وراء المنبع السائد للطائفية في سوريا، نظام سياسي قائم على تمييز أكيد بين السوريين وفق منابتهم الأهلية في الدولة العامة؛ منبعٌ آخر، متنحٍّ، يتمثل في الموقع المهيمن للعقيدة السّنّيّة ولمديري أجهزتها وممارساتها ورموزها في الحياة الدينية في البلد. تقع «سلطة تعريف الإسلام» بأيدي سنّيّين سوريين، وهم يرثون من الدولة السلطانية القديمة أوضاعاً حاجبة لتصوّرات أخرى للإسلام، أو للدين والحياة الدينية عموماً. وفي الدولة الوطنية المعاصرة تُخفي هذه الأوضاع الموروثة حقيقة أن السّنّيّين «طائفة» من السوريين، ومن المسلمين السوريين. في ذلك ما يحاكي احتكار النظام سلطة تعريف الوطنية، وتوجيهها نحو حجب الأوضاع والممارسات المتصلة بصفته الطائفية. وكنت استندت إلى مفهوم «سلطة تعريف الإسلام»، المستعار من باحث نرويجي، تورستن شيوتز وورن، ألّف كتيباً عن الهوية العلوية بعنوان Fear and resistance: the construction of Alawi identity in Syria، وذلك في بحث قبل سنوات عن «الطائفية والسياسة في سورية» (كتاب نواصب وروافض: منازعات السنة والشيعة في العالم الإسلامي اليوم، من تحرير حازم صاغية 2009)، استندت إليه للقول إن هذه السلطة الخطابية تقمع تصورات أخرى للإسلام، وتمنع ظهورها في الفضاء العام. «هنا ثمة طائفة مُتَيَنْيِنة وغير مشعور بها فعلاً… لكن هذا لا يجعلها طائفية أقل».

أصول الهيمنة السّنّيّة

ليس هناك اليوم مؤسّسة سنّيّة عامّة ومستقلّة تقرّر أنّ الإسلام السّنّيّ هو وحده الإسلام وتنفي غيره، أو تثبت الأمور على هذه الشاكلة، وتتحكم بعمليات إعادة إنتاج ذاتها. فكيف استقرّ الأمر على هذا النحو في البلد الذي تحكمه الأسرة الأسدية منذ 44 عاماً؟

من المحتمل أنه تلاقت هنا ثلاثة أوضاع.

1) أولها أن النخب التي هيمنت في الحياة السياسية والثقافية السورية، منذ تكوّن الكيان السوري الحديث بعد الحرب العالمية الأولى إلى الحكم البعثي 1963 مروراً بسنوات الاستقلال التأسيسية، هي نخب سنّيّة المنابت، ضعيفة الحساسية حيال أوضاع غير عادلة، إن لم تكن تجني منها فوائد سياسية فليست هي المتضرّرة منها.

ولعله حدّ من فُرَص استشكال الأمر حينها، واليوم، واقع أن السّنّيّين يشكلون أكثرية كبيرة من السوريين، كانت تقارب ثلثي السكان (قدّرتها بعض المصادر بأزيد من 70% قبل الثورة)

إلى ذلك، كان يبدو أن حضور الدين ككل في الحياة العامة في تراجع بين بدء تشكل الكيان السوري عام 1918 والانقلاب البعثي عام 1963. وُلدت الدولة الوطنية السورية في سياق صراع مع العثمانيين المسلمين، وطوال نحو جيلين كان يخفّ وزن الدين، الإسلام وغيره، في حياة السوريين العامة والخاصة، بينما تصعد أيديولوجيات علمانية وأدوار اجتماعية وسياسية معاصرة، بالتوازي مع تحسّن مستوى التعليم والصحّة العامة ومتوسّط دخل الفرد، وامتداد سلطان الدولة ليغطّي كل البقاع الترابية للبلد، وينظّم مجالات أوسع لحياة السكان. وحين ألغيت أنصبة الطوائف الإسلامية في البرلمان على يد حسني الزعيم عام 1949 (دون مساس بالنصيب المسيحي)، كان صعود العروبة وتراجع دور الدين في الخلفية التاريخية. وكان يبدو أن العروبة هي الإطار الذي تجد فيه أية مشكلات متولدّة عن التمايزات الإسلامية الموروثة الحلّ. الإسلام ليس حلاً لهذه المشكلات التي تولّدت أصلاً منه وفي إطاره. وبجوار العروبة كانت هناك عقائد شيوعية وقومية أخرى، تشارك العروبة في «العلمانية»، وفي انخفاض دور الدين في تصوراتها للمجتمع والدولة والمستقبل. تحت تأثير هذا الواقع لم يكد ينشغل أحد حينها بوضع السلطة الدينية الإسلامية المهيمِن. فمن يبالي بما كان يبدو آيلاً إلى مزيد من الهامشية وضعف التأثير؟

وفي سنوات ما قبل الحكم البعثي تلك، تشكل نظام التعليم وتقرّرت قوانين الأحوال الشخصية وتحدّد شكل ظهور الدين في الفضاء العام، والأعياد الدينية المقرّرة.

