مقدمة
شكّلت قضية اللاجئين والنازحين السوريين جرّاء الحرب التي يشنّها النظام السوري على مناوئيه تحدياً كبيراً للسوريين والمجتمع الدولي ودول الجوار المضيفة، وإذا كانت أوضاع اللاجئين السوريين تتباين من دولة لأخرى ومن مخيّم لآخر في الدول المحيطة، فإن الأمر يبدو مشابهاً لجهة تباين أوضاع النازحين الذين هُجّروا من أحيائهم وقراهم إلى مناطق أخرى داخل الأراضي السورية.
تتمتع دراسة ملف النازحين في الساحل السوري بأهمية خاصة لأسباب شتّى، لعل أبرزها أن الساحل السوري يشكّل معقل النظام السوري الأكثر استقراراً، وهو يعني أن النازحين من أبناء البيئات الأهلية الثائرة على النظام يُقيمون تحت رحمته تماماً؛ والسبب المهم الثاني هو التنوّع الطائفي الشديد، مع غلبة عددية للمنحدرين من أصول علوية، وهي الطائفة التي توصف بأنها «الطائفة الموالية لنظام الأسد»؛ وأما السبب الثالث فيتمثّل بوجود نازحين من أصول علوية، ولنزوحهم خصوصيته وآثاره التي ربما لم يتحدث عنها أحد مطلقاً.
ما هو «الساحل السوري» المقصود في موضوعنا
إذا كانت محافظتا طرطوس واللاذقية هما أول ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الساحل السوري، فإن الاقتصار على الحدود الإدارية للمحافظتين عند إجراء أي بحث حول الساحل السوري لا يبدو دقيقاً على الإطلاق، فعلى سبيل المثال تتداخل منطقة ريف حمص الغربي (تلكلخ، الحصن، وادي النصارى) مع قرى طرطوس على الصعيد السكاني والجغرافي، وتجمع سكانها علاقات اقتصادية وأهلية وثيقة مع سكان ريف صافيتا، ومع سكان سهل عكّار على الحدود السورية اللبنانية وصولاً إلى العريضة والحميدية على شاطئ البحر، وكذلك هو حال منطقة ريف حماه الجنوبي الغربي (وادي العيون، مصياف) من حيث الترابط السكاني الوثيق والتداخل الجغرافي مع أرياف الشيخ بدر والقدموس والدريكيش، التابعة لمحافظة طرطوس أيضاً.
كذلك، ليس الساحل السوري «بلاد العلويين»، فالساحل السوري منطقة شديدة التداخل الطائفي والعرقي، يقطنها علويون وسنّة وإسماعيليون ومسيحيون وتركمان وأكراد وأرمن، وشهدت بعض مدنه وأريافه مظاهرات ومعارك طاحنة، وخرجت أجزاء من جباله ثم شاطئه عن سلطة الدولة السورية في أقصى شمال اللاذقية، ومع ذلك فإنه كثيراً ما تتم الإشارة إليه بوصفه بلاد «العلويين»، ومن ثم يشار إلى النازحين إليه بوصفهم «السنّة» الذين اختاروا أو اضطروا أن يقيموا بين العلويين.
أيضاً، ليس لمصطلح «الساحل السوري» مدلول جغرافي فقط في سياق الشأن «الوطني» السوري، ذلك لأنه مرتبط تاريخياً بمشروع دولة العلويين الذي فشل أيام الانتداب الفرنسي، كما أنه وربما تأسيساً على هذا الارتباط تحول إلى مفهوم مركزي عند الحديث عن احتمالات تقسيم البلاد.
انطلاقاً من الخصوصيات التي حدت بنا إلى البحث في مسألة «النازحين في الساحل السوري»، والتي أشرنا إليها في المقدمة، يمكن القول إن الساحل السوري في موضوعنا هو تلك المساحات الواسعة من المناطق الممتدة من شاطئ البحر حتى سهل الغاب ووادي العاصي، والتي يُحكم عليها النظام السوري سيطرته الأمنية وهيمنته النفسية، وتستمرّ الحياة فيها مستقرةً على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي، مستقرةً فقط بالقياس إلى بقية الأراضي السورية، وهي مناطق استقبلت مئات آلاف النازحين وفقدت عشرات الآلاف من أبنائها على جبهات القتال، وتتميّز عن بقية المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري بكونها أكثر أمناً وبعداً عن المعارك.
أنماط النازحين في الساحل السوري
لا تتعلق محاولة التصنيف هنا بالمسألة الحقوقية أو الإنسانية، وهي لا تتضمّن أية إشارة من الكاتب إلى التمييز بين النازحين على مستوى البعد الإنساني لمأساة النزوح، ولا إلى التمييز بينهم لجهة حق كل منهم في العودة إلى دياره التي أجبر على مغادرتها، ولجهة حقه النظري في التعويض، أقول «النظري» لأنه يبدو مستحيلاً التفكير الجدّي في تعويض النازحين واللاجئين مستقبلاً، وإن كانت جميع مشاريع التسوية والعدالة الانتقالية تلحظ هذه المسألة.
تهدف محاولة التصنيف إلى تسهيل البحث في ظروف النزوح وأسبابه ومن ثم مآلاته، وتحديد المسؤولين عنه، وإلى تسهيل التمييز بين ظروف النازحين وأوضاعهم وأولوية استحقاقهم للمساعدة والدعم، وإلى استقصاء الأثر الديموغرافي الذي يكثر الحديث عنه على تركيبة الساحل السوري، ومن ثم مستقبله السياسي.
