توطئة
في بداية رمضان 2012، تم تحرير بلدة مسكنة، في ريف حلب الشرقي، من قبل ما كان يعرف بـ ’كتيبة مصعب بن عمير‘، والتي انضمّت لاحقاً لـ’حركة أحرار الشام الإسلامية‘ السلفية، والتي جاءت ’دولة العراق الإسلامية‘ فيما بعد لتطردها نهائياً وتُحكم قبضتها على البلدة.
تشكلت ’كتيبة مصعب بن عمير‘ بصورة سرّيّة من قبل أبناء البلدة بقيادة «الشيخ هاشم»، وهو شخصية معروفة في البلدة وفي مدينة حلب، قضى 5 سنوات في سجن صيدنايا الشهير، وقد كان من مجموعة الدعاة التي عملت مع الشيخ الشهير أبو القعقاع للتعبئة وتنظيم إرسال المجاهدين إلى العراق قبل عشر سنوات.كانت عملية التحرير وقتها مرتبكة وغير محدّدة الأهداف، ويبدو أنها كانت مجرّد عملية استيلاء على السلاح الموجود في مركز المرور ثم تحوّلت لعملية تحرير.
وبعد التحرير تم تشكيل الإدارة المدنية على عجالة، ثم تشكيل المجلس في ظل تطوّر وتغيّر شكل الكتيبة نفسها، حيث توسّعت بسرعة كبيرة في هذه الأثناء وضمت عناصر لا تملك شكل الالتزام الديني السلفي نفسه والذي كان غالباً على قيادات الكتيبة وفكرها. وقد تم تشكيل المجلس من مجموعة معظمهما من الشبّان الجامعيين، والذين يؤيدون الثورة بصورة أو بأخرى، وهؤلاء تم ضمّهم للكتيبة أيضاً لاحقاً.
تعرّضت عملية تشكيل الإدارة المدنية لضغوط كبيرة، منها العشائري، ومنها ضغوط الكتائب الوافدة من خارج البلدة والتي كان لها أهداف أخرى غير التحرير. بحثت كتائب من ’الجيش الحرّ‘ عن موطئ قدم لها في مسكنة، ولكنها كانت قادمة بهدف التصفية ونهب المرافق العامة ودوائر الدولة، وقد تمّ طردها بالتدريج لاحقاً من قبل الكتيبة المحلية.
وفي هذه المرحلة كان الجمهور العام في البلدة مترقباً، بين مؤيد لعملية التحرير ومعارض لها. ويمكن تلخيص السمات العامة لتلك المرحلة بـ (1) بقاء منسوب الأمن في البلدة على حاله، حيث حافظت الكتيبة على مستوى عالٍ من حفظ الأمن وقد (2) تمّ التركيز على محاولة تسيير الحياة العامة بسرعة من قبل المجلس، والذي عمل بوتيرة سريعة نوعاً ما؛ كما (3) تمّ الاستيلاء على الكثير من القطاعات الحكومية الزراعية بآلياتها، وقد أدّى ذلك لتعطيل عمل الكثير من القطاعات التي كان يمكن تركها تعمل بسلاسة؛ وقد قابل هذه المتغيّرات (4) من قبل المجتمع الأهلي مرحلة من التشكيك بكل تلك الأعمال، بينما الكتيبة والمجلس اعتبرا المجتمع غير متعاون أو مؤيداً للنظام بدرجة ما.
الانتساب لحركة ’أحرار الشام‘
’كتيبة مصعب بن عمير‘ كانت تتمحور حول شخصية قائدها الشيخ هاشم، والذي حاول أن يكون وسطاً بين أفكاره ومشروعه السلفي من جهة، والواقع الاجتماعي العشائري غير الحاضن للمشروع السلفي والواقف أصلاً موقف المتشكّك من الثورة في المنطقة.