2) الوضع الثاني أن النخب السّنّيّة المهيمنة في سنوات التكوين هي نفسها وريثة أوضاع تاريخية، عمرها بالقرون، يشغل الإسلام السّنّيّ فيها موقع الدين العام، بينما تنزوي الجماعات الإسلامية الأخرى بعيداً عن المركز، سياسياً وجغرافياً. في زمن السلطنة، كانت هذه الجماعات تلتئم في نطاقاتها الخاصة حول عقائدها، لكنها غير مرئية وغير موجودة في الحياة العامة. هذا الواقع انتقل بتمامه تقريباً إلى الدولة الوطنية الحديثة. لقد جرى تحوّل سياسي من السلطنة إلى الدولة الوطنية، لكن لم تجرِ قطيعة مع التنظيمات السلطانية والهيمنات الواسمة لها. ولم تُبذل غير جهود محدودة لإعادة ترتيب العلاقة بين الدين والدولة على نحو يُتيح لسكان مختلفي المنابت المشاركة في الحياة العامة بوصفهم جماعات تأسيسية متساوية. الأرجح أن نخب الحكم، وهي منحدرة من بيئات مدينية سنّيّة، وجدت في هذه الاستمرار ما يلبّي نوازعها إلى السيطرة السياسية في الدولة الجديدة. في كل حال، موارد الماضي لا تستمرّ من تلقاء ذاتها، تستمرّ لأنها تتمفصل مع أوضاع اليوم وتلبّي حاجات جديدة وتقوم بوظائف جديدة. ولذلك، فإن تحليل أوضاع الحاضر هو ما يُتيح لنا فهم استمراريات الماضي المحتملة، وليس العكس.

وفي سنوات الانتداب الفرنسي ركّزت النخب السياسية الوطنية على الجامع الوطني العام والرابطة العربية بغرض الحدّ من قدرة المحتلين على التلاعب بالتمايزات الموروثة، لكن لم تجرِ معالجة فعّالة للأمر. بل إن زمن الاستعمار الفرنسي دفع إلى كبت التمايزات الإسلامية لمصلحة ما يفترض أنه الإسلام الجامع. من ذلك مثلاً عمل شكيب أرسلان، الذي اهتم في الحقبة الاستعمارية بتأخر المسلمين عن غيرهم، لا بتساوي الحريات والحقوق بين المسلمين المفترضين، المنقسمين إلى مجموعات منعزلة عن بعضها. ومنه على نحو مغاير تفكير ميشيل عفلق في الإسلام كرسالة للعرب. كان افتراض وحدة العرب وواحدية الرسالة يحكم بالتعذّر على التفكير في تعدد الإسلام ذاته.

وفي المحصلة، لم يجر الاعتراف بالمذاهب الأخرى، ولم تُعتمد سياسة اجتماعية نشطة في سنوات ما بعد الاستقلال لتحسين أوضاع الجماعات المهمشة.

3) أما الوضع الثالث فيتصل بالطابع السِرّاني أو «الباطني» للتعاليم الدينية لكل من العلويين والدروز. أما الإسماعيليون فليس لديهم كتاب تعاليم خاصة مستور، لكن لديهم تأويل رمزي مغاير للتعاليم الإسلامية الشيعية، وهذه بدورها تعتمد تأويلات رمزية مغايرة للمتن النصّي الإسلامي، ولها «أحاديثها الشريفة» الخاصة. ومع الإسماعيليين تُشكل هذه المجموعات الإسلامية الثلاثة نحو 16% من سكان سوريا. وليس لدى القيادات الدينية لهذه المجموعات دافع للمطالبة بتعليم عقائدها بسبب طابعها السِرّي الذي تكوّن في أزمنة قديمة كانت العقائد محارَبة أثناءها، ويُعتقد أن جوانب من هذه المذاهب موجّهة بقوة ضد التأويل السّنّيّ للإسلام. ومديروها العقديون في حرج من حيث أنهم لا يستطيعون الاعتراض على تعليم منسوبي عقائدهم العقيدة السّنّيّة، لكن دون أن يدعوا إلى تعليمهم عقائدهم الخاصة التي يبدو أنه لا يجري تعليمها للصغار أصلاً. وبحدود علمي لم يدعُ الرؤساء الدينيون لهذه المجموعات إلى عدم تعليم الدين أصلاً في المدارس العامة.

وكانت نسبة الشيعة الإثني عشرية بين السوريين (قبل ظاهرة التشيّع في العقدين الماضيين) من مرتبة دون 1%، وعقيدتهم ليست محجوبة عن العموم. ولم تُعرف عنهم دعوة إلى تعليم التأويل الشيعي للإسلام في المدارس العامة. لكن من المحتمل جداً أن ذلك كان يجري في النطاقات الدينية الخاصة بهم.

أما المسيحيون فهم جماعة دينية معترف بها وطنياً وإسلامياً، ويتعلم أبناؤها دينهم في المدارس العامة منذ الاستقلال وقبله. ولعل الاحتلال الفرنسي، وقد كانت حماية المسيحيين من ذرائعه، قد دفع النخب الوطنية إلى إبداء اهتمام خاص بتمثيل المسيحيين في الحياة العامة، وربما لذلك حوفظ على الحصة المسيحية في البرلمان عام 1949 وقت ألغيت حصص الطوائف الإسلامية. ثم ألغيت الحصص كلها حين ألغيت الحياة البرلمانية والسياسة ذاتها، والمجتمع أيضاً، في الزمن البعثي.

طائفة عامة!