النمط الأول من النازحين هم النازحون من الساحل السوري… إليه، وهؤلاء هم الذين انتقلوا من مناطق سُكناهم تحت وطأة المعارك والمذابح إلى مناطق قريبة منها، وبعضهم ينطبق عليه وصف أبناء المناطق المنكوبة أكثر مما ينطبق عليه وصف النازحين، وهم من ثَمّ لم يُحدثوا أثراً ديموغرافياً مهماً، ولم يخلقوا مشكلات اقتصادية واجتماعية عميقة التأثير، باستثناء المنكوبين من أبناء مناطق بعينها كما سنرى لاحقاً.
هناك أيضاً أبناء الأقليات النازحون من الداخل السوري، «العلويون» على وجه الخصوص، سواء كانت أصولهم من الساحل السوري أو من قرى شرق حماه وحمص، إذ اضطر كثير منهم للنزوح إلى الساحل السوري، وعلى الرغم من أن أوضاعهم تبدو اليوم جيدة إلا أنه لا يمكن إغفال معاناتهم، خاصة أولئك الذين خسروا أرزاقهم وبيوتهم ونمط حياتهم السابق، ربما إلى الأبد.
النمط الثالث هم النازحون من أبناء المناطق الثائرة، وهؤلاء هم الفئة الأكثر معاناة، انتقلت أعداد كبيرة منها بلا رجال، فالرجال بقوا هناك للحرب أو خوفاً من الاعتقال والتصفية، في حين انتقلت عشرات آلاف النسوة والأطفال وبعض الشبّان والرجال إلى الساحل السوري، ويعاني كثير من هؤلاء من مشكلات كبيرة على الصعيد الاقتصادي والنفسي والأمني.
أما النازحون من مدينة حلب فهم الذين انتقلوا نتيجة معارك «خاضها الآخرون» في أحيائهم، كما يَعتقد أو يقول أغلبهم، وهم يشعرون بالنقمة على طرفي النزاع على حدّ سواء، وبعضهم كان من العائلات الموسرة التي انتقلت من الرخاء مباشرةً إلى مراكز الإيواء، وأغلبهم من الحرفيين المهرة وصغار التجار.
هنالك نمط خامس وأخير يستحق التوقف عنده، وهم أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة والمتوسطة، وهؤلاء انتقل بعضهم إلى الساحل السوري مبكراً قبل أن يتم تهديدهم بشكل جدي، ناقلين معهم أموالهم وفعالياتهم الاقتصادية، وهؤلاء لا يعانون من مشكلات تذكر، لكنهم يشكلون ظاهرة مهمة خاصة عند الحديث عن الجانب الاقتصادي في المسألة السورية.
«العلويون» ينزحون أيضاً
منذ بدأت قبضة السلطة تضعف في مناطق متفرقة من أنحاء البلاد، ومنذ بدأ مناهضو حكم الأسد يحملون السلاح، بدأت حالات من النزوح الإفرادي ثم الجماعي للعلويين نحو الساحل السوري. أول حالات النزوح بدأت منذ انتقلت التظاهرات من بضعة مئات من الشبّان المغامرين إلى مظاهرات ضخمة بعشرات الآلاف في أحياء دمشق وبلدات ريفها، ولا شيء يؤكد أنهم جميعاً تعرضوا للتهديد بالقتل مما أدى لنزوحهم، لكن هذا ما يُقال.
عشرات العائلات العلوية التي ترجع أصولها إلى الساحل السوري تركت بيوتها وأرزاقها في القابون وحرستا والقدم وجوبر، ثم التضامن ومخيم اليرموك وغيرها، واتجهت إلى الساحل السوري. الحياة باتت مستحيلة هناك منذ تعرض بعضهم للتصفية في الشارع، وإذا كان الثوّار يقولون إن هؤلاء مُخبرون وعناصر أمن، فإن المسألة كانت جرائم قتل طائفي بالنسبة للعلويين، وهذا ما ستبدو عليه على كل حال. وباستثناء أن هؤلاء خسروا أملاكهم، فإنهم واصلوا حياتهم في الساحل السوري وتمكنوا من العمل والحياة، وحصلوا على مساعدة أهلية كبيرة من جيرانهم ومحيطهم وذويهم.
بعض العلويين أيضاً كانوا من «النازحين من الساحل السوري… إليه»، إذ نزحت أعداد من القرى المحاذية لجبلَي التركمان والأكراد شمال اللاذقية، فانتقلوا من قراهم إلى قرى قريبة، وبعضهم سكن في تجمعات ومراكز إيواء من بينها المدينة الرياضية في اللاذقية، على أن نزوح أغلبهم كان مؤقتاً، إذا عاد كثيرون منهم بعد توقف المعارك، في حين غادر بعضهم الآخر حياة النزوح سريعاً، وواصلوا حياتهم الطبيعية في مدينة اللاذقية ومحيطها دون أن يعودوا إلى قراهم التي بقي بعضها خطوط تماس ملتهبة حتى الآن.
من شرق حماه وشرق حمص على أطراف البادية السورية نزح مئات العلويين إلى ريف ومدن الساحل السوري، بعضهم لم يخسر بيته فحسب بل اضطر إلى ترك أرضه وأرض آبائه، وإذا كان كثير من الثوار والمعارضين يبرّرون ما جرى هناك بأن هذه المناطق (معان والحمرا وجبّ الجراح ومحيطها) كانت مراكز «تشبيح»، على حدّ الوصف الشائع، فإن هذا لا يغير من حقيقة أن هؤلاء طُردوا من قراهم وتعرَّضَ بعضهم للتصفية والقتل، وانتقلوا إلى الساحل السوري قسراً حاملين معهم مرويّات عن قطع الرؤوس وحرق الأطفال، مرويّات شفهية تختلط فيها الحقيقة بالخيال بالدعاية المنظمة.
