وسط استقطابات كواليسيّة مُعتمة، وتسريبات «صحفيّة» هنا وهناك عن مطامع ومخطّطات الطامحين، يدخل ’الائتلاف الوطني‘ هذا الشهر «استحقاقه» الدوري في اختيار رئيس جديد له، بعد استنفاذ فرص أحمد عاصي الجربا في الحصول على ولاية جديدة إثر ولايتين نصف سنويتين متتاليتين. ثمة من يتحدّث عن سعي الرئيس الحالي لإيجاد مخرج قانوني يسمح له بالتمديد لنفسه بطريقة ما؛ آخرون ينقلون مخططات مفترضة للإتيان برئيس جديد من دائرة الجربا الوثيقة، يُدير دفّة ’الائتلاف‘ لفترة رئاسية واحدة ثم ليرشّح الجربا نفسه من جديد بعدها، على طريقة بوتين-ميدفيديف في روسيا (ونِعم المثل والقدوة، بالمناسبة)؛ فيما تذهب تكهّنات ثالثة إلى افتراض أن طموحات الجربا غير مستقرّة في اسطنبول، بل تنوي الرحيل جنوباً باتجاه غازي عينتاب، مقرّ رئاسة الحكومة المؤقّتة. هناك فرضيات أخرى عدا المذكورة. هناك ضجيج، ضجيج كبير، لكنه ضجيج صامت، أصمّ، وأبكم!
يعيش ’الائتلاف‘، ككيان سياسوي افتراضي، في واقع لا يشبه وقائع ما يجري في الداخل السوري في شيء. لا إيقاعُ تحرّكه يتناسق مع مجريات الداخل، ولا فداحة النكبات الكبرى التي وقعت على رؤوس السوريين ترتدّ في أدائه السياسي. السوريون، من يُتابع منهم أخبار ’الائتلاف‘، على موعد مع ضجيج دوري كلّما اجتمع أعضاءه لـ«انتخاب» رئيس جديد له، ضجيج يَصدر ويُسمع في واقع سريالي، ليته كان واقعاً موازياً بأقل درجات التوازي. لا أخبار عن ’الائتلاف‘ بالكاد إلا المشاحنات والخصومات والمكائد، وتغيّر اصطفافات وتحالفات أعضائه كأفراد، أو الكيانات الهُلاميّة –كي لا نسمّيها وهميّة– التي يُفترض أنها تكوّنه. يجري كلّ هذا وسط ضبابيّة ووراء كواليس مثيرة للريبة وللغضب: على ماذا يختلفون؟ على ماذا يتفقون؟ لماذا يتحالف هذا مع ذاك اليوم؟ لماذا خاصم هذا ذاك أمس؟ وهل ستعود الخصومة غداً؟
بعد أقل من شهر تنتهي ولاية أحمد عاصي الجربا الثانية، ويكون قد مرّ عام على تولّيه رئاسة ’الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية‘. لم نعلم حينها من أين أتى، فأغلبنا لم يكن قد سمع باسمه من قبل، ولا بإمكاننا –عدا موقعة الصفعة الشهيرة، وخطاب جنيف٢– تحديد ماذا أنجز خلال هذا العام. عدا دعم سعوديّ كبير يُقال إنه يتلقاه، لا نعلم شيئاً عن المؤهّلات التي يحملها كي يكون الآن، بشخصه، وبالمجموعة الغامضة التي أنشأها حوله، عنصراً مهماً، بل الأهم ربما، في المعارضة السوريّة اليوم. من اختار الجربا؟ ولماذا؟
لكنّ المسألة ليست مشخصنة، ولا تبدأ عند الجربا ولا تنتهي عنده، ولا المشكلة فقط في أنه كان مجهولاً عند السواد الأعظم من السوريين. المعارضون التاريخيون والمعروفون لم يطرحوا أداءً أفضل، ولا وضوحاً أكبر في مواقفهم، ولا في تحالفاتهم وخصوماتهم داخل العالم الموازي لـ’لائتلاف الوطني السوري‘.
معضلة ’الائتلاف‘ أكبر بكثير من منصب رئاسته ومن المعارك الدونكيشوتية الدائرة حوله. الآفة في الجوهر، في الأساس والتكوين، المبني على حساسيات الـ«ريال بوليتيك» الإقليمية والدولية، وعلى تجاذبات القوى الكبرى والوسطى ومتطلباتها، وعلى تعقيد وغموض هذه التجاذبات. لا أثر بالكاد للتباينات السياسية والأيديولوجيّة البارزة بين السوريين في خريطة «مكوّنات» ’الائتلاف‘ من أحزاب وجماعات وتحالفات، بل هناك خطوط تماسّ ملتهبة بين السعوديّة وقطر، متمفصلة على تباينات شخصانيّة لا يُفهم فرق التوجّهات والمواقف بينها. إنه تشوّه خلقي على الأرجح لا يمكن إصلاحه، على الأقل في المدى المنظور. لكن تعريض الساحة السياسيّة اليوم لمهزلة جديدة بمناسبة «الاستحقاق الرئاسي» لـ’الائتلاف‘ طامّة كبرى، في الشكل وفي المضمون.