وفي المحصلة يتعلم الأطفال السوريون غير المسيحيين تعليماً إسلامياً سنّيّاً، وقوانين الأحوال الشخصية إسلامية سنّيّة للعلويين والإسماعيليين والشيعة (للدروز أحوالهم الشخصية الخاصة)، الاحتفالات الدينية الإسلامية التي تبثّها وسائل الإعلام تجري وفق المعتقد السّنّيّ، ويؤدّي رئيس الدولة، بما في ذلك حافظ الأسد ووريثه بشار، الصلاة في مساجد إسلامية سنّيّة ووفقاً للطقوس السّنّيّة. والأعياد الدينيّة المعترف بها هي عيدا الفطر والأضحى، وهي أعياد إسلامية عامّة، وبدرجة أقلّ عيد المولد النبوي، فضلاً عن أعياد مسيحية. وليس هناك أعياد عامّة معترف بها للجماعات الإسلامية الأخرى.

عملياً، يضع هذا الشرط من يعرِّفون أنفسهم بالمعتقد السّنّيّ القويم في موقع الطائفة العامة دينياً. وهذا بالطبع مفهوم متناقض، بل متفجّر، ويبدو أن الأوضاع التي يمثّلها تتسبّب في استلاب على مستوى الهوية والاعتقاد للجماعات الإسلامية الأخرى. وهو لا يقلّ تأثيراً عن إشغال العلويين الموالين للنظام الأسدي موقع الطائفة العامّة سياسياً (إشغال الموقع المقرِّر في السلطة العمومية)، ومن الواضح أن تفجّر البلد اليوم يتصل بهذا الواقع المتناقض.

4) ولعل وضعاً رابعاً يسهم في تثبيت الأمور على ذلك النحو، يضاف إلى 1/ الصفة الأكثرية للسنّيّين؛ و2/ الاستمرارية التاريخية للهيمنة السّنّيّة رغم التحول من الدولة السلطانية إلى الدولة الوطنية الحديثة؛ و3/ سِرّانية عقائد المجموعات الإسلامية الأخرى؛ ويتمثل هذا الوضع 4/ في حقيقة أن الموقع السّنّيّ المهيمن لا يهيمن على ذاته اليوم ولا يتحكم بإعادة إنتاج ذاته؛ أنه مندرج اليوم ومنذ عقود في خطط السياسة والسلطة، وأن من شأن الكلام على السلطة الدينية السّنّيّة أن يفتح الباب لنقاش حول النظام السياسي وعلاقات السلطة وتكوّنها، وحول موقع الطائفية والطوائف في عملية إعادة إنتاج النظام لذاته. ولا يبدو أن أحداً مستعدّ جدّيّاً لنقاش حول الدين والدولة وسلطتيهما. التهرّب والمرواغة سيّدا الموقف في هذا الشأن.

لتقريب الفرق بين السلطتين الدينية والسياسية في الزمن الأسدي، يكفي أن نفكّر في الفارق بين مصير من قد يطعن في الإسلام أو يجدِّف علناً، وبين من يطعن في النظام ويشتم حافظ أو بشار الأسد مثلاً. لم تُعرف واقعة واحدة في تاريخ سوريا الأسدي عن شخص تعرّض لمساءلة أمنية أو قانونية بسبب الكفر أو التجديف، أما أقرب شيء إلى مصير من قد يُحقِّر رئيس النظام علنا فهو مصير من يشتم الدين علناً في «دولة» داعش اليوم (أو ينتقد داعش نفسها).

تحاصص طائفي سلطاني

لم يقم النظام في أي وقت بأي شيء للمساس بواقع الهيمنة الدّينيّة السّنّيّة. في العهد البعثي والأسدي وُجد في هذا الضرب من التحاصص الطائفي ما يحمي استئثار السلالة الأسدية بالسلطة العمومية. يفضل «الحكم السلطاني المحدّث»، بالأحرى، أن يستأثر رجال دين سنّيّون بسلطة تعريف الإسلام من باب أن تكون لهم سلطة ما تقطع الطريق على مطالبات أوسع، ومن أجل أن يستفيد مما تثيره هذه الهيمنة من مخاوف الجماعات الدينية والمذهبية الأخرى، ما يجعل منه حكماً أعلى بين متخاصمين أهليين؛ وكذلك بغرض أن يشدّ عصب الركيزة الأهلية لحكمه السلطاني ضدّ هذا الحضور السّنّيّ المنتشر. تتوارى جهات النظام المقرِّرة وراء الهيمنة السّنّيّة الرمزية ليس فقط للقول إنها لا تستطيع تغيير شيء في هذا الشأن، وإنما للإيحاء أنها هي ذاتها مغلوبة على أمرها، ولإعطاء انطباع بأن للنظام طابعاً تعددياً. إنتاج هذه الإيديولوجية وظيفة أساسية لـ«الدولة الباطنة» وعمادها المخابرات، الجهاز الأكثر طائفيةً في النظام، كما هو وظيفة لمثقفي «الدولة الباطنة» العضويين.

على هذه الشاكلة تخفي الدولة الباطنة طائفيتها البنيوية وراء البنية الطائفية للمؤسّسة السّنّيّة التابعة لها.

