يتوقون إلى الحياة، لا شيء أكثر ولكن ليس أقل. على أنّ توق السوريين إلى الحياة لا يعني شيئاً البتة، عُذراً! لكنّها الحقيقة، فلندع جانباً بكائية التغريبة السورية الراهنة، حدث هذا من قبل، ولسوف يحدث من بعد، سوف يُترك الناس ليلَقوا مصائرهم البائسة، لا أحد يعبأ البتة، ربّما يبكي أحدهم هنا، أو يبكي آخرٌ هناك، لكنّ حين تأتي ساعة الحقيقة، ينكفئ البشر كعادتهم دائماً إلى ذواتهم، أطفالهم، أسرهم، منافعهم الخاصة، هم يتوقون إلى الحياة أيضاً، ولكنّ إلى حيواتهم لا حيوات ركامٍ متعبٍ آخر من البشر جوارهم.

الأمر والحال هذه أنّ حياة مصطفى، بائع البسكويت الصغير الذي خاض التحول السوري كاملاً، طفل… بائس، فأشلاء. هذه الحياة لم تكن لتعني أحدهم بشيء. لقد توّج الطاغية حياة الإفقار، الإقصاء، التهميش، التجويع، الحصار، بمشهدية التحول الأخير إلى أشلاء. ولعل التحول الأخير لمصطفى هو الأهون في سلسة تحولاتٍ لطالما عبرها قطاع واسع من السوريين منذ الاستقلال… سوف يبكي الأشقاء اليتامى مُعيلهم، من ثم سوف يخوض شقيقٌ آخر طور التحول ذاته من شبه طفلٍ إلى بائسٍ كامل، لا بلوغ في هذي البلاد على أي حال، مثلما لا طفولة.

على أنّ ما يعنينا من أمر مصطفى هو أشقاؤه اليتامى، ومثلهم ملايين من السوريين المعذّبين، ما العمل؟ ولماذا؟ وإلى أين ومتى؟ سيقول أحدهم إنّه لا يجوز لنا التسلّق على عذابات الناس، ولا يجوز أن نحشرهم في هذا الجدل الذي نخوضه كل يوم عن طريقنا إلى الحل، ولا أن نصادر مصطفى لصالح رؤيا بعينها. دعوه هناك!، يقول بعضهم، ودعونا نحلّ خلافاتنا هنا… ربّما! وربمّا أنّ مصطفى عاش ومات هناك، إِذْ لا فرق بين البؤسَين على أي حال، لأننا لم نجد الحلّ هنا.

لقد كانت السياسية، بوصفها التظهير البراغماتي لقاعها المعرفي، الفاعل الأكثر تأثيراً في حياة الناس أبداً، تسوق توقهم الطبيعي في مساراتها التي تخطها معرفة النُخب. مصطفى هذا ليس حالة فريدة في تاريخ النوع البشري، حاله حال مارك أو كلارا أو جوزيفين في أوطانٍ أخرى، صنعتها سياسات أخرى، نُخبٌ أخرى، ومصائر أخرى بالتالي لأناس آخرين. يشبه الأمر بهذا المعنى حيواتٍ موازية يعيشها الأفراد ذاتهم في أزمان موازية تخطّها لهم نُخبهم، كان لها أن تكون أجمل أو كان لها أن تكون أكثر بشاعةً، الأمر يعني مصطفى أو من بقي من أشقائه وإن كانوا لا يلوون على أمرهم من شيء على أي حال.

مصطفى، حياته، أو لنقل مشهدية التحول الكارثي التي كان عليه أن يخوضها تدفع على التساؤل: ماذا لو..؟ ماذا لو لم يخض السوريون غمار هذه الثورة؟ ربّما يحلو للطاغية أن نطرح على ذواتنا أسئلة كهذه بين الحين والآخر، أن نقول لذواتنا وللناس أن الخروج الأول على الطغيان كان خطأً في طرحه المعرفي. ربّما كان من الأفضل لو أننا قلنا لأمثال مصطفى أو أبيه في درعا أن يعودوا إلى البيوت، أن يتركوا مصطفى الآخر في درعا في عهدة عاطف نجيب، إذ لا بديل أفضل عن عاطف نجيب في هذي البلاد على ما يقوله لنا بعض مثقفينا الكبار…، أو ربّما إنّه كان من الأفضل لوالد حمزة الخطيب بوصفه التجلي الآخر لمصطفى أن ينسى، لا لشيء إلا لأجل شقيق حمزة الذي بقي حياً.

هل كان أحدهم ليصغي لو قلنا هذا؟ أغلب الظن لا. ذلك أن المعرفة في صيغتها التي قضت مع اندلاع الثورة في سوريا كانت قد غدت أصلاً شيئاً من الماضي، شيئاً خَرِقاً وعاجزاً عن البقاء. لم يكن للسوريين الذين خرجوا بهذا المعنى خيار بألا يخرجوا، لا من أجل الحرية أو الكرامة ولكنّ لأنّ الحياة كما صاغها الطاغية ومعه نُخبه قد غدت عصيّةً على التحمّل، خرجوا مُرغمين إلى الموت ويحدوهم أملٌ غائمٌ بحياةٍ أفضل.

