حركة متثاقلة بطيئة للسيارات على أوتوستراد المزة، أحد أكثر شوارع العاصمة نشاطاً، بعضها يحاول ايجاد مخرج للهرب من الاختناق المروري إلى أحد الشوارع الفرعيّة مغيّراً خط سيره، والبعض الآخر تفرض عليه وجهته السير خلف ركب السيارات المشاركة في المسيرة التي تقودها سيارتا الهَمَر المعروفتان لسكّان العاصمة دمشق، المسيرة الداعمة للرئيس الحالي بشار الأسد في الانتخابات الرئاسية اليوم.
لا تختلف حياة الناس اليومية في دمشق كثيراً في هذه الأيام عنها في الأيام الاعتيادية الأخرى خلال العام السابق، فما زالت أصوات المدافع والدبّابات تُسمع بشكل واضح، مزلزلةً معظم أرجاء العاصمة، وما زالت القذائف تتساقط على المناطق الآمنة المتاخمة لمناطق الاشتباك على أطراف العاصمة، جنوباً وشرقاً.
«نحنا شو جايينا من هالانتخابات لك عمي؟ م كلنا منعرف مين رح يربح سلفاً [في إشارة مستترة إلى بشار الأسد]، لو بيوفّروا ع حالهن حق هاللافتات يلي ما تركوا شارع ما علقوها فيه، أو يا أخي يعطونا حقها إذا مستغنايين عنها، كانت بتنحل مشاكلنا نحنا النازحين كذا سنة لقدام»، هكذا أجابني «أبو بكري»، عامل البوفيه في أحد المراكز غير الحكومية المستحدثة في دمشق، بعد سؤاله عن رأيه في الانتخابات القادمة، وهو أحد النازحين من منطقة جوبر، التي تشهد حالياً اشتباكات عنيفة بين قوات ’الجيش الحرّ‘ من جهة، وقوات الجيش النظامي وشبّيحة الدفاع الوطني من جهة أخرى.
يكاد لا يخلو أصغر شارع من شوارع دمشق أو أي ساحة من ساحاتها من لافتة أو لافتتين على الأقلّ، علماً بأن أحد الشوارع الرئيسية يحوي وحده ما لا يقل عن عشرين لافتة وصورة مختلفة، تدعو إلى انتخاب أحد المرشحين الرئاسيين، تشكل الغالبية العظمى منها صورة بشار الأسد، وشعار حملته الانتخابية التي أطلقها منذ ثلاثة أسابيع تقريباً «سوا»، بينما تتناثر هنا وهناك صور وشعارت انتخابية للمرشحين الاخريين.
«القوة بالمستضعفين»، «سوريا لفلسطين»، «التغيير ضرورة»، «سوريا لمين بيعمرها» هي شعارات أول المتقدّمين للترشح للانتخابات الرئاسية السورية وعضو مجلس الشعب عن مدينة حلب ماهر الحجّار، تقرأها في اللوحات التقليدية التابعة للشركات الإعلانية الرسمية على جانبي بعض الشوارع الرئيسية؛ الشعار في منتصف اللوحة، وفي الأسفل اسم المرشح ماهر الحجار دون صورته الشخصية. ماهر الحجار الذي أجرت معه قناة الإخبارية السورية التابعة للحكومة السورية مقابلة مطوّلة، للاستعلام عن حملته الانتخابية، هذه المقابلة التي لم تخلُ من الإهانة والقدح، عبر أسئلة وتقارير تهزأ من شخص يفترض أن تكون له فرصة اعتلاء قمة الهرم السياسي السوري، وهذا الذي أدى لأن يقول المرشّح ماهر الحجّار لمقدّمة البرنامج بعد أن بلغ حد استفزازه درجة عالية: «هذا إعلام سلطة وليس بإعلام وطني».
«هذه ليست مقابلة تلفزيونية، هذا تحقيق مخابراتي هزلي ومُهين ويجب إقالة المسؤول عن إعداد التقارير المجرّحة وتوجيه الأسئلة للمرشح»، هكذا قال رياض، وهو مهندس يعمل في إحدى المؤسسات التابعة للحكومة السورية، ويصف نفسه بأنه مؤيد للدولة السورية.