صحيح أن النظام الأسدي ورث الهيمنة السّنّيّة من الدولة الاستقلالية وسنوات التكوين، وقبلهما من الدولة السلطانية، إلا أن هذه الهيمنة تشتغل اليوم في سياق مختلف، موقعها في الدولة ثانوي، ووظائفها تابعة لإعادة إنتاج نظام طائفي لا استقلال لها فيه، وهي منفصلة بصورة حاسمة عن السيطرة السياسة وسلطة القرار. لذلك نتكلم على دولة سلطانية محدثة، تستفيد من أدوات الدولة السلطانية التقليدية، لكنها تسخّرها لتشريع نفسها وضمان دوامها.

ومثل نظيره القديم، يقوم الحكم السلطاني المحدث بـ«حراسة الدين». وبين وجهي الحراسة، على نحو ما حلّلهما محمد عابد الجابري، تتفوّق الرقابة على الدين على رعايته، أو لنقل إننا حيال رعاية استتباعية، تضع الدين وأهله تحت إبط الحاكمين.

ومن جهتها لا تستغني المؤسّسة الدّينيّة الرّسميّة عن هذه الهيمنة الرمزية، من أجل امتصاص ضغوط يُحتمل أن تتعرض لها من متديّنين سنّيّين أكثر تشدّداً. ولعلها في الوقت نفسه تستند إلى هذه الضغوط من أجل توسيع هامش مناورتها حيال النظام وأجهزته وإحراز قدر من الاستقلال الذاتي. لا يتعلق الأمر بأداة سلبية خاضعة، ولا أيضا بعلاقة ثقة منظّمة بين جهتين تحترمان بعضهما، بل بعلاقة مركّبة بين طرفين تمتزج فيها المصلحة بالرهبة بالخبث بالتقدير الواقعي للأوضاع القائمة. فإذا زال النظام الأسدي بطريقة ما، لن يَعدم مديرو الأجهزة السّنّيّة روايات غير ملفّقة تماماً عن دفاعهم عن مصالح «المسلمين».

وما حصل غير مرّة في السنوات السابقة للثورة من تدخّل أجهزة دينيّة سنّيّة، كالمؤسسة الرسمية أو البوطي أو مشايخ آخرين، عند النظام من أجل حظر كتيّب الإيرانية شاهدورت جافان «فيلنزع الحجاب» عام 2008، أو وقف عرض مسرحية سعد الله ونّوس «طقوس الإشارات والتحولات» في حلب عام 2009 بذريعة أن فيها «إساءة ومساساً بحق القيم والرموز الدينية»، أو مشروع قانون الأحوال الشخصية الرجعي جداً عام 2009 أيضاً (معادٍ للنساء، وكان يتكلم على ذِمّيّين)، يُحيل إلى الغرائز الحقيقية لتلك الأجهزة، وإلى استعداد ميسور من قبل النظام لتلبية طلباتها الموجهة ضد المجتمع، والتي تثبت النظام في الوقت نفسه كحَكَم أعلى يحول دون مزيد من تجاوز الأجهزة الدينية على المجتمع، ومزيد من تمرّد المجتمع عليها وعليه.

في أيام ربيع دمشق 2001، أعلن شيخ أحد مساجد مدينة طرطوس الساحلية أن مفهوم المجتمع المدني قائم على الزواج المدني، المرفوض طبعاً، هذا حين كان وزير إعلام النظام حينها عدنان عمران يقول إن المفهوم نفسه أميركي بغرض اتهام متداولي المفهوم السوريين بالعمالة للأميركيين. التفاهم بين السلطتين يبلغ حدّه الأعظمي في مواجهة الأنشطة التحرّرية المستقلة.

تُظهر هذه الأمثلة الطابع المركّب للعلاقة بين السلطتين، وعلى هامش مبادرة متفاوتة السعة للسلطة الدينية في القضايا التي لا تمسّ سلطة النظام. لا جدال في تبعية السلطة الدينية للسلطة السياسية، وفي أن اليد العليا للأخيرة، لكن السلطة الدينية ليست محض ألعوبة بيد النظام. وعموماً كانت تجري عملية تسديد الحسابات بين الطرفين على حساب المجتمع، وفي بعض الحالات على حساب الأجهزة السّنّيّة (إلغاء مشروع قانون الأحوال الشخصية عام 2009)، لكن ليس أبداً على حساب النظام.

أصول صمت عام

لم يعرف تاريخ سورية نقاشاً عاماً فعلياً حول المسألة، ولا حتى من نخب علمانية، سواءً كانت منحدرة من البيئات السّنّيّة أو من بيئات الجماعات الإسلامية الأصغر، ولا من أي سياسيين أو رجال دين.

لم يشعر أي رجال دين سنّيّين بضرورة تغيير واقع امتلاك سنّيّين لسلطة تعريف الإسلام، لأنهم ورثوا من الأزمنة السلطانية اعتبار التأويل السّنّيّ الموروث للإسلام هو الإسلام، ولأن هذه الوراثة تسوّغ لهم إشغال موقع مديري الدين العام، وليس مجرد موقع الرؤساء الدينيين لطائفة مثل غيرها. سبق القول إنه لم تجر مراجعة ذات شأن لوضع الدين وتعاليمه وفق واقع الدولة الوطنية الحديثة. ولم يعرف تاريخنا المعاصر، وليس لبلدنا تاريخ غير معاصر، نقاشاً قانونياً أو سياسياً أو مساهمات فكرية تُذكر حول الأمر. في الواقع، جرت مراجعات معاكسة في اتجاه يستدرك على واقع الدولة الوطنية ويعمل على استرجاع الإمبراطورية. مشاريع الإسلاميين عموماً، حتى حين لا تتكلم مثل ’حزب التحرير الإسلامي‘ على إحياء الخلافة، مسكونة بالعودة إلى الإمبراطورية، وذلك تحت اسم الأمة الإسلامية. شجّع على ذلك أن دولنا الوطنية القائمة منقوصة السيادة، لا تستطيع الحرب، وأقل استطاعةً لإنتاج معنى عام لوجودها ذاته. ولعله شجّع على ذلك أيضاً تلك الهيمنة الدينية السّنّيّة نفسها، التي إن كانت تعمل لمصحلة النظام اليوم، فإن استمرارها يصلح أرضيةً لمطالبات مقبلة بالسلطة السياسية من أجل تحقيق الماهية الإسلامية للأمة.