لكنّ مهلاً، ما هو حقاً البديل الذي ساقت فيه طروحاتنا المعرفية حياةَ الناس؟ حسناً! في حياةٍ موازية يبقى فيها مصطفى يخوض غمار التحول السوري البائس في سياق الطروحات التي لمّا تكف بعض النُخب السورية عن تقريع الناس على خروجهم عنها، وهو خروجٌ ثانٍ لا يقل حراجةً عن الخروج الأول، خرجوا عن سلمية الثورة وحملوا السلاح. ربّما كانت الحياة لتكون أجمل، أقل كارثيةً ربّما، لو لم يحمل السوريون السلاح؛ لكن محكومية مصطفى بالقتل كانت قطعيةً لا محالة، ولكنّ ربمّا ليس على عجل، ربّما بعد حين، برصاصةٍ طائشة فرضها الطاغية على جيشنا الوطني، العربي السوري. عدا هذا، كان لمصطفى الفقير أن يتابع بؤسه بصمت، بلا صخب، كان له أن يعيش كل يوم أسئلة الحياة الأساسية فيما نخوض حواراتنا الهادئة المحكومة بسقف الوطن. هل سنأكل هذا اليوم يا مصطفى؟ ربّما كان ليسأل شقيق ضاق ذرعاً من الجوع بعد أن وضع جانباً كل تساؤلٍ آخر عن هذا الذي يحدث. قبل الثورة والقتل كان ثمّة الجوع والإقصاء والتفقير، لم يكن ثمّة حريةٌ أيضاً، ولا عدالة أو كرامة، وكان على مصطفى أن يشعر بالسعادة رغم كل شيء لأنّه حيٌّ يُرزق، كان عليه أن يحمد الله على نعمة الإسلام، وأن يحمد الله لأننا لم نزل بطبيعة الحال على عداء مع إسرائيل.

ثمّة إذاً حياة مصطفى الراهنة أيضاً، أو تشظّيه الأخير إلى أشلاء، ذلك أننا قد قدمنا للرجل –وهو جديرٌ بهذا اللقب أكثر من معظمنا– خياراً آخر، قدمنا له مناطق محررة من النظام وجيشه «الوطني جداً»، قدّمنا بستان القصر ومناطق أخرى يحيا بها الناس أو من بقي منهم تحت رحمة عجزنا عن إقناع الغرب أن توق ناسنا إلى الحياة لن يكون إلا خيراً يعود على الجميع! لا يكفي القول هنا إن معادِل مصطفى في الغرب، لنقل كلارا في نيوجرسي أو مايكل في ميونخ، أو جلعاد في حيفا، لن يتأذَوا من جراء توق مصطفانا إلى الحياة، بل كان لا بد من القول إن حياة هذا البائس سوف تجعل حياتهم أجمل إن هي غدت أجمل.

بمعرفتنا التي تنحو إلى الماضي، والتي تنوء عن الإقرار بعجزنا عن تقديم بدائل واقعية لمصطفى عن عاطف نجيب، تركناه هناك في بستان القصر مع عاطف نجيب، لا بل مع اثنين، واحدٌ من فوق يلقي عليه الخلاصة الأخيرة لطروحات العروبة والوطنية السورية، وآخر من تحت يرتدي عباءة وربّما يخاطب الناس من وراء حجاب، ويريد لمصطفى وأشقائه أن يعودوا إلى الله بمعناه الثيوقراطي البائس. على أنّ المعضلة أن مصطفى محكوم بالإدراك الذي أدركه من قبله مارك وكلارا وجلعاد، أنّ الله لم يعد لديه ما يقوله للسوريين أو سواهم، وهو محكوم لذلك بالقتل سواءً قتله عاطف نجيب من فوق أو قتله عاطف نجيب من تحت. القتل هو القتل بأية حال.

عندما ينغلق الواقع على رؤى المستقبل، ينحو المرء إلى الحلم، ربّما كان ليحلم المرء بحياة أخرى موازية لطفلٍ يُدعى مصطفى لم يخرج الاحتلال –أي ما دعته نُخبه احتلالاً– من بلاده، بل بقيت فرنسا في حلب. أجزم أن الحياة كانت لتكون أجمل، كان لمصطفى أن يكون أكثر سعادةً، ربّما كان عليه حينها أن يتكلم لغةً أخرى، ألا يهتم بآخرين يناضلون لإعلاء كلمة الله، العروبة، الإسلام، أو حتى سوريا، أن يقف على الحياد حين تحتدم المعارك بين حماس وإسرائيل، أجزم أن مصطفى كان ليبقى حياً، أجزم إنّه كان في مدرسة جميلة، أجزم أنه لم يكن ليبيع البسكويت أو يضطر أن يحمد الله لأنّ أشقاءه لم يبيتوا اليوم جائعين.