وأضاف رياض، عند سؤاله عن رأيه في الانتخابات وعن الداعين للمقاطعة لها: «أنا برأيي إنو كل السوريين لازم يشاركوا، وحتى يلي ما عاجبو أي حدا من المرشحين التلاتي، لازم يروح يحطّ ورقة بيضا مشان ينكتب بالتاريخ إنو كانت نسبة المشاركة بأول انتخابات سورية بالتاريخ الحديث كتير عالية، ومن أعلى نسب المشاركة بالمنطقة، بغضّ النظر عن الفائز والمرشحين وحتى عن نزاهة الانتخابات».
يقول نبيل، وهو طبيب مقيم في إحدى المشافي التابعة لوزارة الصحّة السورية، عند سؤاله عن رأيه بالانتخابات: «مسخرة»، وبعد هدوء للحظات يضيف: «لو كان عندي ثقة 1% بالنظام السوري، ولو ماني متأكد إنو كل هالانتخابات كذب بكذب، وحتى المرشحين –غير بشار طبعاً– آخدين إذن من أفرع الأمن، كان ممكن شارك وكنت ممكن فكر انتخب ماهر الحجار، بس اللعبة مكشوفة بالنسبة إلي».
أما المرشح الآخر، د. حسان النوري، فهو عضو سابق في مجلس الشعب عن مدينة دمشق، ووزير سابق، رجل أعمال واقتصاد وصناعة، وهذا ما يمكن استشفافه ببساطة من شعارات حملته الانتخابية، والمنتشرة على اللوحات الإعلانية الكبيرة في بعض شوارع دمشق، وتتحدث في غالبيتها عن الاقتصاد الحرّ الذكي، والإصلاح الاقتصادي، ومحاربة الفساد.
يقول أبو ممدوح، أحد أصحاب المحلات التجارية في سوق مدحت باشا في دمشق القديمة: «شوف يا عمو إذا الشام (دمشق) بيصحّ لها تنتخب بنزاهة، كلها بتنتخب النوري»! سألته: لماذا تعتقد ذلك؟ أجاب «لأنو يا عمو النوري ابن سوق، بيعرف مشاكلنا نحنا التجار وبيعرف كيف يحلّها لأنو مننا وفينا». لكن ماذا يقصد أبو ممدوح بـ«إذا بتنتخب بنزاهة»؟ أجاب مبتسماً: «إنو لا الانتخابات نزيهة ولا ظروفها نزيهة، ولك حتى نحنا ما ح ننتخب بنزاهة، فأكيد نتيجتها ما ح تكون نزيهة».
يكفي التجول لبعض الوقت في شوارع دمشق لتعرف من هو المرشح الذي سوف يفوز في الانتخابات القادمة. صور بشار الأسد والعبارات الداعمة له ولحملته في كل مكان، على واجهات المحلات، واللافتات الطُرُقية وحتى على بعض أبنية مؤسسات الدولة، الأمر الذي وصفه ممدوح، وهو محامٍ يعمل في مكتبه الخاص في دمشق: «هذه ممارسات غير دستورية ومخالِفة للقانون»، وأضاف: «يتذرع النظام السوري بالدستور وسيادته عندما تقتضي حاجته لذلك، وفي الوقت نفسه يعمل على أن يضرب بنوده عرض الحائط عندما تقتضي حاجته لذلك، دون أن يجرؤ أحد على المساءلة، حيث ينصّ الدستور السوري الذي صوّت عليه السوريون تحت وصاية النظام بتاريخ 26\2\2012 على حتمية حياد كافة مؤسسات وقطاعات الدولة تجاه جميع المرشحين الرئاسيين، والوقوف منهم جميعاً على مسافة واحدة، ومن خلال جولة واحدة في شوارع دمشق تستطيع أن تُحصي العشرات من هذه المخالفات، وغيرها كثير. وقد أشار المرشح د. حسان النوري إلى هذه النقطة، في مقابلة أجرتها معه صحيفة الوطن السورية بتاريخ 19\5\2014، ولكن لم تجد آذاناً صاغية، لا من الحكومة السورية، ولا من اللجنة الدستورية العليا المشرفة على الانتخابات».