ومن المستغرب أنه حتى المثقفون الذي يدعون إلى العلمنة الشاملة لا يكاد يكون لهم قول في علمنة التعليم مثلاً، ووجوب إحالة التعليم الديني إلى مدارس أو دور عبادة خاصة. الحل الآخر، وهو تعليم المعتقدات الدينية كلها للراغبين، لم يجرِ التفكير فيه لاعتبارات سبقت الإشارة إليها.

غريب بالقدر نفسه أنه لم يُسمع من «العلمانيين» قول في شأن إتاحة التعاليم المحجوبة للجمهور العام، أو وجوب إشهارها ونشرها، وإتاحة فرص لعموم السوريين لمناقشة الأمر والتفكير فيه. تاريخ سوريا لا يذكر واقعة مؤكدة واحدة منسوبة إلى مثقف أو سياسي أو حزب سياسي في هذا الشأن. على أن من المحتمل أن الأمر أثير في وقت ما بين 1966 و1970، وقت صعود نخب منحدرة من جماعات إسلامية أصغر إلى مواقع قرار في الحكم، وقبل أن يُحسم الأمر لمصلحة منحدرين من الوسط العلوي. ويبدو، حسب سامي الجندي، أنه اقتُرح على صلاح جديد أن ينشر للعلن كتاب المذهب العلوي، لكن ينسب إليه القول: وهل تريدون أن يسحقنا مشايخ الطائفة؟

ولعل الأصل في صمت «العلمانيين» على «السِرّانية» هو تثبُّت إشكاليتهم على دور الإسلام السّنّيّ حصراً في الحياة العامة، دون مناقشة لِلبُنْيَة التي يعمل فيها، والوظائف التي تقوم بها السلطة الدينية في الواقع العياني السوري. وهذا المنظور الجامد، قبل أن يحرم الدعاة العلمانيين من قول شيء مفيد فعلاً عن الأوضاع السورية، وأكثر من أنه وضع الكبار منهم والصغار في مواقع أقرب إلى النظام في مواجهة حتى غير الإسلاميين من خصومه (عزيز العظمة، جورج طرابيشي، أدونيس…) فإنه أيضاً سهّل على الدوام استخدام العلمانية ترنيمةً لراحة الضمير الطائفي، حتى صار يكفي تقريباً ألا يكون المرء مسلماً سنّيّاً حتى يكون علمانياً. هذا مسلك غير مسؤول، يسوّغ القول إن العلمانية السورية لم تمتنع فقط عن نصب حواجز في وجه الطائفية، ومنبعها السائد بخاصة، وإنما كانت سهلة التوظيف لتعزيز الطائفية والحرب الطائفية الباردة في المجتمع السوري.

فوق ذلك تعاني العلمانية السورية، والعربية، من كونها مشدودة العيون والقلب إلى السياسة العليا، الدولة ومركز السلطة، وإلى التدين الأعلى إن جاز التعبير، أعني «الإسلام السياسي» و«الأصولية»، وليس إلى المجتمع وأوضاع السكان وأنماط الحياة، لذلك لا يكاد يكون لها قول في التعليم أيضاً، وفي قوانين الأحوال الشخصية، وفي الزواج المدني، وفي السلوك والخيارات الشخصية للدعاة العلمانيين أنفسهم. ظلت العلمانية في سوريا سردية كبرى، تعوِّل على خلاص حاسم، وليس انخراطاً شخصياً في الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي بين الناس ومعهم.

سلطتان، ومعارضتان أيضاً!

ولعل ما جعل أمر الهيمنة السّنّيّة أعصى على التناول، واقع أن «الإسلام» (السّنّيّ، طبعاً) أخذ يتطلع إلى لعب دور عام أكبر في سنوات الحكم البعثي، التي يفترض أنه تحققت فيها قفزة في خروج الدين من الحياة العامة. كان الدور العام للدين، السياسي والثقافي والاجتماعي، إلى تراجع فعلاً في سنوات حكم النخب التقليدية ذات المنابت السّنّيّة، بينما تنامى هذا الدور وصار منازعاً على السلطة العمومية في سنوات الحكم البعثي. وقد يكون الأصل في ذلك أن النظام الجديد صادر السياسة، فتسبّب عبر ذلك في إطلاق محاولات الاستحواذ على السياسة عبر الدين، وفي تجذّر الدين وتطلعه إلى الاستيلاء على الدولة التي انقلبت هي ذاتها إلى جهاز للاستيلاء على المجتمع بعد أن تحقق الاستيلاء على السلطة.