فضلاً عن ذلك، لهؤلاء عادات وطباع مختلفة عن «علويي الساحل»، وأيضاً هم ليسوا جزءاً من الدورة الاقتصادية في الساحل السوري، ولا هم أصحاب رؤوس أموال أو مهارات حرفية مفيدة، لذا هؤلاء ضيوف يجب أن يعودوا، وهم عبء اقتصادي واجتماعي، لكنهم مرحّب بهم أكثر من الآخرين لأنهم «علويون»، أو بعبارة أخرى لأنهم أنصار غير مشكوك بولائهم للسلطة.
أقام بعضهم بداية الأمر في مراكز إيواء، لكن اندماجهم كان سهلاً لاحقاً، وكذلك حصولهم على المساعدة والعمل، لكنهم يبقون «علويي مشَرِّق» حسب المصطلح الدارج، أي «علويي الشرق»، ودراسة أوضاعهم تفضي إلى نتائج مهمة، أولها أن نزوحهم على هذا النحو يمكن أن يشكل جزءا من عملية تبادل سكان محتملة تمهّد للتقسيم، ويشير بوضوح إلى البعد الطائفي للنزاع في سوريا، كما أن سهولة التمييز بينهم وبين «علويي مغَرِّب» إثبات آخر على انهيار المواطنة وفشل أنظمة الحكم المتعاقبة في صياغة هوية وطنية سورية، لأنه، بعد أربعين عاماً من الحياة في دمشق مثلاً، يبقى ابن الدريكيش في محافظة طرطوس من علويي الساحل، وثمة فارق بينه وبين علويي الحمرا (أقصى شرق محافظة حماه)؛ إنه الاقتصاد والجغرافيا عندما يتفوق على الطائفة، والطائفة عندما تحضر للتخفيف من أثر الجغرافية والاقتصاد.
تأبيد المذابح
بدأت العمليات العسكرية في الساحل السوري مبكراً خلال الأِشهر الستة الأولى من عمر الثورة، حيث اندلعت معارك في الرمل الشمالي والقنينص والسكنتوري في مدينة اللاذقية، وفي مدينة بانياس وريفها، وقد كانت جولات عسكرية سريعة استعرضت فيها القوات السورية قوتها في مواجهة مناطق محاصرة وشبه عزلاء، وأدت هذه المعارك إلى حركة نزوح واسعة، لكن النازحين ما لبثوا أن عادوا، باستثناء المطلوبين الذين دخل بعضهم إلى السجون ولم يعد مطلقاً، في حين غادر بعضهم البلاد ربما إلى غير رجعة، و«هاجر» آخرون إلى أقصى شمال شرق الساحل، حيث جبل التركمان وجبل الأكراد، محيط صلنفة والحفّة وربيعة وصولاً إلى ريف إدلب، فعاشوا هناك بعيداً عن القبضة الأمنية، ليساهموا في تشكيل أولى مجموعات ’الجيش الحر‘ حاملين حلم العودة بقوة السلاح.
في شمال شرق محافظة اللاذقية اندلعت معارك مبكّرة أيضاً خلال العام الأول من الثورة، وسرعان ما خرجت تلك الجبال الوعرة عن سلطة الدولة، لكن أغلب السكان «السنّة» هناك لم ينزحوا إلى مناطق هيمنة النظام في اللاذقية مثلاً، بل انتقلوا إلى ذرى الجبال أو مخيّمات تركيا.
لا يشكّل النازحون من جبلي التركمان والأكراد حالة مهمّة على الصعيد البحثي، وذلك لقلّة أعدادهم، ولأن أغلب من اتّجه منهم إلى اللاذقية كان من العائلات التي لها امتداد أو أقرباء أو أعمال في المدينة، لكن النزوح الكبير إلى مناطق سيطرة النظام كان من الزاوية الجنوبية الشرقية للساحل السوري، ما يعرف بريف حمص الغربي، تلكلخ والزارة والحصن، حيث نزح كثير من السكان هناك باتجاه طرطوس وريفها الذي يعرفونه جيداً، اتجه معظمهم نحو الغرب تماماً، إلى الحميدية ومحيطها (حيث السنّة من أصول يونانية) قرب الحدود اللبنانية، وهناك عاش معظمهم وحتى اللحظة في مراكز إيواء وشاليهات وتجمّعات كبيرة.
اقتسم هؤلاء الرزق والعمل مع أهل الحميدية، واقتسم الأخيرون معهم مساعدات الجهات الإغاثية، لكنهم ظلوا معزولين عن الريف «العلوي» المحيط وعن مدينة طرطوس، وتعرّض كثير منهم للاعتقال وربما التصفية في السجون في ظل صمت مطبق. هنا بالضبط يمكن لنا أن نتجه للحديث عن حكاية تأبيد المذابح، إذ تمكن النظام السوري لاحقاً من استعادة السيطرة على كامل منطقة تلكلخ والزارة والحصن من خلال اتفاق مصالحة في تلكلخ أولاً، ثم معارك طاحنة واجتياح في الزارة والحصن، لكنه لم يسمح لأبناء الزارة والحصن بالعودة إلى ديارهم التي يفترض أنها أصبحت «خالية من الإرهاب».
