في المراحل التي سبقت سنة 2000، أو ربما التي تلتها حتى سنة 2006، كان يمكن أن يوصف حزب الله اللبناني بأنه فصيل مقاوِم. لا غرابة في ذلك. ولكن، أن يصبح حزب الله هو المقاومة، وأن تصبح المقاومة متجسدة بحزب الله وحده لا شريك له وعلى مدى الأزمنة، فهذا لعمري تضليل وقح وإهانة فظّة للمقاومة وللمقاومين عامّة، بمن فيهم من لا يزال مقاوماً تحت قيادة حزب الله نفسه.
فليس حزب الله من ابتكر المقاومة في لبنان. لقد وُجدت المقاومة الشعبية عفواً، ابتكرها الشعب وخاضها منذ وجد ذاك الاحتلال، كردّ شعبي على اعتداءاته المتكررة التي كانت تستهدف المناطق والقرى اللبنانية الحدودية المحاذية لفلسطين المحتلة، والتي طالما أرهقت مواطني تلك المناطق، وتمثّلت بإطلاق النار على القرى والحقول وعلى الرعاة والمزارعين والدخول إلى تلك القرى والقيام بعمليات القتل والخطف، ونسف البيوت… وصولاً إلى الاعتداءات المتكررة على الداخل اللبناني، بما في ذلك مطار بيروت، واغتيال قيادات فلسطينية في قلب بيروت، كل ذلك في غياب كامل للدولة اللبنانية ولجيشها ولوسائل الحماية والدفاع عن الموطنين وأرزاقهم واستقرارهم. استمرت المقاومة الشعبية بدون تنظيم حقيقي لعقود. أقام اليساريون والقوميون فصائل صغيرة للمقاومة الشعبية: الحرس الثوري، الحرس الشعبي… وحين قدِمت الثورة الفلسطينية إلى الجنوب حصل تفاعل وتنظيم مُوازٍ، والتحق الكثيرون بمنظمات الثورة الفلسطينية، وآخرون بالتنسيق والتعاون مع تلك المنظمات، وتمكنوا من تشكيل قوى مقاوِمة منظمة لعبت دوراً عسكرياً في مطلع السبعينات. إلى أن حدث الاجتياح الكبير للبنان من قبل العدو الصهيوني الذي واجهته قوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية بما تمتلك من مقدرات. لكنها لم تستطع ردّه، فحاصر الجيش الصهيوني بيروت ثم سيطر عليها. لكن تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية «جمول» أعاد تنظيم العمل المسلح للمقاومة الشعبية وفعّل دورها، وما أرغم الاحتلال على الانسحاب السريع من بيروت.
تمكن المقاومون المنتمون إلى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية خلال أقل من ثلاث سنوات، وتحت وطأة عملياتهم المركّزة على مواقع وطرق جيش الاحتلال، أن يُرغموه مجدداً على الانسحاب الكبير ربيع 1985 بلا أي شروط أو أيّة اتفاقيات، بل كان ذلك انتصاراً حاسماً للشعب اللبناني عبر مقاومته الوطنية، التي تواصلت لتحرير ما تبقى من أراضي محتلة ولمنع الاعتداءات المتواصلة على المناطق المحررة.
إذن، المقاومة المنظمة والفاعلة والوطنية وصاحبة مشروع تحرير وتحرّر كانت موجودة على الأرض، وكانت تحقق إنجازات وانتصارات، وكانت تعِد بالمزيد سواء في مواجهة الاحتلال أو في مواجهة أمراء الحرب الأهلية والقوى الرجعية المرتهنة للخارج الرجعي والإمبريالي.
فلماذا تم تأسيس حزب الله؟
واضح أن الهدف من ذلك ليس المقاومة، لا تأسيساً ولا دعماً ولا إسناداً! فما كان الهدف إذاً؟
ربما ندرك ذلك حين نعرف ما هو الإنجاز الأول لحزب الله.
لقد كانت أولى إنجازاته اغتيال عشرات المثقفين والأطباء والمهندسين والأساتذة والمحامين، وتحديداً اليساريين منهم، وعلى رأس القائمة طبعاً مهدي عامل وحسين مروّة وسهيل طويلة…
بكل تأكيد لم يكن هاجس الجهات التي عملت على تأسيس حزب الله لا دعم المقاومة ولا تطوير عملها، لأنه لو كان ذلك هو الهدف لما كانت مضطرة إلى تأسيس هذا الحزب، بل كانت دعمت وعزّزت المقاومة الوطنية الموجودة التي كانت تحقق الانتصارات. لكن الواضح والذي لا يقبل الجدل أن تأسيس حزب الله كان لمشروع آخر تماماً، وكانت المقاومة هي الورقة الرابحة في هذا المشروع، فتمّ القبض عليها بالقضاء، بدايةً،على مكوّنها الوطني، اليساري تحديداً، وعلى ظهيرها الثقافي بالاغتيال والتصفية، ومن ثم يصبح المقاومون أمام احتمال وحيد: الالتحاق بحزب الله المدعوم بقوة من «الثورة الإسلامية» في إيران، ومن «جبهة الصمود والتصدي» العربية بقيادة النظام الأسدي!
