إنه يوم الرابع والعشرين من حزيران عام 2011، جمعة «سقوط الشرعية» في مدينة دير الزور «الشامية»، يوم خرج عشرات الآلاف من أبنائها في مظاهرة سلمية حاشدة، وبعد مواجهات دامية مع قوات حفظ النظام وميليشيا ’اللجان الشعبية‘ اعتصمت الحشود في الساحة العامة، وهتف واحد من شبّان المدينة لأكثر من نصف ساعة، مقدّماً حزمة مطالب سياسية واضحة باللهجة المحلية، هتف لجميع المدن السورية المنتفضة، كما طالب، على نحو واضح يُفترض أن يسيل له لعاب «المدنية الديمقراطية»، بدستور جديد يوحّد السوريين، وبحرّيّة للأحزاب والإعلام، وبسحبِ قوات الجيش من المدن كي يتمكن الشعب السوري من مواصلة العيش.

بعد نحو ثلاثة أعوام، يقترب مقاتلو الأحياء الخارجة عن سلطة نظام الأسد في المدينة من مبايعة «خليفة المسلمين» الجديد، تحت قذائف مدفعية النظام السوري وغارات طائراته، وذلك بعد أن بايعته أغلب الكتائب والفصائل في ريف المدينة من جهاتها الأربع، ولا فرق بالنسبة للعالم إن كانت هذه بيعة المختار أم بيعة المحاصَر المغلوب على أمره، لأنه بهذه البيعة فقط تصبح الرواية كاملة: هؤلاء حفنة من الإرهابيين القادمين من صحراء القرون الوسطى، لا بأس أن يموتوا إذاً، ذلك لأنهم قد «فشلوا» في اختبار حُسن النوايا إزاء فكرة الدولة وفكرة الديمقراطية، و«فشلوا» في اختبار حسن النوايا إزاء بقية «مكوّنات الشعب السوري»، وإزاء نُخَبِه وتجّاره وسياسيّيه، وإزاء دول العالم «الحرّ».

على أن الحفاظ على الذاكرة يقتضي التوثيق والتأريخ، والوفاء للحقيقة يقتضي أن تُروى الحكاية كلها، حكاية ثلاثة أعوام من سقوط الشرعية، حكاية ثلاثة أعوام انقضت بين «الخروج» من عباءة طاغية «الأمة العربية» والمواجهة المباشرة، مع احتمال الدخول في عباءة طاغية «الأمة الإسلامية»، ولا شك أن آلاف الفيديوهات والأخبار العاجلة عن دير الزور خلال هذه الأعوام قد تكون كفيلة برواية الحكاية التراجيدية، لكنها ليست كفيلة بفهمها وتعلّم الدروس منها، ذلك أن الفهم والتعلم ليس رهناً بأحداث الرواية، لكنه رهن بلسان الراوي وأذن المستمع، ورهن بالأيدولوجيا والرغبات والمصالح.

بعد جمعة «سقوط الشرعية»، نفّذت قوات الأمن السورية مدعومةً بالجيش و’اللجان الشعبية‘ حملات اعتقال واسعة، ونشرت الحواجز وقطّعت أوصال المدينة وفصلت أحيائها، وأصبحت تُواجه المتظاهرين المتفرّقين في الأحياء بالرصاص الحيّ والاعتقال والتعذيب، وبالموت في أقبية السجون أيضاً. هكذا سقطت شرعية النظام السوري بتحوله إلى قوة احتلال، وبعجزه عن مواصلة الحكم إلا بالإرهاب المباشر للسكان، وهكذا بدأت أولى مجموعات ’الجيش الحرّ‘ بالظهور في الأحياء، واتجهت الأمور لتصبح على هذا النحو: أحياء خارج سلطة الدولة يتم حصارها وقصفها بشتى صنوف الأسلحة لإخضاع سكانها.

