بحروب تهديداً فعالاً. قياساً إليها، وليس قياساً إلى دول الغرب المركزية، دولنا ناقصة.

واليوم، دولنا هذه ليست دولاً وطنية سيدة، ولا هي دول اجتماعية ما بعد وطنية، إنها كاريكاتير لدولة برأس صغير مسكون بأحلام إمبراطورية، على نحو تجسّده الكيانات وخيمة العاقبة، العراق وسوريا البعثيَّين، ليبيا القذافية، وحتى مصر الناصرية وما بعد الناصرية.

مع انتهاء حروب القومية العربية بهزيمتها المُطبِقة، وهي كما قلنا شكل معلمن للإسلام، أخذت تظهر أشكال التفكير ما قبل القومية (وإن في صيغة أيديولوجيات معاصرة وبرسم وظائف اجتماعية وسياسية جديدة) وأشكال التنظيم المحارب ما دون الدولة: حماس، حزب الله… لكن خصوصاً القاعدة.

القاعدة هي شبح الإمبراطورية. الذكرى الهائمة لسيادة الإسلام العالمية، إنها منظمة شبحية، منتشرة في العالم، لا تعترف بالدول والحدود، وهي إن لم تكن حرباً صافية، فإن الحرب هي المقوّم الأساس لهويتها. الجهاد ليس شيئاً تقوم به القاعدة، بل هو شيء تَكونُه، هو هي. القاعدة ليست إسلاماً يحارب، بل هي حرب الإسلام. ليس أن في الإسلام جهاداً، بل إن ما نستخلصه من نهج تشكيلات القاعدة هو أن في الجهاد إسلاماً، أو أن الجهاد هو الشكل الأسمى للإسلام، «ذروة سنامه» على ما يُنسب إلى النبي القول.

تسمى هذا الحرب «إرهاباً». لا مشاحّة في الاصطلاح، على ما كان يقول الفقهاء القدامى. لكن هذه «الحرب» هي البديل غير الشرعي عن استحالة حروب الدول الشاغلة موقع الشرعية. هذه الدول ناقصة لأنها عاجزة عن الحرب، غير شرعية لأنها غير قادرة على القيام بالحرب التي هي مقوّم ذاتي لسيادة الدولة. وتالياً فإن الإرهاب هو حرب السوق السوداء أو الحرب المهرّبة عبر حدود الدول في ظل عجز هذه الدول عن توفير هذه السلعة الضرورية بصور شرعية.

انفلت الشبح الإمبراطوري بفعل أفول آخر مشروع إمبراطوري عربي، القومية العربية. وكما الإرهاب حرب بديلة، فإن القاعدة مشروع إمبراطوري بديل. ليس على مستوى الحرب وحدها، بل وعلى مستوى تطلّعات السيطرة العالمية وفتح العالم عبر الحرب. ونتكلم على مشروع إمبراطوري لأن القاعدة ووجدان المجاهدين الإسلاميين الجّوالين مسكون بنزعة توسّعية لا جدال فيها، تظهر عيانياً اليوم في الساحة السورية. «داعش» التي تجسّد هذا التطلع قوة سيطرة توسّعية، لا تقف غير حدود قوتها أمام تطلعاتها للسيطرة الكلية وسحق كل من لا يرضخ لها.

وهي توسّعية وإمبريالية بمعنى آخر: إنها لا تعترف بأي تفاهم أو معاهدة ما إن تأنس في نفسها القوة على التحلّل منهما. «داعش» قوة ماكيافلية بالمعنى الشائع للتعبير، لا تأنف عن وسيلة لتحقيق غايتها في السيطرة الكلية. ولعل الأصل في ذلك تعالي الغاية ولانهائيتها، بحيث تصير الوسائل كلها متساوية أمامها وفي خدمتها، على نحو مألوف في تاريخ الحركات العقدية المتشددة في كل مكان. ومن هذا الاعتبار فإن التشكيلات الجهادية الأخرى، وهي شريكة في تعالي الغاية وقداستها، شقائق لداعش في الماكيافلية، وإن مع تباين في الأسلوب.

ثم إن القاعدة قوة إمبريالية بمعنى ثالث: التوسّع في استعمار الأجساد، أجساد الأفراد وجسم المجتمع، وفرض قوالب وقيود صارمة على الجميع، وتعليب الأجسام والعلاقات بين الناس وفقاً لقواعد بالغة الاصطناع ويمتنع الانضباط بها بغير عنف لا يُحدّ. من ذلك تحريم الموسيقا وفرض النقاب ومنع التدخين وإجبار الناس على إغلاق المحلات في مواعد الصلاة، في ولاية الرقة تحت إمرة داعش في الشهر الأول من هذا العام. نحن هنا حيال شكل متطرف من الهندسة الاجتماعية اقترنت نظائره في كل مكان بطغيان غير محدود.

