لا يتطلب الوقوف ضد النظام السوري نزعةً ثأرية، ولا طموحات وأحلاماً سياسية، ولا رؤيةً متماسكةً تجيب على السؤال الأزلي «كيف تصبح حياة البشر أفضل؟». ربما يتطلب الأمر واحداً من هذه العناصر كي ينحاز المرء بوضوح للثورة السورية، أو كي يتبنّى مطلبها بإسقاط النظام أو يدعم خيارها بحمل السلاح ضد القوات النظامية وحلفائها؛ أما رفض نظامٍ كالنظام السوري وعدم الانحياز له، فإنه يبدو موقفاً يحتاج لأن يكون المرء إنساناً، إنساناً فحسب.
يبدو هذا القول صحيحاً إلى حدّ بعيد من وجهة نظر شخص خَبِرَ التعذيب في أقبية الأجهزة الأمنية، أو شخص رأى بأمّ العين إطلاق الرصاص الحيّ على الأجساد العزلاء للمتظاهرين السلميين، كما يبدو صحيحاً تماماً من وجهة نظر بعض دعاة السلام الذين يدركون حجم العنف الذي استخدمه ويستخدمه النظام في تأسيس بنيانه والدفاع عن هذا البنيان، وكذلك من وجهة نظر ديمقراطي ليبرالي يعرف مقدار الضرر الذي تلحقه الديكتاتورية بالإنسان الفرد، ويعرف مقدار شمولية النظام السوري وفاشيته.
لهذا، ومعه عوامل أخرى من بينها حجم الضخّ الإعلامي، وأحقية الحلم المخنوق بالخلاص من الطغيان، يبدو أن أغلب الثوار السوريين، وأغلب أنصار الثورة وجمهورها ومثقفيها وكتابها وصحفييها، لا يرون جمهور النظام السوري، أعني لا يرونه جمهوراً من البشر متعدّدي الثقافات والأهواء والمصالح، وإنما يرونهم أنصار النظام فحسب، أنصار الطاغية القاتل المجنون الذي لا يرى غضاضة في أن يحكم بلاداً مدمرة سُفكت دماء أهلها واستبيحت كراماتهم وأهينت مقدساتهم. يبدو أنصار الطاغية أمثالاً له في مخيال أغلب أنصار الثورة السورية، يبدو كما لو أن أنصاره مجموعة من القتلة المأجورين أو اللصوص، مجموعة من الأفراد الذين، كما زعيمهم، لا يرون غضاضة في أن تُحكم البلاد بالقهر والموت والدم؛ أفراد يوافقون على نشر الخراب والموت لأسباب لا يعلمها إلا الشيطان، شيطان الطائفة أو المصالح أو الطبقة.
واليوم، بعد الانتخابات الرئاسية في سوريا الأسد، يبدو السؤال عن سبب حماسة أنصار النظام للمشاركة في هذه الانتخابات مشروعاً تماماً. تُرى لماذا ينتخب هؤلاء قاتلاً متسلسلاً ساق أبناءهم إلى الموت كما ساق خصومه؟ وسواءً كان الأسد قاتلاً أم مقاتلاً يخوض حربه، هل هؤلاء مجانين كي يشاركوا بهذه الجدّيّة في مسرحية هزلية كهذه؟ ألا يعرف الأطفال حتى أن هذه ليست انتخابات حقيقية؟ ثم لماذا يشتمون ماهر الحجار وحسان النوري مع أنهم يعرفون أن الرجلين مجرّد دميتين يحركهما النظام السوري؟ أما إذا كانوا لا يعرفون أن الأمر كله تمثيلية، فهذا ربما يعفيهم من تهمة الإجرام، لكنه يلصق بهم تهمة الجنون! هل يمكن أن يصاب ملايين البشر بالجنون دفعةً واحدة؟
لا يبدو أن أحداً قادر على تقديم إجابات جدية على تساؤلات عفوية كهذه، كما أن الإجابة تبدو مستعصية في ظل انقطاع التواصل بين الفريقين: لا يستطيع صحفيو الثورة ومثقفوها وكتابها اختراق مجتمع الموالاة ونقل ما يدور في دواخل أفراده تماماً، كما أن الجميع ينتظرون سقوط النظام على أمل «اجتياح مجتمع الموالاة»، اجتياحه عسكرياً أو سياسياً أو إعلامياً، في ظل القناعة باستحالة تغيير سلوك وخطاب أنصار النظام قبل سقوطه، أما البحث والتواصل والتثاقف فهو منقطع تماماً، ومما لا شك فيه أن سلوك النظام السوري وطبيعته الأمنية المرعبة هي الأسباب الرئيسية وراء ذلك، لكنها ليست الأسباب الوحيدة دون شكّ.