يتقدم تنظيم ’الدولة الإسلامية‘ الآن مستفيداً من مجمل الظروف التي أتاحها عنف النظام والحرب في العراق وضعف التنظيم والتسليح لدى كتائب الثوار في المدينة وريفها، ليفرض على ثوار المدينة حصاراً يستكمل حصار النظام ويوقعهم بين خيارات ثلاث: إما الاستسلام للنظام؛ أو مبايعة الخليفة؛ أو الموت عن بكرة أبيهم. وبعد أشهر طويلة من القتال الشرس ضدّ قوات النظام وضدّ قوات الخليفة في آن معاً، بدأت ترتفع رايات الخلافة على بعض المقرّات والأحياء في المدينة، لتكون إيذاناً بمرحلة جديدة من الصراع المفتوح بين الطغيان وإرادة الحياة.

ثلاثة أعوام مرّت على سقوط الشرعية، ومرّت فيها نقاشات ومقالات لا أول لها ولا آخر عن السلفية والطائفية والمؤامرات، ومرّت فيها هيئات وتجمعات ومجالس ومؤتمرات، لكن أحداً لم يملك الإرادة والأدوات المنهجية لرصد حقيقة ما كان يجري في أحياء المدينة الثائرة، هناك في أحياء الحويقة والرشدية والصناعة والموظفين والجورة والجبيلة، حيث يكتب السكان أساطيرهم، وحيث لقي مئات الأشخاص حتفهم، وواصل آخرون كفاحهم من أجل الحياة.

ثلاثة أعوام من سقوط شرعية كل شيء، ومن سقوط الرهانات والتوقعات والتحليلات، ثلاثة أعوام انتهت إلى تحطيم الحدود بين دير الزور والأنبار على يد أنصار الخلافة، وأفضت إلى نهاية الدولة السورية التي تأسّست كما نعرفها نظرياً عام 1930، نهايتها مشروعاً وكياناً سياسياً وخطاباً وحلماً، وانفتاح التاريخ على احتمالات وآفاق جديدة يبدو الجميع عاجزاً عن التكهّن بمآلاتها ونهايتها.

وحده ذلك الشابّ الذي كان يهتف في جمعة سقوط الشرعية لم تسقط شرعيته، لأنه لم يطالب بما طالب به تحت سقف شرعية الوطن التي انهارت على رؤوس الجميع، ولعل هذه كانت مشكلة العالم معه ومع ما يمثّل ومع من يمثّل. لم يَستَجدِ ذاك الشاب عطف الدولة السورية وعطاياها، بل كان يهدّد ويتوعّد إذا لم تتم تلبية مطالب المتظاهرين، كما أنه لم يتعهّد لأحد بأن يستسلم للموت برصاص جيش «الدولة الوطنية» إذا ما استمرّ الأخير باستهداف صدور أبناء مدينته. لقد كان واضحاً بأنه يريد عقداً اجتماعياً جديداً، لكنه وعد الجميع باستخدام الرصاص دفاعاً عن نفسه إذا ما استمرّ الموت والدَّوس «الوطني» على حيوات أبناء مدينته ومطامحهم بحياة أفضل.

لعل هذا الشاب –بما يمثّله لا بشخصه– قد يبايع اليوم دولة الخلافة إذا أيقن أنه لا خلاص من الموت إلا بمبايعتها أو بمصالحة نظام الأسد، لكن مبايعته تلك ليست سوى استكمال لرحلة سقوط الشرعية التي بدأت قبل ثلاثة أعوام، عجزت خلالها الوطنية السورية بكل عُدّتها من شعارات وتحالفات ومؤسّسات عن فتح أفق لحياة أفضل، كما عجزت عن سحق أبناء المدينة وتحطيمهم وإعادتهم إلى حظيرتها بالقوة.

لن يكون هذا آخر المطاف بدير الزور، التي قد يصير اسمها «ولاية الخير» بين ليلة وضحاها، ذلك أن الحرب لم تنتهِ، وأولئك الذين احتلوا الفضاء العام في المدينة قبل ثلاثة أعوام، مُعلِنين عصيانهم لنظام الأسد، لا يزالون على قيد الحياة، ولا أحد يعلم إذا كانوا سيستسلمون اليوم لطغيان دولة الخليفة، أو إذا كانوا على موعد مع معركة كبيرة مع قوات النظام، أو على موعد مع غارات أممية تستهدف ضرب «الإرهاب»، لكن المؤكد أن دير الزور ستكون، يوماً ما، على موعد مرة أخرى مع سقوط الشرعية، أعني شرعية «دولة الخلافة».