لم تقف وقاحة النظام السوري، بجيشه وشبّيحته، عند ترشيح بشار الأسد للانتخابات وإطلاقه حملته الانتخابيّة تحت شعار «سوا»، بل تعدّت ذلك إلى دخوله حمص المحاصرة رافعاً راية المنتصر، وكأنّ نصره هذا أتى على خلفيّة معركة شرسة أو اتفاق سياسي متساوٍ وعادل.

نعم، لقد انتصر النظام في حمص وهذه حقيقة لا يمكن الهرب منها بالعبارات وبالأمل الزائف، لكنه لم ينتصر بمفهوم النصر الذي ترويه القصص الكلاسيكيّة عن انتصار الخير على الشرّ. فبعدَ عامين ونيّف من الحصار، صار بوسعنا اليوم أن نروي الكثير من الروايات عن حمص وانتصاراتها وعن النظام وانتصاره.

على مدى عامين ونصف استمرّ لعب الأطفال في الحصار، صوت عبد الباسط منشداً، النكت الحمصيّة، احتفال الجموع في العيد ليدبكوا ويرقصوا، وكلّ شكل من أشكال الحياة في المناطق المحاصرة كان يقاوم النظام وكان ينتصر عليه. في كلّ يوم على مدى ما يقارب التسعمائة يوم (عامين ونصف)، انتصرت الحياة في حمص وهزم الموت. وها هو النظام ينتصر ليوم واحد فقط. ينتصر ليوم واحد ويحتفل بانتصاره بأن تدخل قوّاته وشبّيحته إلى الأحياء وتدنّس البيوت المهجورة بسرقة المقتنيات التي بقيت تقاوم دماره ووحشيته عامين ونصف، المقتنيات التي تركها أبطال الحصار لتشهد لأصحابها عن عامين ونصف من الحصار والدمار أصبحت اليوم دليلاً آخر على قُبح من يدخل البيوت قبل أصحابها لسلبها في وضح النهار.

قبر الأب فرانس، بدوره، شكل آخر من أشكال الانتصار أيضاً، فزينة القبر، الصليب الأبيض والرخام الرماديّ في حديقة إحدى الكنائس، هذه التفاصيل تنتصر على كلّ محاولات «تطمين الأقليات» الذي يتحدّث عنها النظام السوري ويحاول الغرب أن يلقّنها للثوار. سيدة مسيحيّة، من الحميدية، لم يُفرض عليها الحجاب لطيلة عامين ونصف، تخرج من الحصار بشعرها الأبيض ووجهها الشاحب دون أن تتعرّض لأيّ نوع من المضايقات، هي أيضاً تتغلّب على كلّ روايات النظام وقصصه حول الإرهابيين والمتطرّفين. بل ويكفي المقاتلين نصراً أن مسيحيي حمص لم يضطروا لكتابة رسالة كالتي كتبت في الأيّام التي لحقت فكّ الحصار عن أحيائهم، طالبين من الجيش والشبّيحة بلهجة فيها من الحذر والمعاتبة والممالأة ما يفيض فيما يطلبون منهم المحافظة على مقتنياتهم: «نحن المسيحيين أهالي حمص القديمة، الحميدية وبستان الديوان ووادي السايح والورشة، نتوجّه اليكم بهذا النداء من قلوبنا المجروحة، ونناشدكم الحفاظ على ما تبقّى من بيوتنا ومقتنياتنا بعد عملية التحرير، والتي اوشكت على الانتهاء».