هنا ندرك أن المقاومة، بما هي فعل شعبي لمواجهة الاحتلال والتصدي للعدوانية الصهيونية، قد تمت مصادرتها من قبل حزب الله، لاستخدامها لاحقاً في تنفيذ مشروعه ومشروع داعميه السياسي في المنطقة. وهذا المشروع ليس سوى مشروع هيمنة بشقين: داخلي في وجه باقي القوى السلطوية (الطائفية)، وخارجي يقودة نظام المافيا الإيرانية لفرضه على المنطقة.
اندحر جيش الاحتلال الصهيوني وعملاؤه المحليون عن الشريط المحتلّ في جنوبي لبنان وعمّا تبقى محتلاً من البقاع الغربي، وذلك عندما أصبحت تكلفة الاحتلال أكثر بكثير من فوائده.
انسحب مسرعاً تاركاً عملاءه يتخبّطون في انسحاب مربك. فهم لبنانيون، فإلى أين ينسحبون؟ لكنهم تبعوا المحتلّ إلى فلسطين المحتلّة كجائزة ترضية، وقد عبّر زعيمهم العميل أنطوان لحد عمّا تضمنته هذه الجائزة من إهانة حين قال: «نحن عارفين رح ننشحت، لكن ننشحت بكرامة!».
في المقابل، كان الشعور لدى عامة اللبنانيين بالنصر عارماً، عَكَسَه زحفُ مئات الآلاف منهم من كل المناطق باتجاه الشريط الحدودي ما إن استوعبوا ذهنياً عملية الانسحاب. لكن آلافاً زحفت إلى الجنوب حتى قبل أن ينهي جيش الاحتلال انسحابه، وبدءً من بعد ظهر يوم 24 أيار 2000.
ومن يسترجع تلك الصور للزحف الكبير باتجاه الجنوب، وتحديداً باتجاه بوابة فاطمة ومعتقل الخيام وسواهما من المعالم التي شهدت على جرائم الاحتلال ووحشيته، وتلك التي شهدت على بطولات المقاومين وتضحياتهم، ويستعيد مشاهد الحشود البشرية وطوابير السيارات التي لم يعد تجد لها مجال للتقدم، فعمد من يستقلها إلى ركنها والسير على الأقدام جنوباً ليحتفل بالتحرير عند أقرب نقطة للشريط الحدودي يمكنه الوصول إليها، من يفعل ذلك يمكنه أن يدرك كم كان الشعور الجمعي والاعتزاز بالنصر عاماً وعارماً عند الشعب اللبناني، وكل من تواجد يومها على أرض لبنان من فلسطينيين وعرب.
هذا الانسحاب الذي حصل دون أية اتفاقات مذلة أو أي قيد أو شرط، ولكن تحت ضغط النضال المسلح اليومي الذي فرضته مقاومة الشعب اللبناني، رآه الجميع انتصاراً عزّ مثيله، بعد أن اعتادوا الهزائم المتتالية واتفاقيات الذلّ التي سبق لأنظمة عربية أن وقّعتها مع العدو الصهيوني، من كامب ديفيد إلى وادي عربة إلى أوسلو… انتصاراً تردّدت أصداؤه في العالم أجمع، وخصوصاً في بلدان الوطن العربي.
لم ينتظر اللبنانيون السيد حسن نصرالله ليهدي النصر إليهم جميعاً. كانوا مقتنعين تماماً أنه انتصارهم هم، لأن التضحيات التي قُدّمت في سبيله هي تضحياتهم هم، مهما حاولت قوى سياسية وأحزاب إلهية نسبتها إليها.
كانت كلمة السيد حسن نصرالله في بنت جبيل الحدودية، وإهداؤه انتصار المقاومة إلى جميع اللبنانيين، بداية التوظيف السياسي لهذا النصر. لكن اللحظة الأكثر دراماتيكية في لبنان بعد انتصار سنة 2000 كانت لحظة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، في مرحلة كان الانقسام السياسي بين قوى السلطة يتبلور، وكان محور هذا الانقسام «الوجود السوري»، وبالأخصّ التدخل المباشر في كل تفاصيل الحياة السياسية وصولاً إلى فرض التمديد لرئيس الجمهورية آنذاك، إميل لحود، وسيطرة المخابرات السورية على كامل مفاصل اللعبة السياسية. يضاف إلى ذلك استصدار قرار من مجلس الأمن يُلزم القوات السورية بالانسحاب الفوري من لبنان (1559/ 2004). فكان اغتيال رفيق الحريري مقدمة لانسحاب الجيش والاستخبارات السورية نهائياً من لبنان، ربيع 2005، دافعاً حزب الله إلى الواجهة في محاولة لملء الفراغ أو للتعويض عن الخروج السوري ومفاعيله.