لعل عدم امتلاك الأدوات المعرفية والمنهجية للقيام بمهمة كهذه يكون سبباً رئيسياً أيضاً، حتى أن مئات المعارضين الذين يقيمون بين أنصار النظام محتفظين لأنفسهم بمواقفهم، أو معلنين لجزء يسير منها تحت السقف الذي تسمح به الأجهزة الأمنية، يبدون منعزلين تماماً عن مجتمع الموالاة، وغير قادرين على التواصل مع أفراده لأسباب نفسية تتعلق بشعورهم بالكراهية والاحتقار والخذلان، أو تتعلق باستسهال إحالة مواقف أنصار النظام إلى صفات كـ«الطائفية» و«الفاشية» وغيرها من الصفات التي توفر على مطلقيها عناء البحث والتفكير، ذلك فضلاً عن العامل الأمني الخانق الذي يجعل الدخول في حوارات جدية أمراً مستحيلاً تماماً.
أياً يكن الأمر، فإن بين هؤلاء المعارضين المحاصَرين الذين يحلمون بإسقاط النظام أشخاصاً سيشاركون في الانتخابات خوفاً على مصائرهم وعائلاتهم وأرزاقهم، ومن هنا بالضبط يمكن لنا أن نبدأ، فالحقيقة أن أنصار النظام السوري فيهم القتلة والطائفيون والأمّيون والطيّبون البسطاء، وفيهم الأغنياء والفقراء والمُعدَمون أيضاً، وفيهم المثقفون واليساريون والإسلاميون والعلمانيون، وفيهم أيضاً معارضون سابقون لا تزال آثار التعذيب على أجسادهم شاهداً على مقارعتهم لنظام الأسد في زمن مضى.
إنها السلطة عندما تفعل فعلها في الأجساد والعقول التي تهيمن عليها، فتسوق الناس إلى الخضوع والحرب والموت، وإلى الانتخابات أيضاً. إنها ميكانيزمات السلطة التي لما يتمكن المفكرون والباحثون من فك طلاسمها بعد، إذ لقد نزل ملايين السوريين للاستفتاء على ولاية الأسد الأب الأخيرة عام 1999، مع أن طفلاً صغيراً كان قادراً على أن يعي حجم التزييف والنفاق في تلك المسرحية البائسة، واليوم تتكرر المشاهد ذاتها في كل حي ما يزال خاضعاً لسيطرة نظام الأسد، ولهذا بالضبط نجد أنفسنا مطالبين، رغم حجم الدماء والآلام التي يتسبب بها سلوك أنصار النظام، بالبحث عن المزيد من المعرفة والفهم.
نقول المعرفة والفهم وليس التبرير والتفهم، لأن سلوك التبرير والتفهم الذي تنتهجه قطاعات من المعارضين السوريين إزاء جمهور النظام سلوك غير منصف في المقام الأول، كما أنه يصبّ في خانة تبرير سلوك النظام في كثير من الأحيان، ذلك فضلاً عن أن السلوك التبريري بمجمله لا يفضي إلى إنتاج معرفة حقيقية ومن ثم فتح آفاق للتغيير، وإنما يفضي إلى المزيد من تأبيد الطغيان وإعادة إنتاجه لنفسه في كل مرة.
لقد بات ضرورياً الاعتراف بأن نظام الأسد يقوم بإعادة إنتاج نفسه، ومن ثم يكون فهم كيفية إطباق «سوريا الأسد» على خناق «شعبها» على هذا النحو المخيف شرطاً لازماً لتنفيذ مهمتين: أولاهما مقاومة عملية إعادة إنتاج النظام لنفسه حيث لا يزال مسيطراً، وثانيهما مقاومة عملية إعادة إنتاج الديكتاتورية في المناطق التي خرجت عن سلطة النظام السوري. ذلك يتطلبه الوفاء لرحلة البحث عن الحقيقة ومهمة إنتاج المعرفة دون شك، ولكن يتطلبه في المقام الأول الوفاء لعذابات ودماء مئات آلاف السوريين الذين يواجهون بشجاعة منقطعة النظير واحدة من أعتى الديكتاتوريات الفاشية التي عرفها التاريخ.