أمّا «صمود بالفرن» فهو قصّة نصر من نوع خاص، فهو اسم طبق كان يحضَّر على الفطور في أحياء حمص المحاصرة. الطبق باختصار هو استنباط الحياة من بين الأظافر الوحشيّة لنظام لم يستطع أن ينتصر على ٩٥٠ مقاتلاً إلّا عن طريق تجويعهم. «صمود بالفرن» ليس أكثر من طبق يحضّر من البهارات المتبقيّة في المنازل (كزبرة وبدار وفليفلة حارّة) تُعجن وتحمّص لتصبح طبقاً ساخناً يقدّم صباحاً. ولم يكن يكفي «الصمود بالفرن» نصراً أن ابتكاره بحدّ ذاته يعتبر أقوى أنواع المقاومة، عن طريق خلق الحياة من بقايا غباريّة مطعّمة، حتّى يعلم المرء بأنّ «الصمود بالفرن» لا يحضّر في الفرن أصلاً! بل ان الاسم مستوحىً من واقع حال الحصار المطبق وخيال من قام بتحضير الطبق، فلربما كان يـ\تعتقد أنّ طعمه سيكون أفضل لو سُخّن في الفرن، أو لربما كان الاسم يشبه إلى حدّ كبير واقع حال الحصار: بسيط وذو طعم مرّ، إلّا أن الإيمان بأنه، في أقسى حالاته، كان أفضل من العودة إلى النظام، جعل من الأسماء والخيال حجر أساس في الحياة. فتحويل الطعام إلى سلاح عن طريق تجويع المحاصرين من مدنيين وعسكريين دفع المحاصرين لأن يستخدموا المقاومة بنفس الطريقة، لتصبح أسماء الأطباق التي يُعدّونها في ظلّ الموارد المحدودة ضمن الحصار فعل مقاومة هي أيضاً، فتصبح المناقيش «مناقيش الصمود» عندما تتحوّل من مناقيش العجين المعتادة إلى مناقيش عجين البذار والبهارات، وتصبح الملوخيّة «ملوخيّة صمود» عندما تتحوّل مكوّناتها إلى أوراق التوت والتين عوضاً عن نبتة الملوخيّة المعروفة، وكذلك تصبح عيارات ومقادير الطهي حمصيّة جدّا، «توضع المكوّنات ونبدأ بالعجن ومنضل عم نعجن لحتى يقول الواحد لحالو خلص عمي بضلّ جوعان أحسن لي من هالبلا، عند هالدرجة بتكون شبكت العجينة»، كما تصف صفحة «أكلات الحصار» على الفيسبوك طريقة تحضير مناقيش الحصار.

انتصارات الثوار تُختصر بعبارة تركها أحدهم على الجدار قبل أن يرحل: «وإن رحلت فاعلموا أني بذلت ما بوسعي لأبقى»، وانتصار الأسد هو عبارة يخطها جنود الأسد فوق عبارات الثوار، «رجال الأسد»، وهم يدخلون تاركين الدمار على حاله والجثث على حالها في الشوارع، مهتمّين فقط بأن يرسموا عبارات الأسد على الجدران ورفع علم النظام والتقاط الصور التذكاريّة الفارغة أمام الدمار، ليحفظوا جيّداً كيف دخلوا المدينة التي قاومتهم بكلّ تفاصيلها وانتصرت عليهم بكلّ تفاصيل الحياة اليوميّة فيها، انتصرت ما يكفي ليحاولوا محو كلّ أثر ثوري هناك، لتعود الحياة إلى «طبيعتها» بأسرع ما يمكن. فالرسالة قد وصلت إلى كلّ من دخل ليجد عظاماً على باب بيته وجثثاً في الشوارع. لقد كان بوسع النظام أن ينظّف كلّ الدمار قبل دخول الأهالي، كان بوسعه أن يدفن بقايا الجثث ويلمّ النفايات ويكنس الشوارع، لكنه أراد لها أن تبقى وأراد لأعين الناس أن تحفظ الدرس جيّداً، وأن تعلم أنّ شيئاً لن يمنعه من تكرار الكارثة إن تجرّأوا يوماً على التمرّد ثانيةً، أراد لهم أن يعرفوا هذه الحقيقة، وعرفوها، لذا صار بإمكانه أن يقوم اليوم بالتنظيف والمساعدة وأن يحاول أن تعود الحياة سريعاً إلى أقرب شكل مما كانت عليه، فهكذا فقط يشعر بلذّة انتصارٍ يشبهه.