ظل أغلب هؤلاء يعيشون في الحميدية ومحيطها، في تجمعات ومراكز إيواء مسيطر عليها تماماً، وأصبح واضحاً أن السلطات السورية تسلك معهم سلوكاً يشبه العقاب الجماعي، وعلى الرغم من اللافتة التي توجد على باب واحد من تجمعاتهم، وتحمل عبارة «شرفاء قلعة الحصن يبايعون الأسد»، والتي يمكن مشاهدتها عند المرور على طريق طرطوس-لبنان الدولي، فإن هؤلاء ما يزالون محاصرين ومعاقبين على ما فعله أبناء جلدتهم من قتال شرس للقوات النظامية.
تُعدُّ منطقة تلكلخ المدخل الجنوبي الشرقي للساحل السوري، وهي منطقة يجب أن تبقى معبراً آمناً تماماً نحو القصير والقلمون ثم البقاع حيث معاقل حزب الله اللبناني، وهنا بالضبط يمكن لنا أن نلمح شيئاً عما يقال عن التغيير الديموغرافي، لكن الهدف منه ليس تقليل عدد «السنّة» في الساحل السوري، لأن السلطات السورية لم تطرد هؤلاء خارج الساحل، وإنما طردتهم من حيث يمكن أن يشكّلوا خطراً على منطقة استراتيجية، لتترك مآساتهم مفتوحة على جميع الاحتمالات.
تكتمل صورة «تأبيد المذبحة» عند الحديث عن بانياس وريفها، «البيضا» على وجه الخصوص، هناك حيث ارتكبت ميليشيات «علوية» مذبحة مروّعة في ربيع 2013، اختيرت قرية «البيضا» وحي «رأس النبع» الملاصق لبانياس بعناية، فهي المناطق التي سبق أن تجرأ أبناؤها على تحدي النظام في قلب منطقة يهيمن مع أنصاره عليها تماماً، تم قتل عشرات النساء والأطفال فضلاً عن الرجال بدم بارد في الشوارع، ونُهبت البيوت وأُحرقت في البيضا ورأس النبع وسط ذهول الجميع، بما في ذلك قطاعات واسعة من أنصار النظام السوري.
نزح الفارّون من المذبحة إلى بانياس المدينة، وشمالاً إلى جبلة وجنوباً إلى طرطوس، لكن لم يُسمح لهم آنذاك بدخول المدينتين، فانتشروا على طول الساحل أياماً طويلة، ليسمح بعدها للأهالي بالعودة تباعاً، لكن السلطات لم تسمح بترميم البيوت التي أحرقت، فمن لم يحرق بيته عاد إليه في «رأس النبع»، ومن أحرق بيته يستطيع أن يزوره وقت يشاء، أما الترميم والسكن فممنوع.
أما البيضا فقد اختيرت لتكون درساً لا يُنسى، لم يسمح لأحد بترميم بيته، ولم يُسمح حتى لأصحاب البيوت التي لم تحرق وتنهب بعد بالسكن فيها، فبقي أهلها النازحون\المنكوبون في مزارع في المنطقة التي تعرف بـ«وطى البيضا»، أي سهل البيضا الخصب، الذي تعود ملكية أراضيه بمعظمها لأهل القرية، ظلّوا محاصرين هناك ما عدا عائلات متفرقة أسعفتها علاقاتها وثروتها في الانتقال إلى مناطق أخرى خارج البلاد وداخلها.
نُهبت القرية لاحقاً ببطء، وقُتل أو تعرض للضرب والطرد كل من فكّر بالعودة، لقد أزيلت قرية «البيضا»، أو على وجه التحديد «الأحياء السنّيّة من قرية البيضا» عن وجه الأرض، البيوت المحترقة والمنهوبة لا تزال على حالها بالقرب من الأحياء «المسيحية» التي لا تزال تضجّ بالحياة، وفوق ذلك لم تغلق مدرسة البيضا أبوابها، بقيت تستقبل التلاميذ «المسيحيين»، وكذلك «السنّة» من أبناء «البيضا».
لم توافق مديرية التربية على تسجيل أطفال «البيضا» في مدارس قريبة من أماكن تواجدهم، لذا على التلاميذ الصغار أن يواصلوا تعليمهم قرب المذبحة، يصعدون السفح من السهل إلى القرية كل يوم، يمرّون قرب المدافن الجماعية لرفاق طفولتهم وذويهم، وقرب بيوتهم المحروقة المدمّرة، وليس ثمة تفسير منطقي لسلوك كهذا سوى الرغبة في تأبيد المذبحة!
ربما ينطبق على أبناء البيضا وراس النبع الذين خسروا بيوتهم وصف أبناء المناطق المنكوبة أكثر مما ينطبق عليهم وصف النازحين، فهم يعيشون قرب بيوتهم لكنهم لا يستطيعون سكناها. لا أحد يعرف بالضبط عدد البيوت التي لا تزال محروقة ومخربة هناك، لكن تقديرات ناشطين محليين تتحدث عما يقرب من ألف منزل، وتشاركهم في هذا قرية المتراس في أقصى شرق محافظة طرطوس على بعد بضعة كيلومترات من الزارة، هناك حيث اندلعت مواجهات في خريف 2013 كان مسارها يُنبئ بتكرار ما حصل في البيضا، لكنها توقفت بموجب اتفاق لم تُعرف خفاياه بعد، وخلّفت بضعة عشرات من القتلى والبيوت المدمّرة والمحروقة، التي لا تزال على حالها حتى اللحظة.