هذا التطلّع إلى دور سيادي (لا سياسي فقط) يميّز ما سيسمى في عقود لاحقة «الإسلام السياسي»، وليس الجهاز الديني الرسمي. بل إن اللامساس بوضع مديري الاعتقاد السّنّيّ، كحائزين لسلطة تعريف الإسلام، يبدو موجها أساساً ضد «الإسلام السياسي»، وبغرض صدّ الضغوط القادمة من جهته، أكثر مما هو موجه ضد الجماعات الإسلامية الأخرى. بعبارة أخرى، يحوز الإسلام السّنّيّ سلطة عامة على مستوى الدين، كثمن مدفوع لمنعه من ينضم إلى «الإسلام السياسي»، أو يطالب لنفسه بنصيب أكبر من السلطة السياسية. وهو ما يعني أن النظام وجد من المناسب أن يدفع لمديري الاعتقاد السّنّيّ من الجيب العقدي للجماعات الإسلامية الأصغر، بغرض أن يستطيع وضع الجميع في جيبه السياسي.

في الوقت نفسه، عمل النظام على استقطاب نخب هذه الجماعات إلى صفّه، أو على الأقل ضدّ تطلّع نخب سنّيّة إلى تغيير النظام السياسي. وبعد أن كانت الأنصبة الطائفية قد أُلغيت، وآخرها النصيب المسيحي، أُعيد بناء نظام الحصص على كل المستويات، لكن من وراء ستار: حصص على مستوى حزب البعث، على مستوى الوزارات، وعلى مستوى مجلس الشعب، لكن لا حصة لأحد على مستوى السلطة العليا المقررة و«الدولة الباطنة». القرار هنا عائلي، وركيزته المُثبِّتة طائفية.

لدينا في سنوات الحكم الأسدي وضع غريب: جماعة مهيمنة دينياً على غيرها، السّنّيّون، يثير وضعها كطائفة عامة انفعالات سلبية، لكن لا يكاد يجري نقاش عام في الأمر. وهذا رغم انتشار نوع من «الأدب» غير الودّي حيال الإسلام السّنّيّ، إن لم نقل المعادي له، من قبل مثقفي الدولة الباطنة العضويين. نبيل فياض علم من أعلام هذا الأدب، لكن منتجي أدب التَّوتير الاجتماعي ومتداوليه كثيرون جداً في العقدين الماضيين. وتقديري أن هذا الأدب تولّد بالضبط عن رفض فتح نقاش نزيه، يتطرق إلى الجذور التاريخية والوظائف السياسية لوضع الهيمنة السّنّيّة. بدلاً منه انتشر منطق التعريض والكراهية، والمواربة الطائفية، من وراء أقنعة علمانية أو حداثية كاذبة. ولم يكن يصعب على السوري المهتم بالشؤون العامة في سنوات ما قبل الثورة تبيّن حالة من الحرب الدينية والطائفية الباردة، والعداوات والاحتقار الشديد، تتصل تحديداً بوضع الطائفة العامة على الصعيد الديني، لكن دون نقاش عام جدي، يتقصّى أصول هذا الوضع وتجسّداته البنيوية ووظائفه السياسية.

في واقع الأمر، كما لدينا سلطتان في «سوريا الأسد»، سلطة سياسية وسلطة دينية، لدينا معارضتان: معارضة للسلطة السياسية ومعارضة للسلطة الدينية. قد نجد معارضين للسلطة الدينية لا يعارضون السلطة السياسية، أو قد يكونون على ولاء شديد لها، بصورة خاص لـ«الدولة الباطنة»؛ ونجد بالمقابل معارضين للسلطة السياسية ليسوا معارضين للسلطة الدينية. يسهل عليهم الأمر أن السلطة الدينية في موقع مسوّد فعلاً، وأن غير قليل من التنديد بها في السياق السوري العياني موجه نحو تبرير النظام أو إثارة حرب باردة في المجتمع. هذا دون قول شيء عمن يعارضون السلطة السياسية، ويدعون إلى أن تكون السلطة السياسية للإسلام السّنّيّ والجماعات المتكلّمة باسمه.

من الدولة السلطانية إلى الدولة الوطنية

بيد أننا تعلّمنا من مسار الثورة خلال أكثر من ثلاث سنوات، هذا إن لم نكن تعلمنا من صراعات سابقة، أن المشكلات الاجتماعية ربما تهجع لبعض الوقت، لكنها ستتفجّر يوماً من كل بدّ. قد يكون النظام مستفيداً من ضرب التحاصص الطائفي القائم في سوريا، بل هو كذلك فعلاً، لكنه لم يخلق وضع الطائفة السّنّيّة العامة أولاً، وليس زواله المرغوب مما يطوي هذا الصفحة ثانياً. هذا يوجب العمل على مسألة سلطة تعريف الإسلام كمسألة مستقلة، وعدم مجاملة العتوّ السّنّيّ المتولد عن امتلاك مديد لهذه السلطة، ومقاومة الشوفينية السّنّيّة التي تحوّل واقعة صحيحة محدّدة تاريخياً واجتماعياً (واقعة أن «السّنّيّين السوريين ليسوا طائفة») إلى فكرة خطرة وخاطئة معاً: «السّنّيّون هم الأمة»؛ وهو ما يحكم على الجماعات الأخرى بموقع ثانوي، أو بأن تكون «كمالة عدد». بل إن ما يترتب منطقياً على عقيدة أن السّنّيّين هم الأمة هو وجوب تسنين الجماعات الأخرى أو إبادتها. قد تحول السياسة دون ذلك اليوم، لكن السياسة متغيرة، وفي وقت آخر قد تكون هي ما تقضي بذلك.