وبناءً على علاقات الشيخ السابقة بقيادات سلفية أخرى، منذ أيام الدعوة والسجن، بدأت فكرة الارتباط بحركة أكبر ومشروع أكبر، وقد انضمّت الكتيبة لمشروع لم يكتب له النجاح هو ’جبهة تحرير سوريا الإسلامية‘، وفي ذاك الوقت تردّدت شائعات كثيرة عن بيعة الكتيبة لـ’جبهة النصرة‘ سرّاً والاقتراب من إعلان هذه البيعة. كان من الملاحظ في حينها حصول ’النصرة‘ على مقرّات في أطراف البلدة أو في قرية الخامسة (تجمّع سكني للموظفين سابقاً)، كما أنشأت هيكلاً يشبه «الهيئة الشرعية» الخاصة بها، إضافة إلى «مكتب دعوي» في مركز البلدة. ولكن البيعة لم تحصل رغم التقارب الكبير هذا، بل حصل العكس وهو انتساب ’كتيبة مصعبـ‘ إلى ’حركة أحرار الشام‘، ونتيجة لذلك غادر الشيخ إلى حلب ليعمل في مركز ’الحركة‘ في منصب أكبر يشمل حلب وريفها.
تجربة الإدارة المحلية
تكونت بنية الإدارة المحلية في مسكنة من «المجلس» و«الهيئة الشرعية».
المجلس
أما المجلس فشكّلته مجموعة من الناشطين والجامعيين، وقد تمّ ذلك بعد دعوة الشيخ هاشم أصحاب الشهادات العلمية لاجتماع بُعيد التحرير نتج عنه هذا المجلس. واعتمد بطريقة تشكيله وضمّه لأعضاء جدد على التزكية، وقد اهتمّ بالمجلس بالشؤون الإدارية والخدمية والتنسيق مع قطاعات الدولة التي بقيت تعمل في المنطقة (مثل محطّات تحويل الكهرباء ومحطة ضخّ وتعقيم المياه ومحطات الري والصوامع).
أما من ناحية الأداء فيمكن ملاحظة مرحلتين متمايزتين لأداء المجلس، قبل وبعد الانضمام لـ’أحرار الشام‘.
آ) مرحلة ما قبل الحركة:
امتازت مرحلة ما قبل ’الحركة‘، أي ’حركة أحرار الشام‘، بنشاط وحيوية وطموح في البداية، وبرغبة في إثبات وجود. وفعلاً نجح المجلس بتأمين الخدمات وتحسينها، خاصة بعد المرحلة السيئة التي مرّت بها البلدة في آخر أيام وجود النظام في المنطقة.
فالمخابز استمرّت في عملها، وساهم بذلك المجلس وأعضاؤه الذي تنقلوا في حلب وريفها لتأمين الطحين والوقود للأفران، لدرجة أنهم تفاوضوا مع النظام لإبقاء الفرن الاحتياطي الحكومي يعمل مقابل عائد مادي للنظام. كما عمل المجلس على استمرار عملية الريّ والزراعة وشراء القمح، وبلغت كميات شراء القمح إلى أكثر من 25 مليون ليرة سورية، كما تم تأمين المبيدات اللازمة وشراء موادّ التعقيم لمياه الشرب من خارج البلاد حيث توقف النظام توقف عن تزويد المحطات بها.
وكان وضع المنطقة من ناحية الخدمات العامة الأفضل بالمقارنة مع مناطق أخرى مثل دير حافر ومنبج والباب.
ولكن المجلس سرعان ما سقط في نقيصة المحاصصة والتهميش، وقد كان ذلك نتيجة مباشرة لنظام التزكية المعمول به لتطوير وتوسيع المجلس، مما أفقده أفقدته الكثير من الطاقة البشرية الفاعلة من أجل المجتمع. دخل المجلس بعد ذلك في طور بطء وبيروقراطية و«وضع العصيّ بالعجل»، ليستمرّ بهذا الشكل أثناء مرحلة الانضمام لـ’حركة أحرار الشام‘.
ب) الانضمام لحركة أحرار الشام
في مرحلة ’حركة أحرار الشام‘ استمرت طريقة التزكية قائمة في المجلس، يضاف لها عملية غربلة لعناصر المجلس تمّت حسب المعيار الديني الذي جاءت به ’الحركة‘ وكان شرطاً غير مكتوب لانضمام عناصر المجلس لـ’الحركة‘، الأمر الذي ساهم في زيادة الانفصال بين المجلس والمجتمع وفي خسارة المجلس للكثير من الكوادر البشرية التي فضلت الابتعاد مع الوقت.
ظهرت هذه المشكلة بقوة بعد عملية تحرير مدينة الرقة، فلم تكن ’أحرار الشام‘ تملك الكادر الكافي لإدارة تلك المناطق، فأخذت تسحب عناصر من مسكنة ليذهبوا إلى الرقة وبدون بدائل، وقد أثّر هذا بشدّة على أداء المجلس.