بالعودة إلى الحميدية ومحيطها، ربما تكون تلك المنطقة المكتظّة بمزيج من أبنائها وأبناء الحصن والزارة هدفاً محتملاً لمذبحة، إذ يعيش النازحون هناك ومعهم أهل القرية في ظل المرويّات المخيفة عن مذبحة البيضا وما تلاها. ليس النزوح في البيضا والحميدية مجرد نزوح مع ما يحمله من مشكلات تقليدية، لكنه يبدو وسيلة مباشرة بيد السلطة السورية لتثبيت السيطرة والإخضاع طويل الأمد لخصومها.
النازحون «الخائفون المخيفون»
مع اشتداد المعارك خلال أواخر 2011 وأوائل 2012 في حمص وريفها وريف حماه، نزح الآلاف تباعاً من هناك إلى طرطوس واللاذقية، وكانت رحلات نزوحهم محفوفة بالخوف والاعتقالات. لا يمكن أن نعرف لماذا نزح البعض إلى لبنان أو تركيا أو دمشق وحلب، في حين فضّل البعض النزوح إلى الساحل السوري، لكن هؤلاء بدأوا يتدفقون تباعاً إلى أحياء «السنّة» وقراهم في الساحل السوري، ولاحقاً إلى الأحياء والقرى ذات الغالبية العلوية في مدينة طرطوس واللاذقية وضواحيهما والتي قبل أهلها بالسماح لهم باستئجار منازل هناك، في حين أن بعض الأرياف «العلوية» رفض سكانها ذلك جملة وتفصيلاً.
يُقيم أغلب هؤلاء اليوم في بيوت ودكاكين صغيرة متفرقة تقيم فيها عدة عائلات أحياناً، وفي مراكز إيواء خصّصتها ’وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل‘، وهي عبارة عن أبنية قديمة مملوكة للدولة، أو ساحات فارغة ومعسكرات قديمة، كما تمكن بعضهم من الحصول على أعمال متفرقة بأجور قليلة، لكن الرعب كان سيد الموقف لفترة طويلة.
عاش هؤلاء في الخوف. هم مصدر شكّ وريبة، وضحيّة اعتقالات تعسفية، ويقال دائماً إن أقرباءهم يقاتلون في الداخل، ويقال إنهم متخلفون وطائفيون يكرهون العلويين والأسد، وهم المتهم الأول في أي حادثة أمنية صغيرة، والمتهم الأول بحوادث الخطف وسرقة السيارات قبل أن يتم ضبط عصابات مرتبطة بالأجهزة الأمنية، ولكن على الرغم من ذلك لا يخرج هؤلاء من دائرة الشك والاتهام.
هم خائفون لكنهم مخيفون أيضاً. ماذا لو حمل بعضهم السلاح؟ ماذا لو فخّخوا السيارات؟ ماذا لو كانوا العمود الفقري لما يُقال عن معركة الساحل؟ لا شيء من هذا حقيقي في واقع الأمر، لكن يكفي أن يكون المرء من الخالدية أو باب الدريب أو دير بعلبة كي كون متّهماً بالعداء للدولة وللعلويين.
علاقة خوف متبادل عاشها هؤلاء لشهور طويلة، قبل أن يطغى عليها النزوح الحلبي الكبير (الذي سنتحدث عنه لاحقاً)، وما يزال يعيش معظمهم على مزيج من المساعدات والتبرعات والعمل العضلي قليل الأجر، يتعرّضون للاعتقال والتحقيق على الحواجز، وتتناقص أعدادهم؛ سواء بالعودة إلى مناطقهم كلما سنحت الفرصة، أو بالسفر خارج البلاد، أو بالحصول بمعية النازحين من حلب على أعمال تنتشلهم من حياة النزوح إلى الحياة الطبيعية في أسواق المدينتين الصغيرتين، طرطوس واللاذقية.
النازحون «الجيدون»
لا يزال اسمها «حلب الأسد» بالنسبة لكثيرين. خلال عام ونصف من الثورة أحبّ أنصار النظام في طرطوس واللاذقية مدينة حلب وأهلها الصامدين؛ هكذا كانت دعاية السلطة العلنية الشعبوية، وأما الدعاية النخبوية فهي تتحدث عن تصدي المدنية للريف الهمجي، وهذا ما كان يقوله «مثقفو الموالاة».
حلب، التي هاجمها «الريف الهمجي» بالتعاون مع «رعاع» العشوائيات، أصبحت ميدان الحرب الأكثر عنفاً في البلاد، ومن هناك نزح عشرات آلاف الحلبيين إلى الساحل السوري الآمن على شكل موجات بشرية هائلة. طرطوس واللاذقية تغصّان بالحلبيين، هؤلاء الذين جاء معظمهم هاتفاً للقائد الأسد بمعية من بقي حياً من مليشيا «آل برّي» وغيرها في حلب.
وصل هؤلاء إلى مراكز إيواء أُعدّت سلفاً لاستقبالهم، وكان نزوحهم منظماً من قبل السلطات السورية. وإذا كان هؤلاء ضمنياً يحمّلون طرفي النزاع مسؤولية نزوحهم وخراب أرزاقهم، فإنهم أكثر ميلاً للسلطة وتركيبتها، ومعظمهم حرفيون وعمّال نشيطون ومهرة، وصغار تجار تاريخيون. هذا ما يفتقده الساحل بالضبط، وهذا ما يحتاجه النظام السوري للحفاظ على تماسك اقتصاده.