في مواجهة هذا الوضع يلزم القول بوضوح إن السّنّيّين ليسوا الأمة؛ إن الجماعات الدينية والمذهبية والإثنية السورية متساوية تأسيسياً كشركاء في الكيان السوري الحديث الذي لما يبلغ قرناً من العمر، وإن العدالة والكرامة الوطنية تقتضيان أن يكون التعليم الديني اختيارياً، لا يُفرض على الجميع، أو من الأفضل أن يحال التعليم الديني إلى النطاق الخاص. وكذلك أن يصير الزواج عقداً مدنياً، دون المساس بحق أي كان في الزواج الديني. من يرجّح أن يعترض بأعلى صوت على قانون للزواج المدني هو الأجهزة السّنّيّة، على ما يشهد المثال اللبناني. ما يعوق اختلاطاً أكبر بين سوريين مختلفي المنابت هو، غير النظام الأسدي ونهج «فرّق تسُدْ» الذي يعتمده، الغرور السّنّيّ الموروث من الأزمنة السلطانية. هذا شيء يحجبه اليوم النظام الأسدي، لكنه سابق للنظام، ولا يتغير بمجرد تغيره.

التحول نحو دولة وطنية ذات معنى عام يوجب أيضاً ألا يُظهر رئيس الدولة أفعاله الدينية المحتملة في الفضاء العام، وألا تقوم أية وسائل تواصل عامة بعرضها وبثّها. مبدأ الدولة الوطنية وعقيدتها هي المساواة بين سكانها، ونقل المعتقدات الدينية للفاعلين العامّين إلى النطاق الخاص. في واقع الأمر، لا يمثل هذا المسلك، أي النقل العام لصلاة رئيس الدولة، إساءة للسوريين فقط، وإنما هو إساءة للدين نفسه. ذلك أن طاغية يُجادَل في إنسانيته ووطنيته يجد في إظهار السلوك الديني، ووصف نفسه بالرئيس المؤمن، ما يساعد في حجب جرائمه، وربما ما يمنحها شرعية دينية.

من شأن طيّ صفحة هذا المسلك المِرائي أن يحوز مفعولاً تنظيفياً للسياسة وللدين معاً. وهو فيما نقدّر العلامة الأوثق على طيّ صفحة السلطانية وتنظيماتها.

نقاش عام، وأساساً فضاء عام

نفترض أن المسلك الصحيح حيال مشكلات واقعية هو قبل كل شيء إخراجها إلى العلن، والعمل على إثارة نقاش مفتوح حولها. ما يجعل مشكلاتنا معقدة ليس تكوينها ذاته، بل السكوت المزمن عليها، أو إثارة بعضها بغرض التشويش على بعضها الآخر.

لكن حتى إثارة نقاش نزيه لا تكفي، لسبب بسيط: ليس لدينا فضاء عام مفتوح، يربط بين عموم السكان وبين جهات القرار ليجري النقاش فيه ويكون له أثر عام. هناك انفصام بين نقاشاتنا وبين العام السياسي المحتكَر. النقاش في أوضاعنا الراهنة مجرّد جدال بين شخصين أو طرفين؛ ليس مؤسّسة عامة؛ ليس فعلاً اجتماعياً؛ وليس نشاطاً سياسياً. لذلك لا يزال صحيحاً ما كان صحيحاً: ينبغي كسر احتكار الفضاء العام، والتخلص من الصيغة السلطانية لتقاسمه (بعضه للدين وكله للدولة، ولا شيء منه لأي أفراد أو مجموعات مستقلة). ينبغي أيضاً الانتهاء من هذا الضرب الخاص المغشوش من العلمانية السلطانية، أي التقاسم الطائفي لكل من السلطة السياسية والسلطة الدينية، والانتهاء من النظام السلطاني المحدث ككل، من أجل تحقيق أي قدر من التراكم الوطني.

من الملحّ في الوقت نفسه كشف منابع التضليل والتشويش على أي نقاش عام جدّي. هناك جهاز واسع وفعّال من المثقفين العضويين للطوائف، للطائفتين العامّتين بصورة خاصة، وظيفتهم إثارة العداوات الطائفية ونشر أجواء من التوتّر وعدم الثقة، وهم يشاركون المخابرات في وضع المجتمع تحت الضغط، وإن اختلفت الوسائل. أضعف الإيمان عدم المشاركة في تعميم هذا الوباء الأخلاقي والسياسي، لكن من المهم أكثر توجيه طاقات أكبر نحو النظر في تكوين البلد وتاريخه ومنابع توتّراته وصراعاته، وأصول العنف في بُنيتنا الاجتماعية والثقافية والنفسية. من شأن هذا أن يهمّش مثقفي الطائفية العضويين الذين يعتاشون من بؤس الثقافة ونفاياتها، لكن من شأنه أيضاً أن يكون الردّ الثقافي الأكثر جدّيّةً على أزمتنا الوطنية الكبرى المتمادية.