ما لبث حزب الله أن وجد نفسه في حاجة لانتصار جديد يمكّنه من تعزيز موقعه الداخلي، فكانت عملية اختطاف الجنديين الإسرائيليين من داخل الشريط الحدودي في عملية هي الأجرأ منذ سنة 2000، وذلك لمبادلتهما بالأسرى اللبنانيين والعرب في المعتقلات الصهيونية وبجثامين عدد من الشهداء. لكن ردّة فعل إسرائيل لم تكن محسوبة من قيادة حزب الله، فشنّت حربا مدمرة على لبنان (تموز 2006) أوقعت، إلى جانب الخراب المخيف، أكثر من 1,300 شهيد، ودفعت مئات الآلاف إلى النزوح باتجاه الداخل أو باتجاه سوريا.
وما وصفه حسن نصرالله بالنصر الالهي لم يكن أكثر من تسوية فرضتها القوى الدولية، التي زجّت 15 ألفاً من الجنود الدوليين ليتخذوا مواقع لهم على الجانب اللبناني من الحدود وفي المياه الإقليمية للبنان، لتمنع أي هجوم باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، انطلاقاً من الأراضي اللبنانية.
خمسة عشر عاماً (حتى 2006) من تغييب الثقافة اليسارية والتقدمية عن ساحة المقاومة أتاحوا لحزب الله أن يتسلل أيديولوجياً إلى عقول المقاومين، وخصوصاً الذين أنشأهم ودرّبهم في معسكراته وفي إيران على أيدي الحرس الثوري الإيراني، الجهة الأكثر فاشيةً ورجعيةً هناك. وهذا ما جعله أكثر قدرة على محاصرة الفكر اليساري الثوري ومكّنه من إعادة صياغة «المقاومة» بما يتناسب ومشروعه السياسي، الذي تطوّر ليصبح مشروعاً مافيوياً بامتياز. ولكن التحول السياسي والاقتصادي لنخب حزب الله باتجاهات مافيوية لا يمكن أن يستفيد منها عموم الشعب الجنوبي أو أبناء الضاحية أو أيّ من المناطق الشيعية، فالمافيات عموماً تحتكر العوائد المادية والنفوذ لمجموعات تتقلص عددياً باستمرار لتصبح في نهاية المطاف مجموعة من العائلات البالغة الثراء، في مواجهة القواعد التي يضربها الإفقار والتهميش يوماً بعد يوم.
وسياسة المافيات حيال الأوضاع الاجتماعية تقوم على الابتزاز في لقمة العيش. وهذا ما يمكن للمدقّق ملاحظته اليوم في حرب حزب الله إلى جانب النظام الأسدي ضد ثورة الشعب السوري. فقد استغلّ حزب الله بؤس وبساطة الآلاف من الشبّان، وبالاستعانة بالأيديولوجيا المذهبية التي طالما ضخّها في العقول، ليشغلهم في القتال في سوريا لقاء مبالغ زهيدة، بل تافهة. ويتساقط المئات منهم ضحايا عدوانه على سوريا، «فدا صرماية السيد حسن»!
وفي الوقت الذي تشهد الحدود اللبنانية هدوءاً ثابتاً من الجانب اللبناني، يذكّرنا بالهدوء الذي طالما شهدته جبهة الجولان المحتلّ على مدى أكثر من أربعة عقود، وعزّزته رسالة التطمينات التي وجهها حسن نصرالله إلى قادة الكيان الصهيوني بواسطة وزير خارجية روسيا، نرى أن التعديات الصهيونية المتفرقة عبر تلك الحدود قد استعادت نشاطها الذي اعتادته المناطق الحدودية في فترة ما قبل الاجتياح، سواء عبر الانتهاكات اليومية للطيران الإسرائيلي للأجواء اللبنانية أو عبر عمليات خطف المواطنين أو اجتياز الشريط الحدودي أو التعدّي على المزارعين وتخويفهم في أرضهم. هذه الاعتداءات كانت قد توقفت بالكامل بين عامي 2000 و2006.
إن مقارنة سريعة بين سلوك حزب الله حيال المقاومة في لبنان، من جهة، وبين سلوك قوى الإسلام الجهادي حيال ثورة الشعب السوري، ومحاولتها القبض على الثورة لخدمة مشاريعها في السلطة، بعد أن نهضت تلك الثورة على مبادئ أساسية أهمها الحرية والعدالة الاجتماعية ومبدأ المواطنة، من جهة ثانية، تؤكّد أن كلا الطرفين يعمل على تسخير تضحيات الشعوب لمصالح سلطوية نقيض لمصالحها، وأن طريق التحرّر والتحرير لا يمكن أن ترسمَها قوى تُبطِن مشاريع هيمنة داخلية أو خارجية، أو تتحرّك بناءً عليها.
إن إعادة الاعتبار للمقاومة لن يكون إلا باستعادتها مشروعها الوطني للتغيير والتحرّر والتحرير، المشروع الذي لا يفصل بين تحرير الأرض وبين قضيتي السلطة والثروة، أي تحرير الإنسان. وهذا لن يكون ممكناً بدون تحرير المقاومة والمقاومين من سيطرة القوى المافيوية المتسلحة بالأيديولوجيا الدينية والمذهبية والمرتهنة لمشاريع الهيمنة الخارجية، وتحديدا حزب الله.