عاش هؤلاء على المساعدات فترة من الزمن، لكن أعداداً كبيرة منهم انخرطت في سوق العمل. المنطقتان الصناعيتان في طرطوس واللاذقية مثلاً تعجّان بالحرفيين المهرة من أبناء حلب، الذين بدأوا يشكلون تحدياً أمام الحرفيين الساحليين حديثي النشأة، لكن أحداً لا يستطيع التعرض لهم؛ إنهم أبناء «حلب الأسد».
طغى النزوح الحلبي على مشهد النزوح العام في الساحل السوري، وشيئاً فشيئاً تراجعت المخاوف الأمنية من وجود النازحين، لتصبح المسألة الديموغرافية والاقتصادية في الواجهة. يمكن للزائر إن يذهب إلى بلدة بصيرة، شمال طرطوس، ليرى بأمّ العين المنطقة التي صارت تسمى «حلب الصغرى»، حيث الأسواق والحرف والتجارة الذكية السريعة الرابحة، وحيث يمكن للزبون أن يحصل على قطعة أثاث خشبية أرخص بزمن أقل، ليخرج كثير من العمال والحرفيين «العلويين» من السوق رويداً رويداً.
فضلاً عن ذلك، التحقت أعداد من الشبّان الحلبيين بقوات ’الدفاع الوطني‘، جنباً إلى جنب مع الشبّان «العلويين» الذي اتجهت أعداد متزايدة منهم للتطوع في الجيش والأجهزة الأمنية وقوات ’الدفاع الوطني‘ على خلفية تردّي الأوضاع الاقتصادية وتناقص فرص العمل. هكذا يستمرّ ذهاب الشبّان من الساحل السوري للحرب، فيما تواصل الماكينة الاقتصادية لنظام الأسد عملها.
النازحون «السلطويون»
أعني بالنازحين السلطويين، أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة والكبيرة المرتبطة بالسلطة، هؤلاء الذين يشكلون ركناً أساسياً من أركان النظام السوري، والذين تكشّف لبعضهم مبكراً أن مساحات شاسعة من الأراضي السورية ستخرج عن سلطة الدولة، فبدأوا بنقل مشاريعهم ورؤوس أموالهم إلى الساحل السوري. لاحقاً كان تجار حلب، شركاء الأجهزة الأمنية في الفساد والعمل الاقتصادي الزبائني الخارج على كل قانون، النموذج الأبرز لهم.
مع حملة الأسد الانتخابية، بدا واضحاً حجم تواجد النازحين السلطويين في الساحل السوري. ثمة لوحات ضخمة تحمل صور الأـسد مع توقيع فعاليات عشائرية واقتصادية من جميع طوائف وأنحاء البلاد. «عشيرة النعيم – قبائل بري – حلب وريفها» كانت صاحبة الحضور الأبرز، خاصةً في طرطوس الآمنة المطمئنة، أكثر من جارتها اللاذقية التي تدور المعارك قريباً منها، والتي تشرف عليها ذرى الجبال الوعرة التي تعجّ بالثوار المسلحين – الذين إذا ما إن قُدّر لهم نصب مدفعية ثقيلة هناك سيكونون قادرين على تنغيص حياة اللاذقية وأهلها.
لم يظهر بعد تواجد وتأثير رؤوس الأموال الضخمة، وربما يكون النظام السوري قد خسر كثيراً منها في حلب حيث اتجه عدد من أصحاب المليارات إلى تركيا، لكن رؤوس الأموال الأصغر أصبحت جزءاً رئيسياً من الدورة الاقتصادية في الساحل وطرطوس على وجه الخصوص، رؤوس الأموال التي فضّل أصحابها مواصلة العمل التجاري والصناعي حيث ليس ثمة قانون ولا إلزام بالتأمينات الاجتماعية ولا صناعات ثقيلة، حيث الاقتصاد الريعي الذي يحافظ لسوريا الأسد على تماسك عملتها وتوازنها الاقتصادي.
هؤلاء هم المدلّلون لدى السلطة، الذين يستأجرون المحلات والمستودعات بعشرات آلاف الليرات السورية التي لم يعتد عليها ملّاك العقارات الصغار في الساحل، إنه رأس المال «السنّي» الذي راهن كثيرون على أنه سيكون عاملاً حاسماً في تقويض سلطة النظام السوري، في حين تُظهر الوقائع أن قسماً منه يلعب دوراً هاماً في تماسك السلطة السورية وإضفاء «الشرعية والصبغة الوطنية» على حكمها للمناطق التي تسيطر عليها.
أعداد النازحين، والهاجس الديموغرافي والأمني
ليس ثمة إحصائيات دقيقة أو دراسات من جهات مستقلة حول النازحين في الساحل السوري. هناك أرقام وتقارير لدى ’وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل‘ و’اللجنة العليا للإغاثة‘، لكنها لا تعلن بشكل دوري وليس يسيراً الاطلاع عليها، كما أنها تفتقد إلى الدقّة والمصداقية. وهناك تقديرات من ناشطين ومنظمات أهلية ومدنية مختلفة تعوزها الدقة أيضاً. أما أوضاع النازحين الحقيقية وأعدادهم وتوزعهم، فإن استبيان كل ذلك يتطلب عملاً منظماً من لجان تشرف عليها جهات مموّلة ومحترفة ويحلّل بياناتها باحثون أكاديميون، وهو ما لا يسمح به النظام السوري لا في مسألة النازحين ولا في غيرها. وحدها السلطات السورية قد تعرف الحقائق حول هذه المسائل، ووحدها قد تكون قادرة من ثَم على استثمارها وتوظيفها.