في النقاش العام، وعبر إثارة المشكلات المعقدة ومقاومة السكوت عنها، نكوّن هويتنا كفاعلين عامّين مستقلين، يتمرّدون على منطق السلطانية الضمني: منطق أن نُستتبع لطوائفنا، وأن يقتصر نقاشنا على الحصص السياسية لهذه الطوائف، لا إلى توسيع مساحة عمل اللاطائفيين وتفكيرهم ومبادراتهم.

خلاصة وتقديرات

حاولت في هذه المقالة القول إن هناك منبعاً متنحّياً أو مسوّداً للطائفية، يتمثل في احتكار سنّيّين لسلطة تعريف الإسلام. أصول هذا المنبع تمتدّ إلى الأزمنة السلطانية، والتماهي المديد بين المذهب السّنّيّ وكل من الدولة والدين، وليس إلى أية مضامين خاصة بالمذهب السّنّيّ. اليوم، ليس هذا المنبع سيّد نفسه، إنه يشغل موقعاً تابعاً ضمن هياكل «الدولة السلطانية المحدثة» التي يشكل توريث الحكم ضمن السلالة الأسدية وجهَها السياسي الأبرز. لكن قلنا إنه ليس مضموناً أن يطوي التخلص من السلطانية الأسدية الاحتكارَ السّنّيَّ لسلطة تعريف الإسلام، وهو سابق للحكم الأسدي والبعثي. وليس مؤكداً بحال أن التخلص من وضع الطائفة العامة على مستوى الدين مرهون بالتخلص من وضع الطائفة العامة على مستوى الدولة. قد نحصل، إذا تخلصنا من النظام الأسدي، على تطابق بين وضع الطائفة العامة الدينية والطائفة العامة السياسية، كلتاهما سنّيّتان، بدل فتح الباب للتخلص من الواحدة والأخرى. عنصر الهيمنة الدينية السّنّيّة الذي ورثته الدولة الوطنية من الدولة السلطانية، وخَدَمَ بإخلاص في الدولة السلطانية المحدثة للسلالة الأسدية، يمكن أن يلعب دوراً في دولة أو دول جديدة. لكن غاية ما نحصل عليه من تحوّل هو التطابق بين وضع الطائفة العامة سياسياً ودينياً، والتهميش السياسي والديني لغير السّنّيّين، وليس بحال الخروج من الطائفية.

من المناسب التساؤل هنا عما إذا كانت الدولة السلطانية المحدثة طوراً وسيطاً بين الدولة السلطانية التقليدية التي تتطابق فيها السلطة السياسة والسلطة الدينية؛ وبين الدولة الوطنية المستقلة عن الأديان والتي يتطابق مفهومها مع المساواة القانونية والسياسية بين سكانها مختلفي المنابت. هل تكون العلمانية السلطانية القائمة على تحاصص طائفي مقنّن أو غير مقنّن (السلطة السياسة بيد والسلطة الدينية بيد مغايرة، مع هيمنة الأولى على الثانية، ومع تعريف كل منهما تعريفاً أهلياً)، طوراً يسبق علمانية وطنية؟ هذا منطق تطوّري يصعب الركون إليه، لكن يبدو أن الدولة السلطانية المحدثة تثير من الصراعات ما لا نرى حلاً عادلاً له خارج أفق المساواة بين سكان مختلفي العقائد، مع عزل العقائد عن التأثير في الدولة العامة.

على أننا اليوم في صراع مفتوح لا تُعلم نهاياته، وقد نكون جئنا متأخرين إلى موضوعنا، والواقع الذي وصفناه فوق في آخر أيامه، وسيتغير بعد حين، حاكماً على أقوالنا وتقديراتنا بالنفول. ربما يعمل الاحتلال الإيراني على فرض مطابقة معاكسة للمطابقة السياسية الدينية السّنّيّة: نشر التشيّع ليصبح أكثرياً وتوسيع القاعدة الاجتماعية الثقافية لنظام الواجهة الأسدي، بحيث يحتفظ بسلطة تعريف الوطنية، وتعزّزها سلطة تعريف الدين، على نحو يوفّر للنظام وأربابه أكثرية مناسبة، أو على الأقل يضاعف الحواجز القائمة سلفاً دون تشكل أية أكثرية.

في مواجهة هذا الاحتمال، وواقع السلطانية المحدثة، وواقع انقسام البلد ووقوعه تحت استعمارَين أحنبيين، إيران وداعش، قد يكون الردّ المناسب هو بناء حركة تحرّر وطنية جديدة، تجمع بين مقاومة المحتلّين الأجانب، الإيرانيين وأتباعهم وداعش وما شابهها، ومواجهة الطائفية في منابعها الدينية والسياسية؛ حركة تحرّر تعتبر السوريين على اختلاف منابتهم جماعات مؤسسة متساوية، وتعمل على جعل التعليم الديني اختيارياً، وتقاوم أية امتيازات دينية او طائفية في الدولة العامة.

الاعتراض على وضع طائفة عامة يقتضي الاعتراض على وضع أية طائفة عامة، والعمل على فصل قطاعات أوسع من السكان عن الأطر الطائفية لمصلحة أشكال من التضامن والتنظيم تقوم على الأخوة والثقة والمساواة.

لقد دخلنا زمن الصراعات الكبرى في كل حال. تحاصرنا أرتال مشكلاتنا التي لم نواجهها، ولا يبدو أن لنا نجاة بغير مواجهتها وشقّ دروبنا عبرها.