القاعدة تجسد شبح إمبريالية الإسلام التي لم تَجرِ تصفية الحساب معها في أي وقت، بل لطالما جرى تمثّلها وتعظيمها كمثال رفيع لا يُطال. «فتحنا العالم» عبارة يمكن أن يقولها بتعظيم مناضل قومي عربي أو مجاهد إسلامي، كأنما فتح العالم شيء طيّب بذاته. هذا بالمناسبة ما يحكم على اعتراضنا على الإمبريالية الحديثة بأن يبقى متهافتاً. لم نطوّر منظورات فكرية وأخلاقية تحرّرية لنقد الإمبرالية ومقاومتها.

ولعل في هذا فارقاً مهماً بين التفكير السياسي السنّي ونظيره الشيعي. هذا الأخير لا يستند إلى ميراث إمبراطوري ديني، وليس في سجلّ تجاربه المؤسِّسة «مجد» حربي أو سياسي يستعيده. وهو يتماهى بيسر أكبر مع «المستضعفين»، وينفتح على الصراع ضد القوى المسيطرة. التفكير السياسي السنيّ مُبطّن بالإمبراطورية ونوازع السيطرة وروح العتوّ، وإن يكن حمل من الإمبراطورية ذاتها، في الوقت نفسه، نوازع تنوّع وانفتاح وكثرة، مقابل نوازع انغلاق وتقيّة وسِرّانية شيعية.

وكالة العدم

بما هي شبح كائن بائد، القاعدة عموماً مؤشّر على افتقار أو امتناع، على عدم، وليست بديلاً حياً. هذا صحيح على مستوى السيادة والحرب: الإرهاب ليس حرباً، بل مؤشر على امتناع الحرب. الحرب اليوم صناعة واقتصاد وتنظيم، وحربنا المُهرِّبة لا تصنع شيئاً ولا تُنتج شيئاً. تتطفّل وتستهلك وتدمّر فقط. محاربة «أعداء الأمة» دون إنتاج مادي، وبسلاح يصنعه أعداء الأمة المفترضون، لا يمكن أن يتجاوز إيذاءً عارضاً من نوع ما مثّلته هجمات 11 أيلول الإرهابية، التي تصلح بياناً للطابع الطفيلي الجذري للقاعدة والإسلام الجهاي عموماً. الأميركيون كبّروا قصة 11 أيلول لأنهم كبار في عين أنفسهم، ولكنها في الواقع أذىً عارض.

هذا صحيح على المستوى الرمزي أيضاً: بأزيائها وأناشيدها ولغتها، لا تشكل القاعدة، والإسلام العسكري، والإسلام السياسي عموماً، عالماً بديلاً من الرموز، بل هي مؤشر على استحالة تشكّل نظام رمزي جامع، يوحّد ما يتجاوز عصبة ضيقة تولّدت في شروط اجتماعية تاريخية مرَضيّة. وما نجده على مستوى اللغة والزيّ والقيافة وترميزات الفضاء العام عقيمٌ بقدر ما هو منفصل عن تجارب وحساسية جديدة، عن منبع حيّ للرموز. شبح الإمبراطورية الآفلة منذ نحو 1000 عام لا يغذّي الخيال برموز جديدة ومتجدّدة، لا ينتج فناً وجمالاً وإحساساً جديداً. وعلى كل حال، القوم يعملون على فرض رموزهم بالقوة، حين يفرضون النقاب على النساء واللحية على الرجال ويغلقون محلات الحلاقة الرجالية. لو كان في هذه الرموز أدنى حدّ من الطاقة الهيمنية لما اقتضى الأمر فرضها بالإرهاب.

ولا شيء أدلّ على الفشل الرمزي أكثر من «أجنبية» العربية الفصحى التي يستعيدها المجاهد الجوّال في مخاطبة مستعمَريه الحائرين المرتبكين في مناطق من الشمال السوري، ولطالما ظنوا أنفسهم عرباً ومسلمين مثل هؤلاء الغرباء. هذه اللغة المعزولة عن التاريخ الفكري والثقافي لعالم الإسلام ذاته هي بمثابة تصْفية للتجربة الحية، وليست أداة للتعبير عنها. إنها أداة موت مساعدة.

وينطبق شرط العدم على المستوى القَيَمي كذلك. عبر إسلام تشريعي أوامري صارم، القاعدة ليست أخلاقية بديلة، بل هي مؤشّر على انعدام نظام حيّ للالتزامات بين الناس. وليس هناك محتوى أخلاقي إنساني يمكن نسبته لنهج وسياسة وتفكير الإسلاميين عموماً، الأكثر تشدداً منهم بخاصّة. هناك أوامر مطلقة واجبة التنفيذ، يفترض أنه تنصّ عليها «الشريعة»، ولا يتبيّن المرء وجهاً لعدالتها أو توافقها مع كرامة الإنسان أو حيازتها لمضمون إنساني عام.