لا تعلن الجهات الرسمية السورية إحصائياتها حول النازحين بشكل دوري كما قلنا، لكن صحفاً رسمية تحدثت مؤخراً عما يقارب خمسين ألف أسرة وافدة إلى محافظة طرطوس، وعن عدد مقارب من الأسر الوافدة إلى محافظة اللاذقية، في حين أن جهات غير رسمية تؤكد أن الأعداد تتجاوز ذلك بكثير، وتصل بعض التقديرات إلى أرقام تتجاوز المليوني نازح. ويتوزع أغلب هؤلاء على مدينتي طرطوس واللاذقية وضواحيهما، وعلى بعض مراكز النواحي والبلدات، إذ تستقبل بلدة الدريكيش في جبال طرطوس مثلاً بضعة آلاف من أبناء حلب، وعلى الرغم من التوتر الطائفي في البلاد لم تحدث صدامات أو اعتداءات على النازحين، ولم يخلق تواجدهم مشكلات أمنية تذكر.
تثير الأعداد الضخمة من النازحين في الساحل السوري سؤالين كبيرين، أولهما السؤال الأمني: «ترى هل يمكن أن يشكل هؤلاء خطراً أمنياً على النظام السوري؟»، وأما السؤال الثاني فهو السؤال الديموغرافي: «ترى هل يمكن أن يشكل هؤلاء تغييراً ديموغرافياً في تركيبة الساحل السوري بما يؤثر على مستقبله السياسي؟».
السؤالان مترابطان ومتداخلان في حقيقة الأمر، وينطلقان في سياقات مختلفة من مواقع سياسية وأيديولوجية متعدّدة ومتناقضة، وأياً تكن مآلات الصراع في سوريا، فإن من الواضح أن النازحين في الساحل السوري لن يشكّلوا في المدى المنظور على الأقل خطراً أمنياً على النظام السوري، لأنهم منزوعو الأظافر تماماً، ولأنهم في مجملهم فرّوا من حرب لا يستطيعون أو لا يريدون خوضها.
أما عن السؤال الديموغرافي، فيمكن القول إن أعداد «السنّة» في الساحل السوري اليوم باتت تساوي أو تفوق أعداد «العلويين»، وهذا قد يقلق شرائح من الأخيرين، يُقلق على وجه الخصوص الشرائح التي تحمل حلم تأسيس «الدولة العلوية»، وهي شرائح قليلة العدد والتأثير. لكن لا يبدو أن هذا التفوّق العددي يقلق النظام السوري، هذا ما يظهره حتى الآن سلوك مؤسّساته وأجهزته الأمنية حيال النازحين.
أعمال الإغاثة في الساحل السوري
بدأت أعمال الإغاثة في الساحل السوري مع وصول أول العائلات من منطقة تلكلخ في الشهر الخامس من عام 2011، وتواصلت مع تدفّق المزيد من النازحين جرّاء اشتداد المعارك في أنحاء البلاد، وقام المجتمع الأهلي بعبء الإغاثة في بداية الأمر، في ظل تجاهل رسمي، وقامت كل طائفة باحتضان نازحيها؛ وهو ما كان تكثيفاً لتهتك النسيج الوطني السوري وغياب المواطنة.
دخل الناشطون المدنيون أيضاً على خط الإغاثة على نحو سرّي وغير منظم في الساحل السوري، حيث قامت مجموعات من الشبان والشابات المناهضين للنظام بتقديم مساعدات محدودة وغير معلنة للنازحين من حمص وريفها على وجه الخصوص، وقام النظام باعتقال أعداد منهم على خليفة نشاطاتهم ومن بينها الإغاثة، والتحقيق معهم بحجّة السؤال عن مصادر التمويل.
مع اندلاع معارك حلب في خريف 2012، بدأ النزوح الجماعي الكبير إلى الساحل السوري، ودخلت الجهات الرسمية على خطّ احتواء أزمة النزوح وأعمال الإغاثة. تم تحديد مراكز إيواء لتجميع النازحين فيها على نحو مؤقت أو دائم، وتم إيكال مهمة الإغاثة لـ’الهلال الأحمر العربي السوري‘ بإشراف ’وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل‘ و’اللجنة العليا للإغاثة‘، ودخلت ’الأمم المتحدة‘ شريكاً رئيسياً مع المؤسسات الرسمية في أعمال الإغاثة عبر ’الهلال الأحمر‘ حصراً وفقاً للبروتوكول الموقع مع الحكومة السورية.
وجهت السلطات نداءً للجمعيات الأهلية المرخصة كي تشارك في أعمال الإغاثة، وشاركت الجمعيات ذات الطابع الأهلي والمذهبي والثقافي (الجهات الكنسية، الجمعيات الجعفرية والإسلامية، فروع ’جمعية العاديات‘ وغيرها) في أعمال الإغاثة بناءً على موافقات من محافظي طرطوس واللاذقية، وعانت ولا تزال تعاني أعمال الإغاثة من جميع أمراض البيروقراطية والفساد والتسلط الأمني والتوظيف السياسي.
مرة أخرى، فإنه لا سبيل إلى استقصاء مسارات توزيع المساعدات وحجم الفساد والنهب فيها، لتحلّ المشاهدات العيانية محلّ البحث والاستقصاء العلمي. ويمكن تسجيل ثلاثة ملاحظات رئيسية بهذا الصدد:
1- يتم توزيع كميات كبيرة من المساعدات المخصصة أصلاً للنازحين والمنكوبين والمتضررين على عوائل ضحايا القوات المسلحة والأجهزة الأمنية وقوات ’الدفاع الوطني‘، ولا يعني ذلك أن هؤلاء ليسوا بحاجة للدعم والمساعدة، فأغلبهم من الأطفال والنساء الذين فقدوا مُعيلهم، لكن ذلك يعني أن السلطات السورية تقوم باستخدام جزء من المساعدات الدولية المخصصة أصلاً للمنكوبين والنازحين في تأمين احتياجات جهات يفترض أن تتكفل هي باحتياجاتها. هنا يقوم النظام السوري بوضوح وبشكل علني باستغلال المنظمات الدولية ومأساة النزوح للتخفيف من العبء الاقتصادي لعملياته الحربية.