يتم تذييل معظم اللافتات الطرقية الداعمة لبشار الأسد بأسماء أشخاص أو شركات تعمل في دمشق وفي كنف النظام السوري وبمباركته، العديد من شركات الصرافة والمقاولات وغيرها، إضافةً إلى أسماء أشخاص بعينهم، دون خوف من انتقام الأطراف المصارعة للنظام في حال سقوطه. هذا الأمر ندر خلال الثلاث سنوات السابقة، حيث كان من الملاحظ أن الإمضاء على اللافتات المؤيدة للنظام السوري سابقاً يكتب بأسماء عامة، مثل: «تقدمة حي كذا»، أو «أهالي قرية كذا»، الأمر الذي فسّرته ليلى، الطالبة في كلية الفنون الجميلة في دمشق بما يلي: «شي طبيعي!! هدول العالم انتهازيين! ضلوا ساكتين وناطرين يتفرجوا عالقتل والتدمير وما سجّلوا ولا موقف علناً، وهلأ لما شافوا إنو كفة الميزان مالت لصالح جهة معينة صاروا معها وصاروا يباركولها، وحتى إذا بالمستقبل بترجع بتميل الكفة للجهة المعاكسة ما عندن مشكلة بيرجعوا بيغيروا مواقفهن».
صفحة بيضاء كتب في وسطها «سوا» وفي الأسفل إمضاء بشار الأسد وتوقيعه، هذا هو شعار الحملة الانتخابية التي أطلقها بشار. عدد كبير جداً من الصور تملأ شوارع دمشق؛ صورة لليرة السورية وهي تنبت كعشبة خضراء من التراب وإلى الأعلى قليلاً كتبت عبارة: «سوا الليرة بتقوى»؛ وكذلك صورة كبيرة تمتد على كامل مبنى ’اتحاد طلبة سوريا‘ في جامعة دمشق، يلتحم فيها السلاح مع أدوات البناء، ومعدّات التصوير، والمعدات الطبية، وتنتهي بريشة قلم وكأنها قطعة واحدة، وكتب إلى جانبها: «سوا».
قالت ليلى عند سؤالها عن رأيها بحملة سوا: «هي أول مرة بحسّ إنو النظام بيشتغل باحترافية على الوتر العاطفي للناس، الصفحة الرسمية لحملة سوا على الفيسبوك عم تنزل صور حلوة لبشار مع عيلتو وولادو، وصور إلو وهو عم يحضّر عملية جراحية بمشفى تشرين باللاذقية، يعني عم يحاولو يصوروه إنو هو ابن الشعب ومنو وفيه».
سألتها: ح تشاركي بالانتخابات؟ ومين رح تنتخبي؟
«إذا القرار إلي أنا ما بدي شارك، بس ما بعرف إذا بالجامعة ح يجبرونا إنو نشارك أو لا، أما مين رح انتخب في حال صار هالشي، فهاد سرّ»، أجابت مبتسمة.
الحاج أبو محمد، وهو يعمل كفنّي تصوير شعاعي في أحد المشافي التابعة لوزارة الصحة في دمشق، يجد فترة الانتخابات مسلّية ومريحة، وعند سؤاله عن السبب يقول ضاحكاً: «شو بدنا أحسن من هيك! يوم يلي بيجي أمر إنو بدنا نطلع مسيرة داعمة للرئيس (يقصد بشار الأسد)، بياخدونا بالفانات من بداية الدوام وبيعملوا تفقّد لأسمائنا بالفان، وبس يخلصوا بينزل محسوبك من الفان وبيفركها عالبيت، وبكون كسبت يوم عطلة زيادة، شو بدي أحسن من هيك؟».
سألته: مين رح تنتخب بالانتخابت يا حجي؟
فأجاب هامساً: «إذا الواحد رايح ع الانتخابات ومقرّر ينتخب مرشح تاني غير بشار الأسد، بس يمسك القلم وشي إنو بدو يكتب، بيصير بيهز القلم بإيدو وبيطّلّع فيه وبيقلو: دير بالك هه، لا تغلط»!
لا مظاهر لحياة إنسانية في هذه المدينة؛ صور متناثرة لأشخاص تتنافس في توزيع ابتساماتها الصفراء في الأرجاء حولك، وشبح الموت يفرض ظلاله على الجميع، رغم المحاولات العديدة من البشر هنا لتجاهله. عدد كبير من اللافتات كتب عليها «نعم لبشار الأسد» وبإمضاءات مختلفة، ولم يجد هؤلاء من يخبرهم بعد بأن ورقة الاقتراع هذه المرة ستكون مختلفة عن أوراق المبايعات التقليدية والحصرية بنعم أو لا؛ الأوراق التي اعتادها السوريون خلال الأربعين عام الماضية! «نعم» لن تكون كافية هذه المرة بل أصبحوا بحاجة إلى كتابة الاسم كاملاً عوضاً عنها.