وفي ظل مركزة السلطة القوية لـ’أحرار الشام‘ وسيطرتهم على المجلس، فقد الأخير الكثير من الدعم المادي الذي كان أبناء البلدة المغتربون يجمعونه للمجلس من أجل دفع الرواتب أو تأمين النفقات بهدف إقامة مشاريع تنموية كان يأمل بإقامتها المغتربون.
حافظ المجلس تحت حكم ’أحرار الشام‘ على تأمين الخبز والقمح والطحين، وخاصة بعد إنشاء ’الحركة‘ مكتباً للطحين في مدينة الرقة لإدارة شؤون الطحين في مناطق سيطرتها. لكن أسعار الخبز ارتفعت رغم ذلك شكل ملحوظ. أما أمور المجلس التنظيمية فاستمرّت بالانحدار لدرجة أن الاجتماعات لم تعد تُعقد بسبب نقص نصاب المجتمعين.
من الجدير بالذكر بهذا الصدد أن المجلس تجنب أمور المدارس والتعليم وتركها لتتابع عملها بدون دعم، بينما بقي المدرسون وبقيت المناهج تابعة للإدارة المركزية في حلب، التابعة بدورها للنظام، وقد تجاهل المجلس القطاع التعليمي لأنه قطاع غير ربحي على الأغلب. وبالعكس كان أعضاء المجلس دائماً يوجّهون الانتقاد للمدرّسين خصوصاً وللموظفين عموماً بسبب قبضهم رواتبهم من نظام «كافر».
الهيئة الشرعية
تم تشكيل الهيئة الشرعية من قبل الشيخ هاشم تحديداً حصراً، وقد اختار هو القضاة. وكان اختيار القضاة على ما يبدو بلا معيار واضح، فمنهم من كان بالفعل خرّيج من كلية الشريعة ومن عائلة عرفت بالتفقّه في أمور الدين، لكن آخرين لم يكونوا يحملون أي شهادة أو تجربة أو مؤهّلات خاصة، باستثناء قضاء سنة دراسة دينية غير مكتملة في كلية خاصة في دمشق وعمل سابق في تجارة وصباغة الذهب وانتماء إلى عائلة ذات علاقات قوية بالنظام؛ وهذا النموذج على سبيل المثال لا الحصر.
وقد تمّ حلّ الهيئة الشرعية مرتين بدعاوى فساد فيها.
يمكن وصف عمل الهيئة الشرعية في مسكنة بأنها بدأت بقوّة ورشاقة غير معهودة من قبل الشارع عن أمور القضاء السابق، خاصة في المنازعات الشخصية كقضايا الأراضي والديون وغيرها، ولكنها، كالمجلس، بدأت بالتباطؤ فيما بعد ووصلت لدرجة الخمول في عملها بسبب التراكم وخسارة الاستقلالية لصالح مركزية ’حركة أحرار الشام‘ لاحقاً.
الجدير بالذكر أنه تمّ تشكيل هيئة شرعية أخرى من قبل ’جبهة النصرة‘ (داعش لاحقاً) والتي نافست الهيئة السابقة بقوّة لدرجة التنازع على الجوامع والخطبة، وانتهى الأمر بتقاسم الجوامع بين الهيئتين.
خلاصة تجربة الإدارة المحلية
يُحسب للإدارة المحلية في مسكنة الاستتباب الأمني وخلوّ المنطقة من عمليات النهب والسلب والخطف، كما حصل في البلدات المجاورة مثل الباب ودير حافر وغيرها؛ وكذلك الحفاظ على المال العام بصورة مقبولة نسبياً؛ واستمرار الخدمات العامة بحالة جيدة (كهرباء، مياه شرب، أفران، ريّ، زراعة).
بالمقابل، يُحسب على الإدارة المحلية غلبة الاستئثار بالسلطة لصالح أطراف محددة؛ وعدم الاهتمام بالأعمال غير الربحية بشكل عام، ومن ذلك إهمال التعليم لدرجة تناسي وجوده (رغم المدة الزمنية التي جاوزت السنة والنصف)؛ بالإضافة للقطيعة مع المجتمع والتصرّف بطريقة استبدادية كاملة دون اعتبار لوجود أطراف أخرى، فقد تم تهميش كل الأفكار والآراء خارج نطاق مجموعة ’الحركة‘ والمجلس المدني؛ وأخيراً، كان الخضوع الكلي للإدارة المركزية لقيادة ’أحرار الشام‘ أشبه بحكم الحزب الواحد.