2- في المرافئ، حيث يتم تفريغ حاويات ضخمة تحتوي المساعدات والمواد الإغاثية المقدمة من قبل ’الأمم المتحدة‘، تأتي سيارات تابعة للأجهزة الأمنية بشكل علني وواضح، وبمعرفة الموظفين المسؤولين العاجزين عن فعل شيء، وتقوم بالاستيلاء على كميات من المساعدات لصالح ضباط وقادة الأجهزة الأمنية.
3- يتم توزيع المساعدات بطرق بدائية ومتخلفة وفي ظروف غير لائقة في كثير من الأحيان، كما أن هناك شرائح في حاجة ماسّة للمساعدة يتم استثناؤها أو التقليل من حصصها، وخاصة المنكوبين المشار إليهم فوق في فقرة تأبيد المذابح، هؤلاء الذين لا تُقَدَم لهم مساعدات تذكر من الجهات الرسمية وشبه الرسمية.
ولعل الإعلانات المتكررة من قبل مسؤولين دوليين وجهات مختلفة عن استيلاء النظام السوري على نسبة كبيرة من المساعدات الدولية المقدمة يأتي تأكيداً للملاحظات الثلاث المذكورة أعلاه، وهو أمر في غاية الخطورة، حيث تبدو المنظمات الدولية كما لو أنها شريك غير مباشر في تمويل نشاطات السلطات السورية، بما في ذلك تأمين جزء من احتياجات العمليات الحربية، على وجه الخصوص إزاحة جزء كبير من عب تأمين احتياجات عائلات المقاتلين عن كاهل النظام السوري.
في هذا السياق ثمة تجربة إغاثية بالغة الأهمية عاشها الساحل السوري خلال عام 2013 على وجه الخصوص، إذ استغلت جهات مدنية تحمل حلم المواطنة والعيش المشترك النداءات الموجهة من قبل السلطات للمساعدة، وانخرطت عبر الجمعيات المرخّص لها في الأعمال الإغاثية، وعملت على التحرك في الفضاء المتاح لها للتوجه إلى فئات محرومة ومنكوبة، وتم تسيير عدّة قوافل إغاثية بالاعتماد على تبرّعات محلية إلى بانياس في أعقاب مذبحة البيضا ورأس النبع، وإذا كان واضحاً عدم رضا السلطة عن هذه التحركات، فإنها لم تكن بصدد قمعها. كذلك اتجهت هذه الجمعيات الأهلية ذات الطابع المدني –إذا صحت التسمية– إلى النازحين والمنكوبين في مناطق مختلفة من الساحل السوري، وبدا كما لو أنها تعمل خارج فلك السلطة السورية وضوابطها وتوجيهاتها.
اتبعت السلطات السورية وسائل غير صدامية في معالجة هذه الظاهرة ذات البعد التطوعي المدني المستقل: استداعاءات أمنية وتدخلات غير مباشرة ومحاولات لفرض الرقابة، انتهت في أواخر عام 2013 بسحب التراخيص الممنوحة لبعض هذه الجهات بالعمل، حيث صدر تعميم عن وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل يمنع على سبيل المثال فرع ’جمعية العاديات‘ في طرطوس من العمل في الشأن الإغاثي.
لم يكن الأشخاص الذين اتجهوا إلى هذا النمط من العمل مناهضين للنظام السوري، لا أعني على مستوى المواقف الشخصية في هذا السياق، بل أعني على مستوى الخطاب والعمل، فقد كانوا عبر صفحاتهم على الفيسبوك يعملون في العلن ويقدمون خطاباً شديد الحيادية، واتجهوا للحديث عن ضرورة مساعدة الضحايا بصرف النظر عن توجهاتهم وانتماءاتهم، كما أعلنوا عن حملات لتقديم المساعدات لعوائل ضحايا الجيش النظامي السوري والعوائل المنكوبة في البيضا والمتراس وغيرها على حدّ سواء، على أن انتقال هذا الأمر من الخطاب إلى السلوك الفعلي على الأرض ربما يكون هو الذي دفع السلطات السورية إلى محاولة إجهاض عملهم بشكل غير مباشر، وبعيد عن سياسة الصدام والاعتقالات.
خاتمة
هي ورقة بحثية متواضعة حول مسألة النزوح في الساحل السوري، ليس حول أوضاع النازحين ومآساتهم الإنسانية على وجه التحديد، وإنما تهدف هذه الورقة في الأصل إلى فتح الباب نحو المزيد من البحث في المجتمع السوري وحركة أفراده وجماعاته، والمزيد من البحث في علاقات السلطة وتركيبتها في سوريا، ويصطدم البحث في مجالات كهذه بعوائق أولها الطبيعة الأمنية للنظام السوري، واستحالة تنفيذ بيانات واستطلاعات ودراسات ميدانية، ومن ثم فإنها تعتمد المشاهدات المباشرة والتواصل الحيّ مع أفراد وعائلات من النازحين، وتعتمد تقاطع المعلومات الواردة من جهات إغاثية مختلفة وناشطين محليين.