وهنا في الواقع نلتقي شرط الإمكان الثالث للقاعدة، غير الإمبراطورية وثقافتها، وغير النقص السيادي لدولنا. هذا الشرط الثالث هو الافتقار الشديد إلى تفكير جديد وتجارب جديدة على مستوى التنظيم والاجتماع والقيم والثقافة والاعتقاد. هزيمة القومية العربية فتحت باباً واسعاً لامتلاء الفراغ بأشكال ماضية من التفكير والتنظيم والتخيّل لأنه لم يكن هناك جديد يملأه. أظهرنا على العموم فقراً إبداعياً لافتاً في مجال صنع الحياة والاجتماع والمعنى. في ثقافتنا المعاصرة، لكلمة إبداع مدلول ضيّق يحيل إلى الأدب والفن، إلى الثقافة بالمعنى الضيق، وليس إلى تجديد تجارب الحياة وصيغ التنظيم والعمل والإحساس والاعتقاد الجديدة.

بفعل فراغ الحاضر، يدخل الماضي الذي لم ننظّمه وننفصل عنه، والذي لم نُصفِّ حسابنا معه. وتحديداً الشبح الإمبراطوري الذي بقي حياً في اللغة والفقه والتعليم والأيديولوجيا السياسية.

القاعدة «مكتوبة» في هذا الانفتاح النكوصي.

تجربة العالم

لا تقول هذه المقاربة الأولية شيئاً عن «أسباب» ظهور القاعدة وشروط حياتها وانتشارها وآليات عملها. تتكلم على شروط الإمكان الثقافية والسياسية الأطول أمداً لهذه الظاهرة.

فإذا كانت القاعدة من ممكناتنا التاريخية دوماً، فإن شروط التحطّم الاجتماعي واضطراب النفوس واللاثقة الجذرية بالعالم تنقلها من حيز الممكن إلى حيز المحقّق.

لكن العمل الأساسي يتمثل في كيفية جعلها غير ممكنة. ينبغي أوّلاً أن نُضطر إلى الإبداع.

يبدو اليوم أن الإسلام هو «عبء الرجل العربي»، العبء الذي يصعب أن يتحرّر منه العرب قبل غيرهم دون إعادة هيكلة واسعة باتجاه فصله عن أخيلة الإمبراطورية: القومية العربية، والفصحى الأجنبية، و«الإسلام السياسي»، وتناسخاتها الشبحية اليوم، من أمثال القاعدة. لقد رفع الإسلام من شأن العرب تاريخياً، وفي الوقت نفسه سحقهم تحت ثقله الهائل. النهوض في المجال العربي يعني ويقتضي تعاملاً جديداً مع العبء الإسلامي، ولا يكاد يعني شيئاً غير ذلك.

وهو ما يمرّ أيضاً عبر نقد جذري، فكري وعملي، للإسلام الإمبراطوري وللإمبراطورية في مخيّلتنا وتديّننا ولغتنا وتفكيرنا. هذا عمل لم يُنجز منه شيء إلى اليوم بحدود ما نعلم.

ويتصل بهذا العمل تجديد الحساسية والحياة والمخيلة، والسياسة، بما يمكن أن يشكل «مشروعاً» جديداً جاذباً، يشكل بؤرة لاتحاد الجهود من أجل حياة جديدة وعالم جديد.

وعلى المستوى المباشر، نفترض أن إلغاء أشباه القاعدة من ممكناتنا التاريخية يمرّ عبر استكمال سيادة الدولة في بلداننا (أو تجاوز مبدأ الدولة السيدة ذاته عالمياً). وبقدر ما إن سيادة الدولة علمنة لمفهوم الله السيّد (حسب كارل شمت)، وبقدر ما إن عجز دولنا عن استكمال سيادتها يفتح الباب لعودة السيد الإلهي (نظرية الحاكمية الإلهية، التي هي لُبّ فكر القاعدة، والشكل القياسي للفكر السياسي الإسلامي)، فإن تجاوز الإمبراطورية وخيالها ينفتح أيضاً على مراجعة سجلّاتها السابقة، بما في ذلك صورة الله ومفهومه في الفكر الإسلامي.

الانفصال عن الإسلام الإمبراطوري وأخيلته ليس مقدمة ضرورية لتحرر الفكر والمخيلة فقط، وإنما هو أيضاً مدخل للاتصال بالإسلام كإيمان حي ومنابع روحية.

بدلاً من هذيان فتح العالم، يلزم فتح عوالمنا الداخلية، عوالم الدين واللغة، والاجتماع والسياسة، والخيال، والضمير.

نحن لا نجرّب. ينبغي أن نجرّب كثيراً.