لا تُشاهد أيّ ملامح لرغبة لدى سياسيي ’الائتلاف‘ بتجنّب المشهد البائس لـ«عمليتهم الديمقراطية» في الأسابيع القليلة المقبلة. سنقرأ الكثير عن المعارك الداخلية، بمخططات ومخططات إفشال، هجومات وهجومات مضادّة، وقد يصل يوم الاستحقاق دون أن يتمكن فرقاء زوبعة الفنجان من التوافق على حلّ. إننا، باختصار، أمام مساهمة مضافة، ولو متأخرة، للحملة الانتخابية لبشار الأسد. ليس في هذا الكلام أي رغبة في المقارنة أو المفاضلة، ولا إحالة إلى منطق «الطرفين» البائس؛ انما هو إشارة إلى فداحة أثر الصورة السيئة التي يتم عرضها أمام السوريين أولاً، وأمام العالم أجمع ثانياً: إذا كان مفهوماً أن يكون المشهد العسكري في الداخل بهذه الصورة، نتيجة العنف الوحشي الذي يمارسه النظام، وتواجد جماعات فاشيّة التكوين والممارسة مثل «داعش» وأخواتها، وأثر التوجّهات والمصالح المتضاربة لمموّلي السلاح، فما المانع في أن تتحلّى النخبة السياسية المعارضة، المقيمة في الخارج وبعيداً عن ضغط ما يجري على الأرض، بحدّ أدنى من المسؤولية، وأن تمارس حياة سياسيّة واضحة بالحدّ الأدنى، وأن تطرح خطاباتها ومشروعاتها الاستراتيجية والتكتيكية وتُسايس حولها مع الجماعات الأخرى ومع «المجتمع الدولي»؟ ألا يوجد أي هامش لأفق أوسع للتفكير والممارسة خارج الدوّامة غير المتناهية من المشاحنات الضيّقة حول الشؤون الإجرائية، أو غيرها من المسائل الثانوية؟
واقعياً، لا مجالات، في المدى المنظور، للعمل على إعادة تكوين الجسم السياسي المعارض من جديد. تعبيرات من قبيل «إسقاط الائتلاف الوطني« هي ردّ فعل غاضب ومفهوم على فداحة المهزلة التي نعيشها، لكنها لا تكفي كمشروع سياسي. أما إنشاء كيانات جديدة، موازية لـ’الائتلاف‘ ومتناحرة معه، دون أرضية سياسية واضحة وصلبة، ودون مشروع ذو جرأة وصراحة، فهو استمرار في اللعبة القاتلة ذاتها. لا شك أن الحديث عن المعارضة وقصورها وعجزها وقلّة كياسة غالبية أعضائها البارزين قد بات مملاً ومكروراً، لكن لا مفرّ من مواجهة هذا الواقع بالوسائل المتاحة، وإن كانت بدورها مملّة. لا بدّ من عمل جماعي، على مستوى فاعلي الشأن العام جميعاً، من مثقفين وكتاب وصحافيين وناشطين، من أجل الضغط على سياسيي المعارضة السوريّة، ولا سيما خلال الأسابيع المقبلة. لا نريد منهم معجزات نعلم أنهم عاجزون عنها، فالحلول الكبرى للمسألة السوريّة في مجرّة أخرى بعيدة عن إمكانياتهم، لكن ممارسة السياسة، لا اللعب السياسوي الضيّق والمظلم، ليس بالمستحيل! أن يكون هناك جسم ائتلافي عريض، يمثل أكبر طيف ممكن من الرأي العام المنحاز للثورة، تجري ضمنه حياة سياسية مبنية على تفاعلات بين كيانات واضحة تُعبّر عن تباينات وخلافات واختلافات أطياف الرأي العام المعارض، تفاعلات تُنتج في النهاية خطاباً وازناً يتم تقديمه للسوريين وللعالم كمشروع بلد، ليس رابع المستحيلات، بل هو أخلاقياً أضعف الإيمان. هو احترام لعقول السوريين، كي لا نقول كلاماً مزاوداً عن احترام الدم والدمع والركام.
قد يبدو هذا الكلام طوباوياً وغير قابل للتطبيق، ومن المرجّح ألا يشعر فاعلو الشأن العام برغبة أو بدافع للعمل من أجله، لكن المرافعة عنه والدعوة إليه ضرورة: المنطق السياسوي الضيّق كارثة، لكنّ الترفّع عن «السياسة» بمعناها المباشر ليس حلاً، بل تعميق للأزمة الكبيرة، خاصةً مع ركود الأوضاع، المرشّح بقوّة للاستمرار لفترة طويلة.
لا للضجيج الأبكم!