إمارة مسكنة، ولاية حلب، الدولة الإسلامية
ظهر تنظيم ’الدولة الإسلامية في العراق والشام‘ (داعش) في سوريا بُعيد تحرير الرقة، بقيادة القيادي السلفي العراقي أبو بكر البغدادي (إبراهيم عوّاد)، وقد كان نصيب مسكنة من ذلك أن تحوّلت كل عناصر ’جبهة النصرة‘ في المدينة إلى تنظيم البغدادي.
في شهر نيسان 2013 ظهرت على مدخل البلدة لافتات تحمل التسمية الجديدة: «إمارة مسكنة، القاطع الشمالي، ولاية حلب، الدولة الإسلامية في العراق والشام». تم هذا بشكل واضح وتغاضى عنه ’الأحرار‘ تماماً. ورافقته بعدها عملية انشقاق قام بها «أبو محجن» وجماعة معه (تنتمي لتجمّع عشائري صغير) بايع خلاله ’الدولة الإسلامية‘ وتخلّى عن ’الحركة‘. وتمّ إجبار الأخيرة فيما بعد على إعطاء مركز المياه في وسط البلدة كمقرّ لـ’الدولة الإسلامية‘، وقد فضّلت ’الحركة‘ عدم الاحتكاك وتمّ ذلك رغماً عنها.
وبعدها بدأت مرحلة من التحرّشات انتهت بسيطرة ’الدولة‘ وطرد ’كتيبة مصعب‘ من البلدة، وبمقتل الدكتور حسين السليمان (أبو ريان) لتنتهي تماماً مرحلة إدارة ’أحرار الشام‘ (عبر ’مصعب بن عمير‘) لهذه البلدة ذات الموقع الاستراتيجي الهامّ والحاوية على ثروات كبيرة من أملاك الدولة، والتي يبلغ عدد سكانها أكثر من 30 ألف نسمة.
وسنفرد ورقة مستقلة لوضع المنطقة في ظل سيطرة ’الدولة الإسلامية في العراق والشام‘ لاحقاً إن شاء الله.
خلاصة
يبدو أن ’حركة أحرار الشام‘ لم تملك تصوراً سياسياً لشكل الدولة القادمة (حتى لو كانت إسلامية). تطوير الإدارة في ضوء المعارف الحديثة أمر وأن تقرر ’الحركة‘إدارة مرافق الدولة والمجتمع على عاتقها وبطريقتها أمر أخر. فالحركة اعتمدت على الإقصاء لكل من له فكر مختلف، حتى أنه كان من المعروف في أروقة المجلس المدني بأن عدم الالتزام بمظهر اللحية وتقصير الثوب وترك التدخين يمكن أن يقف عائقاً في تقلّده مهامّ كبيرة. ويتضح هذا القصور أيضاً في العجز عن التعامل مع تنظيم ’الدولة الإسلامية‘ ومراحل تطوّره، فقد استعملت ’الحركة‘في وجه المتخوّفين من التنظيم مبرّرات من نوع «حركة إسلامية شقيقة»، فهي لم تضع مصلحة المجتمع والثورة قبل مصلحة الجهاد بشكله الأممي الذي يرفض المواطنة. ربما لم تطوّر ’حركة أحرار الشام‘ وعياً وطنياً كافياً للتوفيق بين الأسلمة والواقع الاجتماعي والسياسي لكل بلد وواقعه الخاص به. كانت وجهة النظر التي يتم تدريسها للمقاتلين الصغار في معسكرات ’الحركة‘ أن ’الدولة‘ تمثّل مشروعاً مثالياً، وأحياناً تصبح ’الدولة‘ مثلاً أعلى، وقد سرى لدى المقاتلين الشباب في ’الحركة‘ في المنطقة الشرقية شعور بالجاذبية تجاه هذا التنظيم، والذي مثّل حسب فهمهم الإسلام الصرف. وقد دفعت ’الحركة‘ ثمناً غالياً لهذا التفكير وفيما بعد فشلت بإقناع الكثيرين من مقاتليها بقتال ’الدولة‘، التي قتلتهم بعد سحبهم من منازلهم في مدينة الرقة.